تركيا وهدر المزيد من النقاط في عملية السلام مع الكرد
مركز روج افا للدراسات الاستراتيجية مؤسسة فكرية، سياسية مستقلة وغير ربحية؛ تمّ تأسيسه بناءً على ضروراتٍ تاريخية واستراتيجية معاصرة،
*مركز روج آفا للدراسات الاستراتيجية 20-01-2024
ممّا لا شكّ فيه أنّ منطقة الشرق الأوسط هي مهد الحضارات والأديان السماوية، ولا يختلف اثنان أنّ هذه المنطقة قدّمت الكثير للبشرية وعلى جميع الأصعدة، وأنّ هذه المنطقة الجغرافية كانت على مَرّ التاريخ ساحة للصراعات بشكل شبه مستمرّ، فكانت هذه الصراعات على شكل تناطح حضارات سكنت المنطقة، وتدرّجت وأخذت شكل صراعات نفوذ في كل مرحلة، لتتطوّر إلى صراعات دينية ومن ثم مذهبية لاتزال مستمرّة إلى يومنا هذا. بعد وصول الإمبراطورية العثمانية إلى نهاية عمرها الافتراضي مع بداية القرن التاسع عشر، نشط الحلم أو الغريزة الاستعمارية للدول الغربية في العالم بشكل عام والمنطقة بشكل خاص، وبدأت الخطط الاستعمارية تُرسَم على أساس المصالح الضيّقة لتلك البلدان، دون أيّة مراعاة للقيم الإنسانية أو الأخلاقية، حيث تمّ تقسيم المنطقة على أسس لا تمتّ إلى الجغرافيا أو التاريخ أو التوزّع السكّاني أو العرقي بأيّة صلة، ليكون هذا التقسيم نواة للمشاكل التي ستُخلَق بين مكوّنات المنطقة فيما بعد، وليتمّ توزيع تركة “الرجل المريض” (الدولة العثمانية) على هذا الأساس، أمّا بالنسبة لمعظم الإشكاليات التي تبدو آثارها حالياً فهي: اتفاقية “لوزان” واتفاقية “سايكس – بيكو” ووعد “بلفور” الزعيم والوزير البريطاني الذي وعد اليهود بأحقّية تشكيل دولة دينية على أراضي فلسطين، في إشارة إلى أحقّيتهم بها على مبدأ ديني معتمد على ما يُسمّى بمعبد أو “هيكل سليمان” وجدار “المبكى” المقدّس عند اليهود، وأيضاً تقسيم كردستان أكثر، بعد أن كانت قد تمّ تقسيمها فيما سبق بين الامبراطوريتين الفارسية والعثمانية، وذلك بإلحاق أجزاء منها بكلّ من سوريا والعراق الدول القومية المستحدَثة حسب التقسيمات الحديثة التي تمّت على أساسها، في إعلان غير رسمي عن بدء حقبة الدولة القومية، والتي تُعتبَر بريطانيا عرّابها في المنطقة والعالم.
الشرق الأوسط يتصدّر العالم من ناحية عدم الاستقرار:
ليس خافياً على أحد أنّ الصراعات التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط هي التي تتصدّر العالم دون منازع؛ وذلك لأسباب متعدّدة، ربّما أهمّها هو إهمال القوى العظمى، وأيضا عدم وعي سكان المنطقة أنفسهم لمدى أو حجم المؤامرة عليهم، وتتركّز معظم الصراعات في المنطقة على شكل صراع ديني، مثل الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني، أو على شكل صراع مذهبي، كما هو الحال بين السعودية – وإيران؛ فالأولى هدفها قيادة العالم الإسلامي السنّي، في حين أنّ هدف الثانية هو قيادة العالم الإسلامي الشيعي، أو على شكل صراع قومي وذلك بسيطرة قومية على أحقّية قومية أخرى في العيش على ترابها وبثقافتها ولغتها والمحافظة على تاريخها، ربّما تعيش اليوم منطقة الشرق الأوسط أسوأ حالاتها؛ حيث الصراعات