بداية الحل أم نهاية الإرهاب؟
أستاذ الفلسفة السياسية، جامعة كويه
رغم اعتبار مؤيدي حزب العمال الكردستاني العملية الجارية الآن بين زعيمهم عبدالله أوجلان والمؤسسة الأمنية التركية برئاسة إبراهيم قالن، السبيل الوحيد والنهائي والأكمل لحلّ القضية الكردية ويصفونها بـ( مشروع الحلّ)، إلا أن المؤسسات السياسية والإعلامية التركية، الرسمية منها وغير الرسمية، تصرّ على وصفها بمشروع( تركيا بلا إرهاب ودفن السلاح).
ومع سوء الوصف هذا، الذي تقبع خلفه ذهنية إنكارية فاشية ترفض الاعتراف بوجود قضية كردية، وتنطوي على ازدراء وإهانة بحق تاريخ العمال الكردستاني وتضحياته وتسلب عنها الشرعية الأخلاقية والسياسية، تواصل قيادات هذا الحزب هذه العملية وتبدي التزامها بتعليمات زعيمها الأوحد والمتفرد.
بالطبع لكل طرف مقاصده الخفية والعلنية من وراء استخدام الوصف المعني به ومبرراته، التي يشرعن بها الاستمرار في هذه العملية وتكتنفها الشكوك وتحاصرها.
لكن أهم وأبرز هدف يريد أردوغان المهووس بالسلطة تحقيقه، هو تطويب انتصار تاريخي باسمه بوصفه، الرئيس الذي( قضى على الإرهاب) في تركيا ومن ثم يمهد لشروط صعوده مجددا إلى كرسي الرئاسة بدعم شعبي واسع من أوساط القوميين والإسلاميين الأتراك، الذين يعيشون رهاب القضية الكردية.
وبالمقابل، تتمحور مقاصد ومبررات العمال الكردستاني، والكيانات التنظيمية والسياسية المرتبطة به، حول مطلب رئيس، واضح وجلي حتى الآن، هو ( الحرية الفيزيقية للقائد) حسب وصفهم في الأدبيات السياسية والإعلامية، ويعدّون تحقيق هذا المطلب الشرط الرئيس والوحيد لأيّ انتصار تاريخي لصالح القضية القومية. منطق المكابرات في التاريخ العربي يكرر نفسه هنا في سياق كردي، إذ بعد الهزيمة الكبيرة التي ألحقت بالجيوش العربية في سوريا ومصر والأردن والانتصار الصارخ، الذي سجّله الجيش الإسرائيلي في حزيران 1967، كانت الإذاعات العربية في القاهرة ودمشق تصدح طوال الوقت، وبخلاف الواقع، بهزيمة إسرائيل وانتصار العرب، لأن إسرائيل والإمبريالية، حسب زعمها، فشلتا في إسقاط الأنظمة التقدمية العربية. مؤيدو العمال الكردستاني وإعلامه يريدون إقناعنا الآن بأن مجرد تحرير( القائد فيزيقا) هو أكبر وأعظم انتصار تاريخي محتمل يمكن أن يترتب على تضحيات عشرات الألوف من الثوار الأفذاذ، حتى لو لم تقدم الدولة والنظامين التركيين على أيّ تنازل أو أدنى اعتراف بحقوق الكرد في هذا المرحلة. الحل الشامل والانعتاق الحقيقي سيأتي لاحقا.
لأسباب عديدة ومعقدّة، لايتسع المقام للتفصيل فيها، كان يتعين على العمال الكردستاني التخلي عن الكفاح المسلح منذ ٢٠١٢. والانتقال إلى النضال السلمي لأجل الهيمنة على المجال العام، وهذا الأمر بالتأكيد كان سيخدم مسار الكفاح الديمقراطي للقضية الكردية في شمال كردستان. ولعلّ التوقيت الأمثل لمثل هذه المبادرة كان قبل احتلال عفرين، وذلك لإسقاط الذرائع تماما من يدّ الفاشية الإسلامية الطورانية الحاكمة في تركيا، دون أن تكون الأخيرة طرفا في صفقة، كالتي تحدث الآن، دون مقابل. فما يحدث الآن هو بمثابة عرض واستعراض لانتصار إرادة أردوغان والطغمة الإسلامية القومية الحاكمة على إرادة المقاومة، واستسلام الأخيرة دون أيّ شرط أو مكسب سياسي واضح، حتى هذه اللحظة.
برهن العمال الكردستاني في محطات كثيرة على حسن نواياه واستعداده للسلام، وفي كلّ مرة كانت مبادراته تصطدم بالأساليب والتقاليد الذهنية الفاشية السائدة لدى السلطة الحاكمة في أنقرة، التي تتعاطى بغطرسة قومية مع الواقع ومنطق التاريخي. فما هو التحول الجوهري، الذي حدث في تركيا، ونجهله جميعا، حتى يسارع الزعيم الكردستاني بهذه الحماسة للرهان على الحلّ والتغيير التاريخيين القادمين؟ ما يبدو جليّا حتى الآن إن السيد أوجلان يراهن على الدولة التركية أن تقوم بحلّ القضية الكردية وتغيير سلوكها نحو الكرد، ليس في تركيا فحسب، إنما في كلّ مكان، دون أيّ تغيير في أيديولوجيا الدولة والعقل السياسي التركيين، ولهذا لايحظى هذا الرهان بثقة، ليس في أوساط القوميين الكرد، إنما كذلك حتى في أوساط مؤيدي العمال الكردستاني وأنصار أوجلان بالذات.
لقد أتخم العمال الكردستاني الفضاء السياسي والإعلامي في إبداء حسن نواياه، وأترف في خطواته الأخيرة في إظهار نقاء سريرته إزاء الدولة التركية، بأن برهن على استعداده في القاء السلاح، وتخلّى عن مطالبه ومشاريعه القومية( المريبة) في الانفصال وفي فدرلة تركيا أو تأسيس حكم ذاتي فيها، وأداره ظهره لكل خطابه الأيديولوجي القومي، وتخلّص بسهولة من ترسانة شعاراته الأيديولوجية وأحكامه، التي عارض بها منافسيه القوميين وواجههم. كل ذلك حدث بمجرد إيعاز أوحى به زعيمه من معتقله على شكل نداء لا يناله الشك أو أدنى اعتراض. وبين ليلة وضحاها حدث الانقلاب الكوني العظيم في الشعارات والخطابات وراح الجميع يستعير لسان النداء وقائله ويتحدث بلغة واحدة عن قرب( الفرج العظيم)، دون أن يسأل أحد عن كيف ولماذا حدث كلّ هذا التغيير؟
واقع الحال كان ينبغي أن يسأل الجميع معا، لمَ لا تبدي الدولة التركية حسن نيتها وتبرهن على استعدادها للحل؟
على العكس من كل ذلك ما تزال تمعن في التأكيد على وصف العملية بأنها عملية استسلام ودفن للإرهاب !!! وهذه هي النيّة الذهبية الوحيدة لدى الطرف التركي وأردوغان.
|