شورش درويش :
فور تداول الأنباء عن وصول وفد قوات سوريا الديمقراطية (قسد) والإدارة الذاتية إلى دمشق لاستكمال التفاوض حول ما جرى الاتفاق عليه في 10 مارس/آذار الماضي، سرت تكهنات متضاربة على وسائل التواصل.
بعضها المتفائل قال إن الدخان الأبيض سيتصاعد من قصر تشرين، فيما رأى آخرون أن الغاية من الاجتماع هي تسريع تطبيق نقاط اتفاق عبدي–الشرع برعاية أميركية يقودها ممثل واشنطن توماس باراك، وهذه النقطة بدت واقعية بالنظر إلى الترهل والتباطؤ الذي شهدته تطبيقات بنود الاتفاقية على الأرض.
تغيّب الرئيس المؤقّت أحمد الشرع عن حضور اللقاء الوطني الأهم، في ظل عدم وجود أي لقاء آخر يعكس تلاقي السوريين منذ سقوط نظام الأسد. أوكل الشرع المهمة لطاقم يمثّل الوزارات السيادية ورئيس جهاز المخابرات، ودون أن يُفصح عن سبب تغيّبه، ظهر الشرع مستقبلا الفريق الذي اشتغل على إنتاج «الهوية البصرية» بقصر الشعب، بدل أن يجتمع مع الفريق الذي قد يساهم في إنتاج «الهوية الوطنية» (الإدارة الذاتية وقسد). لكنه واقعيا أراد التقليل من شأن الاجتماع التفاوضي، مستندا إلى الدعم الترامبي المفتوح له، والذي يُترجمه على الأرض توماس باراك الذي يُبدي الكثير من الانحياز لدمشق بشكل يكسر مفهوم الوساطة المحايدة بين دمشق والإدارة الذاتية.
زعم باراك أن قسد هي من يتباطأ في تنفيذ الاتفاق دون أن يُلقي باللوم على دمشق التي تلكأت في تطبيق البنود الموكَل إليها تنفيذها كعودة المهجّرين قسريا وسواها من بنود. علاوة على ذلك، تحدّث المبعوث الأميركي عن أنه ما من خيار أمام قسد سوى التوجّه إلى دمشق، وبذلك مارس باراك ضغطا نفسيا في غير محلّه، ذلك أن قسد والإدارة الذاتية ومجموع الأحزاب القومية الكردية لم تقل خلاف ما قاله المبعوث الأميركي، كما أن الأدبيات السياسية الكردية منذ عقود خلت تقول بأن حلّ القضية الكردية السورية يكمن في دمشق.
يمكن تفهّم نزوع الرئيس الأميركي دونالد ترامب الاستعراضيّ ودعمه غير المشروط للشرع بأنه مبنيّ على قناعة مفادها أنه يمكن تقديم الدعم للسلطة السورية بشكل يجعلها تدور في فلك واشنطن وسياساتها الإقليمية. ولئن كانت سوريا منذ نهاية الخمسينيات تدور في فلك السياسة الروسية، فإن نموذج سوريا المرعيّة بطبقات من التحالفات الإقليمية والدولية لا يزال طريقا وحيدا أمام دمشق التي وجدت راعيا دوليا جديدا تمثّله الولايات المتحدة.
إن ثمن قبول الشرع وفريقه الحاكم الدوران في فلك سياسة ترامب قائم على مبدأ الاحتفاظ بالسلطة مقابل الالتزام التام بمصالح واشنطن الإقليمية، خاصة أن ترامب غير مكترث البتة بجنس حلفائه، سواء كان واحدهم ديمقراطيا أم ديكتاتوريا، وهو ما عبّر عنه باراك بالقول في معرض تعليقه على الأوضاع في سوريا بأن «زمن التدخّل الغربيّ انتهى»، بمعنى أن زمن فرض الديمقراطية على طريقة جورج بوش الخشنة قد انتهى، وكذلك التدخل الناعم على طريقتي أوباما وبايدن.
تحمل هذه الرسالة الأميركية الجديدة مخالفة للسياسة الأميركية قصيرة الحضور في الأيام الأخيرة من حكم جو بايدن حين طرحت مساعدة وزير الخارجية الأميركية باربرا ليف، سلّة اشتراطات على إدارة الشرع لأجل تنمية العلاقة معها ورفع العقوبات عنها. عدل ترامب عن كل تلك الاشتراطات الضرورية والأساسية لقيام أيّ تحالف بين واشنطن ودمشق، واستبدلها بوصفة قوامها انضمام سوريا لاتفاقيات أبراهام، وما يستصحبه من إيجاد مخرج للوضع النهائي لمرتفعات الجولان. ولأجل هذه الغاية، أبدى توماس باراك تحيّزا في أول اختبار له في إدارة الملف الداخلي السوريّ عبر الإيحاء بأنه لا يقف في صفّ قسد ودون أن يُلقي بأدنى لوم على دمشق. ولعل الغرض من هذا التكتيك الميكيافيلي هو كسب ثقة دمشق إلى حين ضمّها للموقّعين على اتفاقيات أبراهام، وهو ما سيحدث في نهاية المطاف على ما تقوله دمشق للدبلوماسيين الغربيين ولتل أبيب.