وعدم تركيز شعوب المنطقة على إيجاد الحلول الوسط المناسبة لمشاكلها، وتكتفي بالانتظار والنظر بعين المترقّب دائماً للقوى الخارجية في إيجاد حلول لها، في حين أنّ تلك القوى الخارجية هي بالأساس جزء من هذه المشاكل وإثارتها والتغلغل فيها حسب مصالحها ليس إلا، وإنّ طرح مصطلح “الشرق الأوسط الجديد” أو “الشرق الأوسط الكبير” مع بداية القران الحالي من قبل القوى المهيمنة على السياسة والاقتصاد العالمي إنّما يدلّ على أنّ المئة عام المنصرمة يجب تغييرها، وتعديل التقسيمات السابقة بناءً على المصالح والمتغيّرات على أرض الواقع، وكان الهدف في الظاهر أو الشكل هو تغيير الأنظمة الحاكمة، والتي كانت قد وصلت إلى سدّة الحكم في أوقات متقاربة أو بشكل متقارب؛ أي عن طريق العنف والعسكرة والانقلابات العسكرية، حيث بدأت رياح التغيير مع الإطاحة بنظام حزب البعث العراقي ورئيسه صدام حسين سنة 2003م، وتطبيق التجارب على العراق لرسم سياسات باقي الأنظمة وكيفية تطبيق عملية التحوّل، ولكن كما يقول أو يعترف المندوب السامي أو المفوّض بتسيير الأمور في العراق بعد إسقاط النظام فيها، الأمريكي (بول بريمير) في مذكّراته إنّه “لم نجد رجلاً أميناً يحكم العراق ما بعد صدام”، طبعاً (بحسب نظرته ونظرة حكومته الغربية)، ويقول أيضاً: “أخطأنا في هدم المؤسّسات الحكومية التي كانت يجب أن تكون للشعب، وبإدارتها وتحت تصرّفه وأنظارها”.
كلّ ما سبق يدلّ على النظرة الدونية لأبناء المنطقة في إدارة أنفسهم، ولتتلاحق فيما بعد ثورات الشعوب على حكّامها، والتي بدأت منذ نهاية عام 2010م، حيث انطلقت شرارتها من الشمال الأفريقي، والتي ما لبثت أن وصلت إلى الشرق الأوسط الملتهب والمحتقن أصلاً؛ نتيجة الأوضاع المعيشية السيّئة التي تعيشها هذه البلدان؛ بسبب سياسات العسكرة والقوى الدكتاتورية التي تحكمها، والمتسلّطة عليها وعلى خيرات ومقدرات البلاد.
الدول المحتلّة لكردستان وسياسات القمع لكلّ ما هو كردي:
لا يمكننا مقارنة أو مفاضلة أي جزء محتلّ من كردستان مع الآخر، أو سياسة مستعمر مع الآخر، فقد كانت في معظمها متشابهة ومتقاربة؛ وذلك لأنّ أيّة صحوة في أيّ جزء ستكون لها تداعياتها على الأجزاء الأخرى، لكن ورغم ذلك فإنّ الثورات الكردية لم تنقطع عن بعضها البعض، ولم يتنازل الكرد عن حقوقهم الوطنية، فكانت هذه الثورات بقيادات دينية أحياناً وقيادات عَلمانية أحياناً أخرى؛ وكانت بعض تلك الثورات يتم القضاء عليها بحسم عسكري أو باغتيال قاداتها وهكذا.
في تركيا ومع بداية السبعينيات من القرن الماضي بدأت الحركات الطلابية اليسارية المتأثّرة بالفكر الماركسي – اللينيني تتحرّك في اتجاه مغاير لما سبقتها من حركات، فبدأت بالنضال الثوري المنظّم على أساس التنظيم والانضباط الثوري، والتي تكلّلت بالكفاح الثوري المسلّح، وذلك بعد الإيمان بأنّ الدولة التركية التي يقودها العسكر لا يمكن التحاور معها بالسياسة ما لم تترافق بالقوة؛ فكانت “قفزة الخامس عشر من آب” سنة 1984م الحدث الأبرز في النضال من أجل الحرية والمساواة ونيل الحقوق المشروعة.
