×

  رؤا

قراءة في تشوهات الصراع السياسي

14/04/2024

عبدالمنعم الاعسم

باحث ومفكر عراقي

الانصات المركزي  4/12/2010 :

(1) الهجوم والدفاع

المقصود هو الصراع السياسي للفترة بين اعلان نتائج الانتخابات في السابع من آذار 2010 واعلان تكليف مرشح التحالف الوطني نوري المالكي لتشكيل حكومة جديدة في 13 تشرين الثاني 2010 وهي فترة تزيد باسبوع على سبعة اشهر، كانت كافية (اذا ما راجعنا يومياتها بتمعن وتشريح) لرسم ملامح واضحة للاداء السياسي لاطراف العملية السياسية وترسيم مناهجها وتكتيكاتها وشعاراتها السياسية، واحسب انها فترة غنية بالعناصر المثيرة، مليئة بالتداخلات، زاخرة بالصفقات، عدا عن انها تقدم للمحلل الموضوعي سلة من المؤشرات عن "التأثير الخارجي" في مسار الصراع السياسي بين الكتل الفائزة في الانتخابات.

ويجدر التأكيد، بدءا، بان الفترة، موضع التحليل، شهدت اعنف واعقد واخطر ازمة سياسية تعصف بمصير عملية التغيير، وكانت تهدد مستقبل العراق الجديد بموصوفه "الاتحادي الدستوري" وشكل التوازن (الهش اصلا) بين مكوناته، وقد تفاوت الى حد كبير تحَسُب الفئات والزعامات المتناحرة للحريق الذي تشرف عليه البلاد، بين من يدفع اليه دفعا، وبين من يخشى ان يكون طعما لذلك الحريق، وبين طرف ثالث ينتظر حسم المعركة لكي يحدد في اية سلة يضع بيضاته.

وفي مطلع شهور الازمة تشكلت اولى ميادين الصراع بعنوان "حال الحكومة" ما اذا ينبغي ان تستمر كحكومة دستورية ناجزة، ام تتعطل عند وظيفة حكومة تصريف اعمال، ام انها بين تلك وهذه؟ وعلى هامش هذا التعاضض (المبكر) بدأ الهجوم على كابينة رئيس الوزراء من منصات عديدة، واعنفه من منصة المنافسين على قيادة الحكومة الجديدة، فيما رد اصحاب الكابينة بدفاع مستميت عن حصنهم، حينئذ برز اول تشوّه سياسي في الصراع بين المهاجمين والمدافعين: المهاجمون يرفعون شعار "درء الخطر الايراني المستفحل" والمدافعون يطلقون شعار "حتى لايعود البعثيون الى حكم العراق".

والتشوه هنا يمكن قراءته في مستويين، الاول، ان الخطر الايراني نُفخ فيه الى حد فاض عن حقيقته على الارض، كما جرى تسويقه (عن عمد او عن غيره) الى الجانب "العربي" المجاور المتحسس من دور ايران في الشرق الاوسط، والثاني، ان عودة البعثيين الى حكم العراق (برغم بعض النشاطات المسلحة والاعلامية المحدودة لهم) لا ارضية ولا مقومات ولا مؤشرات له على ارض الواقع، والنتيجة، ان مايقال عن الخطر الايراني المحدق بالعراق وعن خطر عودة حكم البعثيين كان قد وُظـّف في عملية تسجيل النقاط للتزاحم على رئاسة الحكومة، وفي تزييت ماكنة الدعاية السياسية للمتزاحمين، دون ادنى انضباط او تقدير للنتائج الكارثية التي قد تسفر عن هذا الاستقطاب.

فاتنا ان نذكر بان التشوه في الصراع السياسي المتمدن يظهر حين يحتكم المتصارعون الى ادوات غير نبيلة لازاحة منافسيهم.. وقد يقول البعض (على سبيل العبث) ان النُبل من لوازم الاخلاق، وبين السياسة والاخلاق مسافة فراسخ.

وكلام مفيد..

“إن الغصون إذا قومتها اعتدلت”.

