×

  رؤا

قسد وحرب الجبهات الثلاث

25/08/2024

مركز روج افا للدراسات الاستراتيجية

مركز روج افا للدراسات الاستراتيجية مؤسسة فكرية، سياسية مستقلة وغير ربحية؛ تمّ تأسيسه بناءً على ضروراتٍ تاريخية واستراتيجية معاصرة،

 

*مركز روج آفا للدراسات الاستراتيجية

مع مرور أكثر من عقد من الزمن على اندلاعها، تشهد الأزمة السورية إرهاصاتِ تشكُّلِ وضعٍ سياسيّ وأمنيّ جديدٍ؛ وذلك مع الانقلاب الدراماتيكي لموقف الدولة التركية تجاه التطبيع مع النظام السوري، والغياب المريب لإيران عن المشهد السياسي لهذه الأزمة بعد تلقّيها ضربات زلزلت عمق قيادتها رغم محاولاتها إظهار رباطة جأشها، بالإضافة إلى روسيا التي يبدو أنّ لها دورًا في كل من ذلك الانقلاب والغياب()، لهدفَين باتا واضحَين؛ أحدهما إنهاء الأزمة السورية لصالح النظام، وبالتالي؛ حسم جبهة شرق المتوسط، التي تقاتل فيها، لصالحها، الأمر الذي يمنحها قوة في جبهة أوكرانيا.

 أمّا الهدف الثاني فيتمثّل في السيطرة على ثروات شمال وشرق سوريا؛ لتحقيق مكاسب للاقتصاد الروسي الذي بات يئنّ بين مطرقة العقوبات الغربية وسندان الحرب مع أوكرانيا، وكذلك لتعويض تكاليف تدخّلها العسكري في سوريا، بالإضافة إلى فوائد أخرى؛ كتقويض النفوذ الأمريكي في المنطقة من خلال تركيا وإيران اللتَين تمتلكان هدفاً مشتركاً مع حزب البعث للقضاء على القضية الكردية وفقاً لأيديولوجياتها القوموية والطائفية.

     استناداً إلى ذلك؛ يمكن الجزم بتعرّض شمال وشرق سوريا لحرب هجينة تشكّلت بتلاقح أيديولوجيات متناقضة مع دوافع مشتركة لخمس قوىً تعاني من أزمات داخلية (تركيا وروسيا وإيران والنظام السوري وتنظيم داعش)، هذه القوى تجد في كل من الإدارة الذاتية لمجتمعات شمال وشرق سوريا وقوات سوريا الديمقراطية (قسد) سببًا لمعاناتها وعنوان فشل مشاريعها الأيديولوجية الخاصة بشمال سوريا، لذا؛ فقد بات واضحاً أنّ تقويض الإدارة الذاتية والقضاء على قوات سوريا الديمقراطية يُعدُّ هدفاً مشتركاً لهذه القوى الخمس، بالتوازي مع ذلك؛ تسعى جميعها للسيطرة على ثروات المنطقة، وكلّ طرف يطمع في السيطرة الكاملة عليها أو على الأقل الاستحواذ على أكبر نسبة يمكن الهيمنة عليها؛ وذلك بهدف تأمين مصدر تمويل إضافي لأنشطتها الخاصة بالمنطقة، وبالتالي؛ يُعَدُّ هذان الهدفان من الأسباب الرئيسية لخوض قوات سوريا الديمقراطية حرباً دفاعية على ثلاث جبهات:

 

الجبهة الشمالية:

ويتمثّل مشهد العمليات العسكرية فيها بمقاومة هجمات جيش الاحتلال التركي ومرتزقته على الجهة الشمالية لمقاطعات الجزيرة والفرات ومنبج والرقة والشهباء.

 

الجبهة الغربية:

 ويتمثّل مشهد العمليات العسكرية فيها بمواجهة هجمات قوات النظام السوري ومرتزقته على مقاطعتَي دير الزور والرقة، ومواجهة العمليات التآمرية  لغرف إدارة العمليات الاستخباراتية (الروسية- الإيرانية- البعثية) في كل من الحسكة وقامشلو.