مسارات حلّ القضية الكردية في تركيا:
إنّ المخطّط الزماني والمكاني لحلّ القضية الكردية في تركيا والتي بدأت مبكّراً – نوعاً ما- ليس بخافٍ على أحد، فقد شهدت حلحلة على الصعيد السياسي وذلك في بداية التسعينات من القرن الماضي وبعد مرور أقلّ من عقد من الزمن على الصراع العسكري، ربّما إيماناً من القادة والسياسيين في تلك المرحلة باستحالة الحلّ العسكري أو أن تأتي الحلول العسكرية بأيّة نتيجة، وفعلاً بدأت المحادثات بين الطرفين عن طريق وسطاء كرد،
إلّا أنّ اليد الخفية التي تدير حكومات الظلّ في تركيا كان لها رأي آخر في كل ما يجري، وانتهت أولى محاولات الوصول لحلّ سياسي للقضية الكردية في تركيا بوفاة أو اغتيال الرئيس التركي (تورغوت أوزال)، والذي يُعتبَر من أبرز الذين حكموا تركيا منذ حكم مصطفى كمال أتاتورك الذي يُعتبَر عرّاباً لمشروع “العثمانية الجديدة”، بعد ذلك بدا واضحاً مدى التزمّت من قبل القيادة التركية والقوميين المتطرّفين في مقاربتهم للقضية الكردية، حيث تُرجمَت تلك المقاربة في شباط عام 1999م بأسر القائد الكردي عبد الله أوجلان، لكن وبما أنّ القضية هي قضية شعب وأمّة فقد ازدادت تعقيداً بدلاً من القضاء عليها أو وأدها، ومع بداية الألفية الجديدة وصل إلى الحكم في تركيا تيّار الإسلام السياسي المتمثّل في “حزب العدالة والتنمية”، ولم يكن في مقدور هذا التيّار أن يعدّل على الواقع الموجود أي شيء يُذكَر، خصوصاً أنّ البلاد كانت تمرّ بمرحلة اقتصادية سيّئة، حيث كانت الأوضاع الاقتصادية للبلاد تتّجه من سيّئ إلى أسوأ.
مراحل زيادة الشرخ
لكن وبسبب التركيز على هذا الجانب فقد تمكّن الحزب الحاكم – إلى حدّ ما – من حلحلة الوضع الاقتصادي للبلاد، ومع تمدّد ثورات الشعوب إلى المنطقة -كما أسلفنا سابقاً- حاولت الحكومة التركية ركوب التيّار الإصلاحي وتدارك الأمور قبل وصولها إلى مصافيها، وفعلاً وبعد أكثر من عقدين وبالتحديد في نوروز من العام 2013م تمّت محاولة الانفتاح على حلّ القضية الكردية داخل تركيا بالطرق السلمية بعيداً عن صوت السلاح، لكن ما جرى بعد ذلك ربّما هو أكبر من الذين يديرون تركيا ظاهرياً، فقد كانت للأحداث والمجريات المتسارعة والمتلاحقة كلمة الفصل في إجهاض هذه المحاولة والعودة إلى نقطة البدء، ويمكننا عرض مراحل زيادة الشرخ فيما يلي بتسلسلها التاريخي لا الحصري:
**دخول الإسلام الراديكالي على الخط في الساحة السورية، وتفضيل الحكومة التركية لهذا التيار على التيار العَلماني المتمثّل في الكُرد على حدودها الجنوبية.
**التزام حكومة “العدالة والتنمية” ورئيسها رجب طيب أردوغان مع حركة الإخوان المسلمين العالمية، من حيث المبدأ والأيديولوجيا العقائدية التي تدير الحركة.
**دخول قوات التحالف الدولي لمكافحة الإرهاب على الخط في سوريا، ومواجهة الحركات الإسلامية الراديكالية، بالإضافة إلى تشكيل تحالف مع القوات المحلية الكردية ذات التوجّه التحرّري واحتكاكها معها لأوّل مرة.
**استغلال الانقلاب العسكري المزعوم في تركيا في سبيل ترسيخ وتعميق السلطة، والقيام بما يناسب ذلك من أجل ترسيخ السيطرة على مفاصل الدولة وإجراء ما يريد من تعديلات دستورية.
**الخروج من تحت عباءة الغرب في تذييل للقائمة الغربية، والاستبدال برأس أو قيادة العالم الإسلامي وخاصةً السنّي في مقابل التمدّد الإيراني “الشيعي” في المنطقة.
