المزيد من حروب الطائرات من دون طيار على الأبواب
أدى الانسحاب العسكري الأميركي من أفغانستان في أغسطس (آب) الماضي إلى وضع حد لحربٍ استمرت 20 عاماً. لكنه أدى كذلك، إلى فتح باب الانتقاد على الولايات المتحدة مع تفنيد أفعالها وتمييز الصحيح منها والخاطئ، بحسب سلسلة تحقيقات أجرتها "نيويورك تايمز" أخيراً.
فبالاستناد إلى الوثائق التي استُحصل عليها من البنتاغون بموجب "قانون حرية المعلومات"، كشفت الصحيفة أن الضربات الجوية التي نفذتها الطائرات الأميركية من دون طيار أودت بحياة عددٍ هائلٍ من المدنيين في أفغانستان – عدد يفوق بأشواط الرقم المُعترف به من جانب وزارة الدفاع منذ عام 2018 وهو 188 – ويبدو أنها تتسم بنمطٍ يُطابق إلى حد كبير العمليات الأميركية في العراق وسوريا.
وأكدت أن قرارات الاستهداف كانت متحيزة أحياناً كثيرة: رأى محللو البنتاغون ما كانوا يتوقعون رؤيته وغالباً ما كانوا يعتبرون المدنيين الذين يهبون لنجدة ضحايا الضربات الأميركية، إرهابيين ويُجهزون عليهم أيضاً.
ويُشكل هذا التقرير خطوةً أولى مهمة باتجاه تفسير مواطن القصور في حرب الطائرات من دون طيار التي أطلقتها واشنطن بعد أحداث 11 سبتمبر (أيلول)، خطوة يُفترض بإدارة جو بايدن أن تعول عليها وهي تختتم مراجعتها الخاصة بضربات الطائرات المسيرة خارج مناطق الحرب التقليدية - أو المُعلنة.
لكن حساب حرب الطائرات من دون طيار لا يُمكن أن يكتمل ما لم نتأكد مما إذا كانت السياسات الهادفة إلى تقليل الخسائر المدنية من الضربات الأميركية قد نجحت بالفعل.
وتحقيقاً لهذه الغاية، دأبنا على دراسة بيانات الضربات الجوية من باكستان والتي ورد فيها أن البنتاغون و"وكالة الاستخبارات المركزية" (CIA) نفذا زهاء 400 ضربة في فترة العشر سنوات التي سبقت إقدام إدارة باراك أوباما على تشديد متطلبات الاستهداف.
ففي 2013، غيرت الإدارة معيارها الرسمي من "اليقين المعقول" بعدم وقوع إصابات في أوساط المدنيين إلى "شبه اليقين".
ويُبين التحليل الذي قُمنا به أن هذا التغيير في السياسة هو الذي قلل الخسائر المدنية في باكستان إلى أدنى حد من دون أن يُعطي الإرهابيين ميزةً ملموسةً، مما يعني أن اللجوء إلى معايير استهداف تتسم بنفس القدر من الحزم قد يُنقذ أرواح الأبرياء في مسارح الحرب في العراق وسوريا كذلك.
السعي نحو الدقة
وفقًا لـ"مكتب الصحافة الاستقصائية" غير الربحي الذي يحشد المعلومات من التقارير الإخبارية والبيانات الرسمية والبيانات الصحافية وغيرها من المستندات، تسببت ضربات الطائرات المسيرة الأميركية بمقتل 10 آلاف إلى 17 ألف شخص في أفغانستان وباكستان والصومال واليمن بين 2002 و2020. ويُعتقد أن ما بين 800 و1750 من القتلى كانوا من المدنيين، وكانت أعلى نسبة منهم في باكستان. لكن هذه المجموعات المصنفة من البيانات تحجب الاختلافات في معدل القتل بمرور الوقت - والمعايير التي استخدمتها الإدارات الأميركية المتعاقبة للموازنة بين الحاجة إلى استهداف المشتبه بتورطهم في الإرهاب ومطلب حماية المدنيين.
فإبان العام الأخير لإدارة جورج بوش الابن، ازدادت الضربات مقدار 10 أضعاف عن السنوات الثلاث السابقة مجتمعة.
وفور تولي إدارة أوباما الحكم، بادرت إلى تسريع الخطى في هذا الاتجاه ونفذت في غضون العامين الأولين من ولايتها ثلاثة أضعاف عدد الضربات التي نفذتها إدارة بوش في ولايتها الثانية بأكملها.