لم تكد أبواب قاعة الاجتماع تُغلق حتى بادرت حكومة الشرع إلى إصدار بيان كُتب بلغة متعالية خشنة تتطابق في جوهرها وعباراتها مع لغة نظام الأسد. يقول شعار البيان: «سوريا واحدة، جيش واحد، حكومة واحدة»، وهي الكلمات التي كرّرها باراك خارج قاعة اجتماع وفدي التفاوض. لكنّ هذه العبارة بحاجة إلى شيء من التدقيق والاعتراض على محتواها المخاتل، والاعتراض هنا لا ينسحب على معانيها السامية التي لا يختلف في شأنها السوريون. إذ لا ينبغي أن تتحوّل «سوريا الواحدة» إلى «مزرعة» مخصّصة لسلطة ما، أو لإثنية أو طائفة أو فئة معيّنة، فشرط وحدة سوريا هو أن تكون لكل السوريين دون استثناءات عنصرية أو جهوية، وهو ما لا تؤمن به الحكومة ولا تشير إليه أفعالها وسلوكها اليوميّ. وأما «الجيش الواحد» فهو ما يجب أن يتحقّق بشرط الالتزام التام بقاعدتي الاحتراف والكفاءة، دون النظر إلى هويّاتهم الفرعية أو منبتهم الإثني أو الطائفي، لا أن يبقى جيشا جرى تصنيعه في معامل القوى العسكرية التي وصلت دمشق قبل غيرها لحظة تحلّل جيش بشار الأسد. فيما تشير عبارة «حكومة واحدة» شديدة الوضوح، إلى أن على السوريين الخضوع لحكومة غير تمثيلية أو تشميلية للمكونات السياسية والإثنية السورية، ودون أبسط شروط التعاقد بين الحاكم والمحكومين، واعتبار هذا الرضوخ بمثابة عقد إذعان لا يُعلَم متى جرى التوقيع عليه، أو متى تنتهي مفاعيله. بكلمات أخرى: إن هذا الشعار، إن لم تجرِ مناقشته وإعادة النظر في حيثيات تطبيقه، إنما يؤسّس لدولة فاشيّة أو إلى إيجاد نظامٍ فاشيّ.
كذلك، من بين عبارات باراك المتحيّزة جاء رأيه القطعي بأن «الفدرالية لا تعمل في سوريا»، وهو أحد المطالب الكردية حول شكل إدارة الدولة، وهو بطبيعة الحال موقف مدعِّم لسلطة دمشق وللحكومة التركية، المطالبتين بإبقاء سوريا دولة شديدة المركزيّة. وبالبناء أيضا على موقف باراك، جاء بيان نشرته وكالة الأنباء الحكومية (سانا) اقتبست فيه الحكومة مفردات ممثل واشنطن وزادت عليها، فرفضت الحكومة في بيانها «رفضا قاطعا أيّ شكل من أشكال التقسيم أو الفدرلة التي تتعارض مع سيادة الجمهورية العربية السورية ووحدة ترابها». تعكس المطابقة بين التقسيم والفدرلة، فوق فداحة الجهل والتخليط المتعمّد بين المفاهيم، تعمية لحقيقة أن الفيدرالية أو المطالبة بإحدى درجات اللامركزية لا تعني التقسيم أو الانفصال بأي حال.
على أيّ حال، أُدخلت كلمات باراك إلى متن «بيان الحكومة»، وبهذا أوحى ممثل الولايات المتحدة بوقوفه التام إلى جانب الشرع في وجه وفدي الإدارة الذاتية وحليفته منذ قرابة عشرة سنوات والموثوقة قسد، وكل ذلك لإثبات مسألة أنه ليس لواشنطن أي التزامات تجاه السوريين، ولتقرّر السلطة مصائرهم كيفما اتفق. هذا الإيحاء منح دمشق شعورا بفائض القوة، وهو ما سيجعلها ترتكب أخطاء حسابية من قبيل زيادة الشحن والاستقطاب الإثني، وتأييد منحى خطابات الكراهية والسكوت عنها، وربّما التضييق على المواطنين الكرد خارج شمال شرق سوريا. وفي مقابل ما أبدته دمشق من تعالٍ، فإن الإصرار على التفاوض، برعاية أميركية وفرنسية، يبدو الخيار الوحيد في ظل انعدام فُرص الحرب ومحاولة فرض الإرادات بالقوّة، وهذا هو الأمر الحسن في كل ما جرى تخريبه خلال اليومين الماضيين في دمشق.
*متخصص في الشؤون السياسية المحلية والإقليمية والدولية