            شعر

 (2) الغـــش

انتج ملف الهجوم والدفاع، المتخندقين في الفئوية والشخصانية المفرطة، وظائف مشوهة للناطقين باسم المتسابقين الى منصب رئيس الوزراء، اذ توزعوا (وهم من كابينة واحدة) على لغات متناقضة ومتفرقة، ومغشوشة في اغلب الاحيان، وقد يبدو ذلك مربكا للمحللين الذين يعنون برصد حقيقة المواقف والنيات، لكنه صار بضاعة رائجة لاقنية الاعلام التي كانت بحاجة (كل من زاوية ولائها وهدف خدمتها) الى تضارب الخطوط في الكتلة الواحدة، ما يفتح باب الروايات والتكهنات والمعلومات الساخنة، والمثيرة لغبار المعارك.

نعم، ثمة اختلافات طبيعية داخل الكتل السياسية، وهي بائنة لكل المحللين، ولها ما يبررها في كتل تتوزع على ولاءات وزعامات وحسابات متباينة، لكن غير الطبيعي، وعميق التشوّه، هو تصنيع التضارب في الاراء، وركوب التنافس مركب المخاتلة، فهذا يرفع وذاك يكبس، وهذا يشد والاخر يرخي، وهذا الى اليسار وصاحبه الى اليمين، بل واحيانا يدخل بعضم في صوتين متضاربين في سياق قضية واحدة، والهدف من كل ذلك، كما يعتقد اصحاب هذا الاختراع محاولات جس النبض، او إرباك المنافسين، او إطلاق رسائل عابرة للحدود، او التهديد المبطن، الامر الذي اوقع محللين معتبرين ومراسلين معروفين وساسة دول في حيرة ترسيم ما يجري، او مطب عجالة الحكم، اوخطايا سوء التقدير.

وتداولت روزنامة الصراع للاشهر السبعة على رئاسة الحكومة عناوين “الخطوط الحمر” التي تشامرها المتنافسون على بعضهم كألغام تحت طاولات الحوار والمناقشات، وكانت ستنفجر في اية لحظة، لكننا هنا ايضا كنا نتابع كيف كان يلوح اصحاب الازمة بخطوطهم في النهار ويبتلعونها في الليل، تماما مثلما كان الجاهليون ياكلون اصنام التمر التي يعبدونها بعد ان يشعروا بالجوع او ان تصبح عبئا عليهم.

ولنلاحظ، ان ثمة الكثير من المتابعين والاعلاميين والساسة لا يجدون غضاضة في هذه اللعبة، التي يسمونها احيانا “تقاسم الادوار”وقد يعدونها من بعض لوازم الديمقراطية الناشئة، لكن القليلين منهم يتابع الاثار السلبية لهذه اللعبة على الجمهور المتابع، القلق، والمهموم، والخائف، والساخط على ما يجري، وهو وحده الذي دفع ثمن تلك الدوامة السياسية بما يمثله من الملايين العاطلين عن العمل والموظفين الصغار والعاملين على الارصفة والمهمشين والارامل، هذا عدا عن حقيقة ان صناعة الغش وتقاسم الادوار (المسرحية) والضحك على الذقون ليست من مفردات رسالة الاعلام النبيلة: الحقيقة والتنوير، وعدا عن حقيقة موازية رصدها القريبون من يوميات الصراع الذي اندلع بعد اعلان نتائج الانتخابات إذ انقلبت الكثير من المسرحيات على اصحابها وثرمت طاحونة الازمة لاعبين مضوا بالتمثيل شوطا بعيدا.

على انه ليس دائما تعبّر الذنوب عن نفسها بالخيبة، والقصاص، فان ماء كثيرا جرى في سبعة اشهر من الصراع الضاري، وجرّ معه، اوعطـّل، القول الفصل والحكم على اولئك الذين تعاملوا بغش مع بلدهم وشعبهم..الى حين.

 

وكلام مفيد

“نحن نميل الى تصديق اولئك الذين لا نعرفهم، لأنهم لم يغشونا سابقا”.

          شو

 (3) الموقف من الملف الامني

منذ الايام الاولى لاعلان نتائج الانتخابات دخلت قوى الارهاب والعنف والجريمة في سباق مع تجاذبات تشكيل الحكومة الجديدة، وظهر من دون مواربة، بان مخططي التفجيرات والمذابح ضد المدنيين يملكون مهارات عسكرية وتعبوية نافذة، اذ استطاعوا كسر المعادلة الامنية لصالحهم باعتماد اساليب اجرامية جديدة ومتطورة في حين تخندقت الاجراءات الحكومية في عدد محدود ومكشوف من الاساليب والخطط، انتهت في نهاية الامر الى عبء على الملف الامني، ناهيك عن عبئها على حياة المواطنين.