ماذا يريد رأس النظام التركي بالضبط؟
لا يختلف النظام التركي عن أي نظام دكتاتوري يقود دولة ما، وعليه فيبدو أنّ نعيم السلطة قد أثّر فيه ووصل معه حدّ النخاع، وبذلك فإنّه قد وصل إلى مرحلة الذروة في حبّ التسلّط وانتقال السلطة ما بين أفراد العائلة، ويتبيّن ذلك من خلال التسريبات التي تصدر من القصر الجمهوري في الصراع المحتدم ما بين أفراد العائلة الأردوغانية، في صورة تذكّرنا بتاريخ الدولة العثمانية، وكيفية صراع الأخوة، وعمليات التصفية في سبيل الوصول إلى قمّة الهرم في الحكم، (ربما يكون هذا الكلام ليس سوى ادّعاءات في الوقت الحالي، ولكن قادم الأيام كفيل بتوضيح الصورة أكثر)، إنّ المشكلة الأساس ليست مع الطبقة المثقّفة في المجتمع، فهذه الفئة على دراية تامّة بحقيقة أردوغان، وكيفية استغلاله للدين وجعله مطيّة له للوصول إلى غاياته ومصالحه الضيّقة، وقد تبيّن ذلك بصورة جلية خلال الكارثة الطبيعية (الزلزال) التي ألمّت بكلّ من تركيا وسوريا في شباط من العام المنصرم، لكن المشكلة الأساس تكمن لدى عامة الناس وخاصةً أولئك الذين يتبعون “سياسة القطيع” خلف التيارات الدينية تحت راية الإسلام والمذهب وإلى ما هنالك.
في الحرب الدائرة حالياً في قطاع غزة يحاول النظام التركي استغلال هذه الحرب في خدمة مصالحه إلى أبعد الحدود، وذلك من خلال إظهار نفسه على أنّه حامي الدين وأسد السُّنّة، وفي المقابل يمارس ما يمارسه الإسرائيليون على الفلسطينيين وربما أكثر من ذلك بكثير بحق الكرد في الداخل التركي وأيضاً في شمال وشرق سوريا بحجج واهية: مثل المحافظة على أمنه القومي، ومحاولة أو طرح فكرة نقل الفلسطينيين من غزّة إلى المناطق المحتلّة من قبلها، والتي بُنيت فيها الكثير من المستوطنات مسبقاً، وكذلك الأحداث الأخيرة في دير الزور لا يمكن تبرئة الساحة التركية كما لا يمكن استبعاد تدخّل الأيادي التركية فيها أيضا، وذلك من خلال فصائلها المنشرة في سري كانيه (رأس العين) وأيضاً الفصائل المنتشرة في غرب الفرات، ويمكننا أيضًا ربط العلاقة ما بينها من خلال الهوى العقائدي “السنّي” في دير الزور وتقرّبه من الاتراك أكثر من أي طرف آخر.
يضيّعون المزيد من فرص التقارب مع الكرد
في المحصلة؛ فإنّ الاتراك بشكل عام يضيّعون المزيد من فرص التقارب مع الكرد على حساب أجندات دينية ومذهبية، ومازالت محاولات دولة الاحتلال التركي مستمرّة في ضرب البنية التحتية لمناطق الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا، وتدمير المرافق الحيوية والاقتصادية والمؤسّسات المدنية، كَردّ فعل مبالَغ فيه بحقّ المدنيين، والتي تزامنت مع التصديق على العقد الاجتماعي من قبل أبناء ومكوّنات المنطقة في اتفاق على حتمية العيش المشترك بينهم، لا يمكن للدولة التركية المضيّ إلى ما لا نهاية في هذا التعنّت في طمس الحقوق تكديس السجون بالمزيد من المُطالِبين بالحريات والحقوق، ولا يمكن “تغطية الشمس بالغربال” كما لا يمكن لسياسة “دفن الرأس في الرمال” أن تستمرّ إلى ما لا نهاية، فالتجارب السابقة مع الكثير من الحروب والكوارث العسكرية تؤكّد أنّه لا بديل عن الجلوس والحوار لوضع الحلول المُستدامة، ولابدّ للحكومات التركية أن تفهم هذه النقطة كما يجب، وعليه فإنّ إهدار المزيد من الفرص والوقت والمال ما هو إلّا خسارة لتركيا “الشعب” قبل تركيا “الحكومة”.
|