 

الجبهة الداخلية:

ويتمثّل مشهد العمليات العسكرية فيها بمكافحة هجمات خلايا تنظيم داعش على الأعيان المدنية والنقاط العسكرية في أرياف الحسكة ودير الزور والرقة.

وبالتالي؛ ينقسم المشهد العسكري والأمني في هذه الجبهات بشكل رئيسي بين جهات مهاجمة بأساليب مختلفة (تتمثّل بكلّ من: تركيا وداعش والنظام السوري وإيران وروسيا)، وجهة مدافعة (تتمثّل بقوات سوريا الديمقراطية والإدارة الذاتية).

 

ديناميات الصراع في الجبهات الثلاث:

      استناداً إلى ما تمّ رصده من تزامن في المشهد العملياتي بين الجبهات الثلاث؛ فقد بات من الواضح أنّ الجهات المهاجمة تنسّق عملياتها بشكل مباشر وأحياناً بشكل غير مباشر؛ وذلك من خلال اتّباع إحدى القوى تكتيكًا قتاليًا موازيًا ومتزامنًا مع الهجمات الحاصلة في إحدى الجبهات، فمثلاً: صعّد تنظيم داعش من هجماته  ضدّ الأعيان المدنية والعسكرية في شمال وشرق سوريا بالعبوات الناسفة وتنفيذ عمليات في مخيم الهول بالتزامن مع القصف التركي  العنيف للبنى التحتية والمنشآت الخدمية في شمال وشرق سوريا في مطلع العام 2024م، وكذلك بالتزامن مع تصعيد مرتزقة “قوات العشائر”  التابعين للنظام السوري من هجماتهم على الأعيان المدنية والعسكرية في مقاطعة دير الزور، أمّا أبرز المؤشّرات بخصوص وجود تنسيق مباشر فتتجلّى في العمليات التخريبية للأعيان المدنية والعسكرية في مقاطعة دير الزور في صيف عام 2023م؛ حيث تقاطعت تصريحات وزيرَي خارجية كلّ من النظام التركي والنظام السوري التي نقلتها الوكالات الإخبارية الروسية بشكل خاص، فقد زعم وزير خارجية النظام السوري (فيصل المقداد) لوكالة “سبوتنيك” الروسية وجود “دعم دمشق للقبائل العربية في ريف محافظة ديرالزور في معركتها التي تخوضها ضدّ القوات الموالية للجيش الأمريكي شرقي سوريا”، كما نقلت قناة “روسيا اليوم” عن وزير الخارجية التركي (هاكان فيدان) مزاعمه “ينبغي إنهاء سياسة القمع وخاصة ضدّ العرب في سوريا من قبل تنظيم (واي بي جي) ]التسمية التركية لقسد[ مشيراً إلى أنّ وحدات حماية الشعب، المدعومة من الولايات المتحدة، قد غزت الأراضي العربية وأخضعتها”، رغم أنّ قوات مجلس دير الزور العسكري ومجلس هجين العسكري الموجود في المنطقة يتكوّن في معظمه من أبناء عشائر المنطقة.

 من ناحية أخرى؛ وعلى الرغم من أنّ القوات الروسية تُعَدّ أحد الضامنين لوقف إطلاق النار في شمال وشرق سوريا، بين قوات سوريا الديمقراطية وجيش الاحتلال التركي بعد احتلال سري كانييه/رأس العين وتل أبيض/ كري سبي في صيف عام 2019م، إلّا أنّها لا تحرّك ساكناً لوقف الاعتداءات التركية على المنطقة، وقد تجلّى موقفها المتخاذل بشكل واضح أثناء القصف التركي الواسع وغير المبرّر على البُنى التحتية والمنشآت الخدمية في شمال وشرق سوريا، وبالتالي؛ يبدو أنّ للروس مصلحة في تدمير شمال وشرق سوريا طالما لا يسيطرون على ثروات المنطقة، ونفس الأمر بالنسبة لإيران، وما تؤكّد هذا الأمر هي المساعي الروسية لتطبيع العلاقات بين النظامين التركي والسوري مؤخّراً، وكذلك اعتداءات المتطرّفين الأتراك الممنهجة على اللاجئين السوريين في الولايات الجنوبية الغربية من تركيا، ووفق معطيات التصريحات الرسمية التركية، والاحتجاجات المناهضة للموقف التركي المستجدّ من الأزمة السورية؛ فإنّ الهدف من تلك المساعي والاعتداءات إنّما هو خلق سبب للتملّص من الوعود التي قطعها أردوغان للمعارضة السورية الموالية له والتخلّص منها تدريجيًا.