وقد أثارت الزيادة المصاحبة في عدد القتلى المدنيين الذي وصل إلى ثلاث وفيات في كل غارة عام 2009، انتقادات واسعة من قبل الأمم المتحدة والمجموعات الرقابية، على غرار "منظمة العفو الدولية" (Amnesty International). وعليه، تبنى أوباما متطلبات أكثر تشدداً للضربات الأميركية في المسارح غير المُعلنة، من ضمنها باكستان.
ورأى النقاد أن هذه السياسة لم تُنجز الكثير. وعلى حد تعبير الخبير القانوني جميل جعفر في كتابه "مذكرات الطائرة من دون طيار" (The Drone Memos) الصادر عام 2016، فإن "القيود الأكثر صرامة التي فرضها أوباما على ضربات الطائرات من دون طيار لم تترك سوى تأثيرٍ هامشي محدود". لكن هذا التحليل لا يستند إلى معدل التغيير في وفيات المدنيين بمرور الوقت، بل إلى الأرقام الإجمالية للضحايا المدنيين. كما أنه لا يُقيم اعتباراً للآليات التي أثر معيار "شبه اليقين" لأوباما من خلالها على النتائج الميدانية. زد على ذلك، مسألة تحول فعالية سياسة أوباما إلى موضوعٍ للنقاش مع عودة دونالد ترمب إلى معيار "اليقين المعقول" الأكثر ليونةً بحلول 2017.
أما تحليلنا، فيتخذ نهجاً مختلفاً مع التركيز على تأثير معيار "شبه اليقين" لأوباما على كل من معدل الخسائر المدنية المبلغ عنها عقب ضربات الطائرات الأميركية المسيرة ومعدل الضربات التي أصابت الأهداف المقصودة. واعتباراً من عام 2011، بدأ المسؤولون الأميركيون في مناقشة إرشادات استهداف أكثر تقييداً، وبدأ أوباما في تصعيد متطلبات الموافقة على الضربات في مناطق النزاع غير المُعلنة - أي باكستان. وبعكس الضربات الأميركية في أفغانستان والعراق والتي استمرت وفقاً لمعيار "اليقين المعقول" الأكثر تساهلاً لأنها غالباً ما كانت دفاعاً عن الجنود الأميركيين، كانت الضربات في باكستان مشروطة بيقينٍ شبه مؤكد من عدم وجود أضرار جانبية. فالهدف النهائي لأوباما، كما أطلعنا كبار المسؤولين عن صياغة وتنفيذ ومراجعة الإصلاح، هو تشجيع القادة ومسؤولي الاستخبارات على توجيه ضربات أكثر دقة قد تُساعد في إعادة ترميم صورة الولايات المتحدة في الخارج بعد موجة الاحتجاجات العامة بشأن مقتل المدنيين.
وبُعيد بدء الإدارة مداولاتها السياسية عام 2011، انخفض عدد الضحايا المدنيين من الضربات الأميركية في باكستان بشكلٍ ملحوظ.
وفي المتوسط، يكشف تحليلنا لبيانات الضربات من "مكتب الصحافة الاستقصائية" أن المداولات وما أعقبها من تحولات سياسية أفضت إلى خفض عدد الضحايا المدنيين إلى 12 ضحية شهرياً أو ضحيتين في كل غارة. وبذلك، تكون السياسة قد نجحت في زيادة دقة الضربات الأميركية - نسبة الضحايا التي كانت الهدف المتوخى من الضربات - إلى 95 في المئة في باكستان. بكلامٍ آخر، في ظل إدارة أوباما، كادت دقة الضربات الأميركية في باكستان أن تُقارب المثالية.
ولو لم يُغير أوباما سياسته، لأودت الضربات الأميركية في باكستان، بحسب تقديراتنا، بحياة مئات المدنيين بين عام 2011 ونهاية ولايته الثانية عام 2017. بالتالي، يُمكن القول إن تراجع عدد الضحايا المدنيين هو أكثر من مجرد خدعة إحصائية: كونه يتمخض عن جهود متعمدة من قبل إدارة أوباما لفرض إجراءات استهداف أكثر صرامة تتضمن تفويض عدد أقل من القرارات للقادة الميدانيين الذين، طبقاً لصحيفة "نيويورك تايمز"، غالباً ما أخطأوا في تحديد المقاتلين بسبب التحيز المعرفي. فقد كانت سياسة أوباما مصممة صراحةً لترسيخ ثقافة "الاستخدام الفعال والتمييزي للقوة" من أجل السيطرة على تحيزٍ مماثل يُمكن أن ينتج من الضغوط التي تفرض نفسها على ساحات المعارك، كالقلق والخوف والرغبة في حماية القوات الصديقة، ولو على حساب تعريض المدنيين لخطرٍ أكبر.