لكن التشوّه السياسي، هنا، يبرز في غياب الموقف الموحد (المفترض) بين اجنحة العملية السياسية حيال النشاط الارهابي الذي تركز على ضرب هيبة الحكومة وتفكيك ثقة السكان بجدارة وسلامة المنظومة الامنية واشاعة التذمر الشعبي من استمرار تساقط المدنيين الابرياء، ففيما يسعى القابضون على القرار السياسي الى تحشيد الرأي العام ضد تحالف القاعدة وفلول النظام السابق وترميم هيبة الحكومة المتداعية بواسطة تشديد السيطرات الامنية وفرض المزيد من الخناق على فتحات الحركة المدنية من وعبر الاحياء الشعبية المكتظة بالسكان، ومراكز المدن (بخاصة العاصمة) والطرق التي تربط المحافظات، يصر منافسوهم، بالمقابل، على القاء المسؤولية على الحكومة والتشكيك بعلاقة القاعدة وحلفائها بالتفجيرات المروعة، وتجهيز سلسلة من التوصيفات الكيفية عن اهداف الضربات الارهابية.

المعسكر الاول يغمز من قناة دول مجاورة الى غرب العراق واتهامها بتحريك طاحونة القتل في البلاد، ومنافسه، المعسكر الثاني يلمح الى مسؤولية جيران الشرق وامعانهم في نشر الفوضى في العراق، الاول يطلق اتهامات مبطنة عن علاقة اصحاب الضربات الامنية بالمنافسين السياسيين والايحاء بوجود تنسيق بين الهجمات والتفجيرات الارهابية والحملة الاعلامية والسياسية التي تستهدف العملية السياسية وتشكيل الحكومة الجديدة، والثاني، يؤلف مطالعات عن وجود خطة “مشبوهة” وراء الهجمات الامنية يراد منها النيل من سمعته وتحجيم نشاطه واعتقال انصاره، ما يشكك بالروايات الرسمية عن اعمال التفجير والقتل.

وفي النتيجة يكون المشروع الارهابي قد حقق، في تلك الهجمات الاجرامية، اهدافا ذهبية تتمثل في تدمير شبكة الاتصالات بين فرقاء ازمة تشكيل الحكومة، وتسميم العلاقة (الهشة اصلا) فيما بينهم، واثارة البلبلة بين المواطنين، بما يخلق فرصا مواتية لتنظيم المزيد من المذابح والهجمات الارهابية، وقد حدث ذلك بالفعل..

وبدلا من تحشيد الارادة الوطنية لاطراف العملية السياسية بمواجهة بؤر الارهاب والانطلاق من الغيرة على حياة المواطنين الابرياء، وتأمين مسيرة البناء والتأسيس، فقد تشظت المواقف بين المتصارعين الى اعتبارات فؤية وكيفية وانانية حيال قضية تهدد مستقبل الوطن ولاتتحمل الاختلاف والاجتهاد والانشقاق.

وطوال سبعة شهور لعب الارهاب المسلح في ساحة مفتوحة، ومنها الى ضرب حلقات تقع في قلب العملية السياسية.. والناس نيام.

 

وكلام مفيد

“ليس كل ابيض طحينا”.

            مثل سويدي

 (4) التعامل مع الخارج

إستدلالا بيوميات الاشهر السبعة لأزمة تشكيل الوزارة سندخل الى ملف حساس ومثير ومحاط باسلاك شائكة وتحيطه الكثير من الشائعات والروايات والظنون، جنب الكثير من الحقائق والمعطيات و”الاعترافات” ونعني به ملف العلاقات بين الكتل الفائزة والدول المجاورة، وبخاصة الكتل المتنافسة على منصب رئيس الوزراء، اذ برز التشوّه السياسي من إشراك تلك الدول في التجاذبات الجارية على هامش الازمة، الامر الذي فاقم الاستعصاء، وضاعف التصلب، ودس سوء القصد وانعدام الثقة واجواء التآمر بين المتنافسين والمتحاورين، واحاط العملية السياسية وفئاتها (وهو الاكثر فجاعة) بالشكوك في نضوجها وقدرتها على النهوض بمهمة قيادة البلاد الى بر الامان.