وعلى الصعيد السياسي؛ فقد تم منع الإدارة الذاتية ومجلس سوريا الديمقراطية من المشاركة في معظم المباحثات والاجتماعات الخاصة بحلّ الأزمة السورية في أستانا أو سوتسي أو موسكو، ولم تتم دعوتهما للمشاركة في اجتماعات اللجنة الدستورية في جنيف، وبالتالي؛ فقد فرضت الجهات المهاجمة حصاراً سياسياً على شمال وشرق سوريا كدعم لحربها في الجبهات الثلاث؛ الأمر الذي أدّى إلى عزل نسبيّ لشمال وشرق سوريا عن باقي الجغرافيا السياسية السورية.

من ناحية أخرى تخوض قوى الجهة المهاجمة نزاعاً غير مباشر فيما بينها؛ فجيش الاحتلال التركي لا يزال يدعم الهجمات التي تنفّدها الفصائل الموالية له ضدّ قوات حكومة دمشق، ولا تزال نقاطه العسكرية في ريف إدلب الجنوبي تشكّل حاجزًا بين كلّ من تنظيم جبهة النصرة ومَن يُسمَّون بالمجاهدين القوقاز (أعداء موسكو وقوات النظام السوري)، حتى أنّ هذه المنطقة قد تحوّلت إلى مصدر للهجمات بالطائرات المسيّرة على “قاعدة حميميم” أكبر القواعد الروسية في سوريا، والهجوم الدموي على حفل تخرّج طلاب في الكلية الحربية في حمص بتاريخ 2023.10.05 أوقع أكثر من 80 قتيلاً (بينهم مدنيون) وإصابة العشرات، ولا يزال عناصر داعش ينشطون في المناطق التي تحتلّها تركيا؛ حيث نفّذ التنظيم خلال شهر حزيران الماضي العديد من الهجمات داخل روسيا وضدّ قوات النظام السوري والميليشيات الشيعية في البادية؛ ولا تزال حلب – التي تسيطر عليها قوات موالية لإيران- تشكّل هدفاً للسيطرة عليها من قبل جيش الاحتلال التركي، حيث يعتبرها أردوغان جزءاً مهماً من “الميثاق الملّي”، بينما يعتبرها شيعة إيران أحد مراكز الشيعة  قبل خضوعها للسلاجقة ومن ثم للعثمانيين؛ من ناحية أخرى من غير المقبول بالنسبة لروسيا وجود قوات حليفة للناتو بالقرب من قواعدها الاستراتيجية في الساحل السوري، وحربها في أوكرانيا تستند إلى هذا المبدأ، لذا؛ لا يمكن الجزم بوجود اتفاق استراتيجي بين قوى الجهات المهاجمة، بل هي اتفاقيات تكتيكية تتمحور حول ضرب الخصوم ببعضهم بالاستناد إلى العِداء المشترك تجاه قوات سوريا الديمقراطية والإدارة الذاتية، وتتمّ إدارة الصراع على هذا الأساس.