المعضلة الكاذبة
يُظهر الوضع في باكستان أن تطبيق معيار "شبه اليقين" عند تنفيذ غارات الطائرات الأميركية من دون طيار قد يقلل من الخسائر في صفوف المدنيين.
لكن مثل هذا المعيار الصارم يفرض تنازلات لا مفر منها، من بينها نقل قرارات الاستهداف إلى أعلى الهرم القيادي، الأمر الذي يُمكن أن ينتج منه تأخير في الموافقة على الضربات.
وهذا برأي أحد المحللين السياسيين الذين قابلناهم ما "ضيع" على سياسة أوباما "فرصاً" عدة للقضاء على الإرهابيين.
لكن بحثنا يبين أن الحالات التي يكون فيها الوقت عاملاً جوهرياً هي حالات نادرة. فالضربة النموذجية تستفيد من "الفريق الأحمر" الذي هو عبارة عن ممارسة يتم من خلالها الاستعانة بمجموعة خارجية من المحللين والقياديين للتشكيك في مزايا الضربة استناداً إلى كامل الأجهزة الاستخباراتية ومع مراعاة أي ثغرة في المعلومات. والحقيقة أن عدم حدوث هجمات إرهابية كبيرة على الأراضي الأميركية في عهد أوباما هو إشارة جلية إلى أن عتبة الاستهداف الأعلى في باكستان لم تأتِ بتكلفة كبيرة على الأمن القومي.
وإذا كانت عتبة الاستهداف الأعلى قد نجحت في تقليل الخسائر المدنية في باكستان من دون تعريض الأميركيين للخطر، فهناك سبب للاعتقاد بأن تعديلات استهداف مماثلة قد تُفضي إلى النتائج نفسها في البلدان الأخرى حيث تشن الولايات المتحدة حاضراً هجمات بطائرات من دون طيار.
لكن، ثمة عامل واحد يُعقد الأمر، ألا وهو وجود أعداد كبيرة من القوات الأميركية على الأرض. ففي مسارح العمليات المعلنة، كثيراً ما يتم تنفيذ الضربات دعماً للجنود الأميركيين أو دفاعاً عنهم.
ونتيجة ذلك، يحذر النقاد من إمكانية أن تؤول معايير الاستهداف الأكثر صرامة إلى زيادة الخطر على الجنود الأميركيين في ساحات المعارك، حيث يمكن تقييد قدرة القادة على استخدام الطائرات من دون طيار للدعم الجوي القريب.
أما في مسارح العمليات غير المُعلنة حيث يوجد عدد أقل من الجنود الأميركيين على الأرض، تكاد هذه التنازلات أن تكون أقل وضوحاً. ومع ذلك، سيتحتم على إدارة بايدن تحقيق التوازن الصحيح بين الضرورة العسكرية وحماية أرواح المدنيين في مراجعتها المستمرة لبرنامج الولايات المتحدة للطائرات من دون طيار.
بصرف النظر عن مسرح العمليات المحدد، لا بد أن يكون تقليل الخسائر المدنية في الحرب غايةً في حد ذاته، ليس لمجرد أن الولايات المتحدة مُلزمة به بموجب القانون الدولي، بل لأن الخسائر المدنية تُسهل على الإرهابيين تجنيد أتباعٍ لهم. ويشير تحليلنا إلى أن الحد من وفيات المدنيين جراء ضربات الطائرات المسيرة الأميركية لا يأتي بالضرورة على حساب المكافحة الفعالة للإرهاب.
كما يمكن لعتبة أكثر صرامة لضربات الطائرات المسيرة الأميركية أن تقلل من الخسائر بين المدنيين من دون تشجيع العدو وزيادة تعنته.
*بول لوشنكو هو مقدم في الجيش الأميركي وطالب دكتوراه في "جامعة كورنيل" (Cornell University) ومحرر مُشارك لكتاب "الطائرات من دون طيار والنظام العالمي: تداعيات الحرب عن بعد على المجتمع الدولي" (Drones and Global Order: Implications of Remote Warfare for International Society).
*سارة كريبس هي أستاذة في قسم جون ل. ويذريل للشؤون الحكومية ومديرة مختبر سياسات التكنولوجيا في "جامعة كورنيل".
*شيام رامان هو طالب دكتوراه في "جامعة كورنيل" وخبير اقتصادي مساعد في مجال الصحة لدى "مؤسسة ميتري" (MITRE).
*فورين افيرز ، اندبيندنت عربية
|