وعلينا التذكير دائما بحقيقتين معروفتين لدى الجميع، الاولى، ان الدول المجاورة (المؤثرة) في تضاعيف الازمة تتوزع على قطبين متنافرين وإن كانا يتعاملان معها بكفاية من الحذر والسلاسة وتكرار القول انهما يحرصان على امن ومصلحة وسيادة العراق واحترام خيار العراقيين في طريقة الحكم المناسبة لهم، والثانية، ان الجماعات العراقية كانت تعرف ذلك جيدا، وبدلا من النأي عن التناحر بين دول الجوار، او توظيفه في التغلب على الازمة، فقد مضت في التعاطي معه شوطا بعيدا، بل ان الغارات الاعلامية على هذه الدولة من دول الجوار او تلك والطعون بسلامة نيات هذا الجار او ذاك قد غطت وجه الازمة وبدا، من زاوية معينة، بان فرقاء ازمة تشكيل الوزارة يصارعون بعضهم بالنيابة عن الدول المجاورة.

نتحدث هنا عن حصيلة تصريحات وبيانات رسمية ولقاءات صحافية، متداولة على نطاق واسع، حفلت بالمعطيات والوقائع والاتهامات والدفوعات، وأشـّرت الى صورة مؤسفة عن حمية توضيف الدعم مما وراء الحدود في السجالات لكسب التنافس، ولا نتحدث عن خفايا واسرار وتقارير وروايات مخيفة عن سيناريوهات واموال طائلة وإملاءات وخطوط حمر كانت تعرقل، في كل مرة، صيغ اتفاق وتسوية يتوصل لها اصحاب الازمة، ومما له مغزى فان ماكنة اعلام كل فريق من فرقاء الازمة تكفلت انتاج وكشف خطايا الفريق الآخر، وقد تفنن الجميع في تسريب تلك المعلومات الى الواجهات العامة، وبالنتيجة، الى منازل العراقيين الغاضبين حيال هذا العبث، وهذه الدوامة.

فيما يبرز التشوّه اكثر فاكثر في التأويلات التي يطلقها الساسة على اتصالاتهم (الحميمة)بالدول المجاورة، إذ يتحدث البعض عن رسالة كان يحرص على ايصالها الى الدول المجاورة طلبا لتحسين العلاقات الاخوية مع العراق، ومساعدته في درء دورة العنف، وفي اعادة البناء، او دعوة “بريئة” للاطمئنان الى نيات العراقيين والى مستقبل العلاقات بين الطرفين، فإذا كان هذا حقا هدف تلك الاتصالات، فانه سيكون اكثر نفعا وامكانية للتحقيق لو تم بالطرق الديلوماسية وفي ظروف مواتية مسبوقة باجواء الثقة والاستقرار ومن قبل حكومة شراكة تعي اهمية اطفاء بؤر التوتر مع الجيران والسعي الى كسب دعمهم بكرامة تليق بشعب يستحق الكرامة، مرتين، مرة من قبل المتنافسين على السلطة، ومرة اخرى من قبل الدول المجاورة.

 

وكلام مفيد

“من يدعو اعمى الى وليمة يستقبل ضيفين”.

مثل هندي

 

  مواضيع أخرى للمؤلف
←  مستشارون.. أبواق
←  الوطن .. أم الكرسي ؟
←  دماء على رداء الديمقراطية
←  خواطر في التسامح
←  رئيسٌ في التوقيت الصحيح
←  قراءة في تشوهات الصراع السياسي
←  نهوض الوسط الديمقراطي.. رأي في نقاط
←  ​السياسات التركية تحت المجهر
←  التشـهـــيــر..
←  الكرد الفيدرالية والمستقبل
←  الفيدرالية ليست شتيمة
←  فلول البعث وحقوق الانسان
←  العلمانية بريئة من صدام حسين
←  حكمة مام جلال..
←  حلبجه.. الفعل والفاعل
←  ​مــــام جـــــلال قـــائـد للـــعرب
←  كركوك هذه شهادتي
←  علم المسؤولية
←  هل ثمة حاجة لإستمرار الشراكة بين العرب والكرد ؟