وبالتالي؛ يمكن التعريف بديناميات الصراع في الجبهات الثلاث على أنّها مجموعة من التكتيكات ذات البُعد العسكري والأمني والسياسي والاقتصادي عبر عمليات اغتيال واستهداف الأعيان العسكرية، وقصف المنشآت الضرورية لحياة السكان، وتقويض المؤسسات الخدمية للإدارة الذاتية، وتحريض المجتمعات المحلّية ضدّها؛ من خلال جماعة الإخوان المسلمين والبعثيين والداعشيين وأطراف من المجلس الوطني الكردي، وإدخال الخلايا المنظّمة استخباراتياً إلى المؤسّسات الخدمية لتعطيل مهامها تجاه المجتمع، ويتم دعم هذه التكتيكات من خلال حملة تشويه وتحريض إعلامية ممنهَجة ضدّ الإدارة الذاتية وقوات سوريا الديمقراطية؛ بغرض إثارة الفتن بين المكوّنات وتأليب المجتمعات المحلّية ضدّ مؤسّسات الإدارة الذاتية، بالإضافة إلى الاستمرار في عزل المنطقة عن السياسات المتعلّقة بحلّ الأزمة السورية على غرار ما تمّت من مباحثات واتفاقات في جولات أستانا وسوتشي واجتماعات اللجنة الدستورية.

  في المقابل؛ تُعَدّ الجهة المدافعة خصمًا يجيد إدارة الأزمات التي تتسبّب بها الجهات المهاجمة، وتمتلك استراتيجية دفاعية لا تزال صامدة أمام خبرة وإمكانيات الجهات المهاجمة؛ وهذا يُعَدُّ مؤشّرًا على قدرة الإدارة الذاتية وقوات سوريا الديمقراطية على التعامل مع مختلف التهديدات والتحدّيات والهجمات؛ ولدى تحليل القوة التي تستند إليها الجهة المدافعة في عملياتها الدفاعية، يمكن الملاحظة بوضوح أنّها ترتكز على كلّ من: الدبلوماسية المجتمعية، والدبلوماسية العسكرية (الشراكة مع التحالف الدولي ومذكّرات التفاهم مع القوات الروسية التي تمّت عام 2019)؛ فمن خلال الأولى تحافظ على تماسكها الداخلي وتصدّ بها عمليات محاولة “إسقاط القلعة من الداخل”،

أمّا الثانية فتشكّل حاجزًا لأيّ اجتياح برّي للمنطقة، وما يعزّز هذه الاستراتيجية الدفاعية هو الصراع المُحتدِم بين الجهات المهاجمة والقطب الغربي المتواجد في المنطقة تحت عباءة التحالف الدولي لمحاربة الإرهاب؛ كما أنّ الأطروحات الفكرية والسياسية للأمة الديمقراطية التي تستند إليها قوات سوريا الديمقراطية لا تتعارض مع القيم الإنسانية والأخلاقية في القانون الدولي والقانون الإنساني الدولي ومواثيق حقوق الإنسان، ولا تشكّل خطراً على الدول التي توصَف بأنّها ديمقراطية، ولا تهدّد ثقافة المجتمعات المحلّية؛ الأمر الذي لا يوفّر ذريعة لأيّ صمت دولي مباشر تجاه اجتياح كامل للمنطقة من قبل النظام التركي أو الروسي أو الإيراني.

      إنّ امتلاك الجهات المهاجمة إمكانياتٍ عسكرية واقتصادية وسياسية واستخباراتية كبيرة، مقارنة بقدرات الجهة المدافعة، يدفع إلى طرح السؤال التالي: لمَ لا يتم حسم هذه الجبهات؟ بالتأكيد هناك عوامل تكمن وراء ذلك ولها علاقة بالوضع الجيوسياسي في الشرق الأوسط؛ فعلى الرغم من وجود التناقضات أو التفاهمات بين القوى المؤثّرة في الأزمة السورية، ورغم اشتراك القوى المهاجمة في رفض الحالة السياسية والاجتماعية في إقليم شمال وشرق سوريا، إلّا أنّه لا يمكن التكهّن باستمرار مشهد العمليات العسكرية في الجبهات الثلاث وفق مسار ثابت؛ كون البراغماتية هي التي تحكم العلاقات بين الدول وهو ما بات واضحاً في انقلاب موقف النظام التركي تجاه نظيره السوري، حتى أنّ قوات سوريا الديمقراطية  كانت قد أعلنت في وقت سابق استعدادها للحوار مع أيّة قوة في المنطقة لتخفيف التوتّر؛ وهو ما يعني أنّ أنظمة الحكم في الدول قد تلجأ إلى نوع من التوازن بين أيديولوجيتها ومصالحها المادية لتجنّب حدوث صدعٍ أيديولوجيّ في أنظمتها بفعل ضغط المصالح الاقتصادية والسياسة والعسكرية، واستناداً إلى ذلك؛ يمكن الإشارة بشكل عام إلى أبرز العوامل والأسباب الكامنة وراء عدم الحسم في الجبهات الثلاث من الناحية الواقعية؛ وهي:

 

العجز عن توحيد الجبهات ضدّ قوات سوريا الديمقراطية:

لقد فشلت الجهات المهاجمة، حتى الآن، في شنّ هجوم مركّز وحاسم وعلني ضدّ شمال وشرق سوريا؛ والسبب هو انعدام الثقة وعدم القدرة على بناء الثقة وفقاً لمسار توافقيّ للجميع بسبب التناقض الأيديولوجي بينها؛ فلكلّ مشروعه السياسي الخاص وأزماته الاقتصادية، وكلّ طرف لا يريد أن يخسر أو يقدّم مكاسب لشريك حاليٍّ قد يستفيد منها بعد أن يتحوّل إلى غريم لاحق؛ ففي نهاية المطاف القوة والبراغماتية هي التي ستحكم العلاقة بينها.

 

الفشل في تقويض الدبلوماسية المجتمعية والعسكرية للجهة المدافعة:

 لم تحقّق معظم الحرب النفسية والدعاية الأيديولوجية المتطرّفة والتهديدات والعمليات التخريبية داخل شمال وشرق سوريا أيّ نجاح في تحريض المجتمعات المحلّية ضدّ قوات سوريا الديمقراطية وضدّ الإدارة الذاتية؛ وبحسب جميع من تمّت مقابلتهم من مواطنين ومثقّفين وسياسيين ومقاتلين من مختلف المكوّنات الكردية والعربية والسريانية، تُعَدُّ الإدارة الذاتية وقوات سوريا الديمقراطية الخيار الأفضل لأمنها الإنساني؛ فهم مدركون تماماً غياب المبادئ الوطنية لدى النظام السوري الذي لم يغيّر شيئاً من عقليته الأمنية القمعية حتى الآن، ويشهد على ذلك ما يجري في درعا من حرب اغتيالات منذ التسويات الأمنية مع الفصائل المحلّية عام 2018م، ويشهد عليه كذلك ما تشهده السويداء من مظاهرات شعبية منذ عشرة أشهر، وكذلك المعاملة اللاأخلاقية التي يتلقّاها المواطنون على الحواجز الأمنية للنظام السوري، عدا عن آلاف الضحايا والمفقودين والمهجّرين على يد هذا النظام.

    أمّا بالنسبة للنظام التركي؛ فتجربة الوثوق به واضحة في المناطق التي احتلّها في شمال وشمال غرب سوريا، وذلك من خلال ما ينفّذه من عمليات تهجير قسري للمواطنين لإحداث تغيير ديمغرافي ببناء المستوطنات في المناطق التي يحتلّها، وخاصة في عفرين ، وترحيل آلاف اللاجئين السوريين قسراً إلى هذه المناطق، بالإضافة إلى الانتهاكات المستمرّة التي ترتكبها الفصائل الموالية له، واستغلالهم كمرتزقة  في حروب تركيا الخارجية، والاعتداءات العنصرية من قبل المتطرّفين الأتراك تجاه السوريين المقيمين واللاجئين في تركيا، وسياسة التتريك المُمنهَجة التي تمارس عليهم.

أمّا إيران؛ فإنّ أيديولوجيتها ومشروعها السياسي يلاقيان نفوراً كبيراً من قبل المجتمعات المحلّية في شمال وشرق سوريا، سواء من قبل السُنّة أو العلمانيين أو الديمقراطيين أو حتى من قبل القوميين، كما أنّها حوّلت سوريا إلى جبهة لصراعها الإقليمي على حساب معاناة السوريين. أمّا روسيا؛ فهي بنظر غالبية السوريين مصدر استمرار للأزمة وشريكة النظام السوري في معظم مجازره. أمّا داعش؛ فقد تحوّل إلى عدوّ مشترك للمجتمعات المحلّية ورمزًا من رموز الشرّ التي ابتُلِيَت بها المجتمعات، كما أخذ حيّزاً سلبياً له في الذاكرة المجتمعية للمنطقة. إنّ المجتمعات المحلّية – وعلى الرغم من النقد الموجّه إلى مؤسسات الإدارة الذاتية – تدرك تماماً مسؤولية الجهات المهاجمة عن تردّي الوضع المعيشي والخدمي في شمال وشرق سوريا.

من ناحية أخرى أعلن التحالف الدولي، ولأكثر من مرّة، استمرار دعمه لقوات سوريا الديمقراطية في إطار محاربة تنظيم داعش ورفض كافة الضغوط التركية  بإنهاء علاقاته ودعمه لهذه القوات، لكن في المقابل لا تزال ممثليات الإدارة الذاتية ومجلس سوريا الديمقراطية تمارس نشاطاتها الدبلوماسية في كثير من الدول التي لم تذعن للضغوط التركية من أجل إغلاقها.

 

عدم امتلاك أي طرف من الجهات المهاجمة الجسارة لشنّ حرب تقليدية، بشكل منفرد، ضدّ شمال وشرق سوريا واجتياحها والسيطرة عليها:

لا تمتلك قوات سوريا الديمقراطية مقوّمات خوض الحرب التقليدية، ولا يوجد في العقيدة العسكرية للجهات المهاجمة أيّ رادع أخلاقي يمنع اجتياحها للمنطقة وتدمير المدن والبلدات على رؤوس ساكنيها؛ وتشهد على ذلك الفظائع التي ارتكبتها في شرق أوكرانيا، والقصف الكيماوي على دوما وخان شيخون، والقصف بالبراميل المتفجّرة والصواريخ الفراغية، والمجازر والانتهاكات التي تمّت في كل من: حلب وإدلب وحماه وحمص وريف دمشق ودرعا ودير الزور وعفرين ورأس العين/ سري كانييه وديرالزور والموصل والرقة وغيرها؛ ورغم ذلك لا تمتلك الجهات المهاجمة من الدول الجسارة لاجتياح المنطقة بمفردها، طالما أنّ المنطقة تشكّل ميداناً للعمليات العسكرية الاستراتيجية لقوات التحالف الدولي في محاربة داعش بالشراكة مع قوات سوريا الديمقراطية وقوى الأمن الداخلي (الأساييش)؛ وهذا ما يقودنا إلى الاعتقاد بأنّ الجهات المهاجمة تدرك أنّها لا تمتلك المقدرة على التقويض المباشر لاستراتيجية الفوضى الخلّاقة للقطب الغربي (الهدم وإعادة بناء الوضع الجيوسياسي) الخاصة بالشرق الأوسط والتي تم إقرارها، على ما يبدو، في مطلع القرن الحالي، حتى أنّ التنافس الاستراتيجي أو الصراع الأيديولوجي بين أطراف الجهات المهاجمة ينحرف أحياناً إلى التحوّل لأدوات في خدمة هذه الاستراتيجية، ويمكن ملاحظة ذلك لدى النظر بمنظور تحليلي للأزمات التي تشهدها، بالدرجة الأولى، كلٌّ من: سوريا والعراق وتركيا ولبنان وإسرائيل وفلسطين وإيران، وما يرافقها من مشاريع افتتاح الطرق التجارية، وإنشاء المحاور العسكرية، وتغيّرات الجغرافيا السياسية.

ولدى التمعّن في معظم أبحاث مراكز الدراسات الغربية التي تناولت شمال وشرق سوريا يمكن ملاحظة أنّ قوات سوريا الديمقراطية قد أصبحت قوّة مؤثّرة في الوضع الإقليمي، وأصبحت في وضع يؤهّلها لتكون عنصراً في المعادلة السياسية والأمنية الإقليمية؛ فالعديد من الدول العربية والغربية والقوى الديمقراطية والشعب الكردي، يهمّها كثيراً عدم سيطرة تركيا أو إيران أو روسيا أو داعش على شمال وشرق سوريا، وهو ما يعني أنّ قوات سوريا الديمقراطية تتّجه لأن تتحوّل إلى لاعب إقليمي لا يمكن إخراجه بسهولة من المشهد السياسي والأمني والعسكري في المنطقة؛ وهذا قد يكون أحد الأسباب في عدم حسم معارك الجبهات الثلاث.

وعلى صعيد متّصل؛ يستمر فشل الجهات المهاجمة، مع صديقها الصيني، في صياغة استراتيجية موثوقة لما يسمّى بالقطب الشرقي للسيطرة على المناطق الحيوية في الشرق الأوسط، ويبدو ذلك في الوقت الحالي بعيد المنال؛ فالدولة التركية حتى الآن لم تحرّر نفسها من تداعيات إفلاس الدولة العثمانية، وحلّ أزماتها الداخلية وتحرير اقتصادها الوطني من اقتصاد الحرب والعيش كدولة غير مضطربة، ولا تبدو أوضاع روسيا وإيران والنظام السوري وداعش في أحسن حال، وبالتالي؛ فإنّ قطبًا دوليًا يمتلك قوة عسكرية، ويعاني من أزمة اقتصادية، ولا يحظى بثقة المجتمعات، لا يمكنه أن يحطّم استراتيجية القطب الغربي الذي يمتلك قوة عسكرية واقتصادية متماسكة بدرجة أفضل؛ وقد يكون ذلك أحد الأسباب في عدم الثقة الصينية بالأصدقاء الشرقيين، وهو ما ينعكس سلباً على قدرة روسيا وإيران وتركيا في إدارة صراعاتها الإقليمية.

عدم امتلاك قوات سوريا الديمقراطية الإمكانيات العسكرية اللازمة لحسم الجبهات الثلاث لصالحها، وامتناعها عن الانخراط في دعم مشاريع القطب الغربي  مقابل تعزيز قدراتها العسكرية في الجبهات الثلاث بشكل أكبر وإلحاق هزائم أكبر بالجهات المهاجمة، كما يصعب عليها بناء الثقة مع أحد أطراف الجهات المهاجمة؛ بسبب التناقض الأيديولوجي والاعتبارات الجيوسياسية الإقليمية، فمثلاً: لم تلقَ نداءات الإدارة الذاتية ومجلس سوريا الديمقراطية للحوار حتى الآن آذاناً صاغية من قبل النظام السوري أو التركي.

 

مسارات الصراع في الجبهات الثلاث:

       استناداً إلى عدم قدرة أي طرف في الجبهات الثلاث على حسم الصراع لصالحه، واستمرار أزمات الشرق الأوسط، وربط الدول الإقليمية الملف السوري بأمنها القومي، فإنّه لا توجد أية تباشير للسلام في المنطقة على المدى القريب؛ ما يعني أنّ الخطّ البياني للصراع في هذه الجبهات سيتأرجح ما بين التصعيد العسكري على إحدى الجبهات وانخفاض وتيرته في جبهة أخرى، وذلك لإبقاء ديناميات الصراع في حالة “توازن قلق” ريثما تتوفّر ظروف استثنائية لصالح أحد الأطراف تمكّنه من تحقيق انجاز عسكري وسياسي في إحدى هذه الجبهات. بشكل عام؛ يمكن الإشارة إلى وجود ثلاث مسارات للصراع على المدى القريب في الجبهات الثلاث:

 

مسار ثبات الجبهات بشكل نسبي:

حيث ستستمرّ المعارك والعمليات التآمرية في دائرة مغلقة، وسيتكيّف الوضع الجيوسياسي للمنطقة مع هذه الظروف ما لم تحدث تحوّلات بنيوية في معادلات الصراع، وطالما حافظت القوى المؤثّرة في هذه الجبهات على التوازن بين الدفاع والهجوم؛ كونها لا ترغب في الحسم النهائي لموقفها في الوقت الحالي.

 

مسار التصعيد:

 تُعَدُّ الولايات المتحدة قوة مؤثّرة في هذا المسار؛ وذلك بوقوفها القوي المباشر إلى جانب أحد الأطراف أو بانسحابها من المنطقة.

 

مسار التدرّج نحو الحلّ:

ويمكن أن يتحقّق بترجيح تركيا أو النظام السوري سياستهما البراغماتية على عقيدتهما السياسية المتطرّفة، وبالتالي؛ غياب المانع الأيديولوجي للتصالح مع قوات سوريا الديمقراطية التي أبدت أكثر من مرّة استعدادها للحوار مع تركيا أو حكومة دمشق للوصول إلى اتفاق سلام في المنطقة ، وخاصة مع عدم وجود ممانعة أمريكية مطلقة لذلك. الأمر الذي يعني تقبّل الوضع السياسي والعسكري الحالي لشمال وشرق سوريا، والتعايش معه ككيان ذي صفة اعتبارية ورسمية وفقاً لاتفاق يضمن فائدة الأطراف المتعاقدة، وهذا ما يشكل مصدراً محتملاً للسلام في هذه الجبهات؛ من ناحية أخرى يمكن أن يتحقّق هذا المسار بانسحاب أحد الأطراف من إحدى الجبهات الثلاث؛ نتيجة لأزمة داخلية خطيرة لدى ذلك الطرف أو تخلّيه عن فكرة السيطرة على شمال وشرق سوريا.

      عموماً؛ تبدو مسارات الصراع متشابكة، وتشكّل الجبهات الثلاث أبعادًا للصراعات الدائرة في شرق أوروبا وفي شرق البحر المتوسط وشمال إفريقيا والخليج والقوقاز، وأي تحوّل في هذه الصراعات سيكون له تأثير في هذه الجبهات. بالنسبة لقوات سوريا الديمقراطية؛ من المتوقّع أن تستمرّ في استراتيجيتها الدفاعية، وهذه الإستراتيجية بحاجة إلى مزيد من الدعم والتطوير، لذا؛ يتحتّم على الإدارة الذاتية ومجلس سوريا الديمقراطية وحركة المجتمع الديمقراطي وأصدقائها دعم تلك الاستراتيجية لتطوير دبلوماسيتها الوقائية؛ وذلك عبر نسج علاقات دبلوماسية مع مجتمعات بلدان العالم، من خلال: الدبلوماسية الثقافية، ودبلوماسية الجامعات والأكاديميات ومراكز الدراسات، ودبلوماسية البلديات، ودبلوماسية مؤسسات المجتمع المدني، ودبلوماسية البيئة، والدبلوماسية الشعبية الثورية وغيرها، بالإضافة إلى العمل على كسر الحاجز الذي أقامته الجهات المهاجمة بين المجتمعات السورية (الخاضعة لسيطرتها) ومجتمعات شمال وشرق سوريا؛ هذه الدبلوماسيات من شأنها أن تشكّل وسيلة ضغط على برلمانات الدول لصالح مجتمعات شمال وشرق سوريا وأن تدعم صمود قوات سوريا الديمقراطية، وحتى تكرار النجاح الذي تحقّق في جبهتَي كوباني عام 2015م ودير الزور في عام 2023م في واحدة أو أكثر من الجبهات الثلاث.

  مواضيع أخرى للمؤلف