×

  رؤا

استعصاء التغيير التركي: الشعبوية إلى الأمام!

23/05/2023

شورش درويش

كاتب وصحفي كردي/سوريا

 

كشفت الانتخابات التركية عن استعصاء مشروع التغيير الديمقراطي، وعن فوز آخر للشعبوية في الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية.

 ليس هذا الاستعصاء متأتياً من إحجام الناخب التركي عن الذهاب إلى صناديق الاقتراع، فقد بلغت نسبة المشاركة 87 في المئة وهي نسبة مرتفعة، بل لأن تخيّلات الأتراك لمستقبل بلادهم تأثرت إلى درجة بعيدة بخطابات طرفي الصراع، أردوغان وكليجدار أوغلو.

في شكل ما خاض الأتراك انتخابات الرئاسة التركية محمولين على الاختيار بين نموذجي حكم يحملان ملامح الماضي ورؤاه التبشيرية بالقوّة والعظمة؛ فمشروع العدالة والتنمية الذي يجسّد دولة الأسلاف المحدّثة الحامية للدين و”قيم العائلة المقدّسة” ضد انحرافات المعارضة، واستعراض الحزب  لمشروعاته الكبرى التي تشبه صروح وأبنية السلاطين كمشاهد عاكسة لهيبة الدولة غطّى على كل ما هو تحت السجّادة، مثل تركيزه قبل موعد الانتخابات على أوّل حاملة طائرات تركية، وأول سيارة مصنوعة في تركيا، وأوّل مفاعل نووي تركي، فضلاً عن الطرق العريضة والجسور، والتركيز على التوسّع العسكري في شمال سوريا وكردستان العراق. هذا البعد المشهدي للإنجازات “الصروح” غطّى على الأرقام التي تعكس هشاشة الاقتصاد وانهيار العملة والتضخّم وتنامي الفساد والزبائنية وآثار كارثة الزلزال، وكذا على الانتهاكات وعسف السلطة وتراجع تركيا على سلم الدول الديمقراطية والحريات الصحفية وحقوق الإنسان، وبالتالي قدّمت الشعبوية نفسها على أنها حامية المجتمع من الانحرافات وأنها حصن الدولة في وجه الهوان والضعف و”التقسيم” والمؤامرات الخارجية التي قد تحصل حال وصول المعارضة للسلطة.

فيما مثّل النموذج المغاير الذي بشّر به كمال كليجدار أوغلو (الكمالية الجديدة) شكلاً آخر للنوستالجيا التركية، حيث إعادة تصحيح مسار البلد لأجل أن يصبح حداثياً وفق التوجّه التاريخي لمؤسس الجمهورية مصطفى كمال أتاتورك، غير أن الحداثة الشكليّة التي دعا إليها كليجدار أوغلو أبدت الكثير من عدم الاكتراث للعوامل التي ترسم الحضور السياسي في البلد كالدين والتقاليد المحافظة، وبالتالي محاولة استعادة النموذج العلماني الأتاتوركي دون الأخذ بالاعتبار الفوات التاريخي الذي يعانية هذا النموذج، وإذا كان صحيحاً أن كليجدار أوغلو أجاد طرح برامجه الانتخابية مشفوعة بالأرقام ومشاريع التنمية والرفاه الاجتماعي إلّا أن سنه المتقدمة وغياب البعد الكاريزميّ في  شخصيته لم يطمئن ناخبي جيل (Z)، فيما يعرف جيل (Y) الأكبر سنّاً فشل الأحزاب العلمانية في صياغة حكومات قويّة عبر التاريخ

. كما أن خطابات سوء الأحوال المعيشية والتندر بارتفاع أسعار البصل مقابل صناعة الدولة لحاملة طائرات لم يحفر الكثير في وجدان الجموع الذاهبة للانتخاب.

لم يستفد كليجدار أوغلو من الدفقة الكبيرة التي قدّمها له حزب اليسار الأخضر والناخبين الكرد، فإذا حذفنا نسبة مصوّتي الولايات الكردية والحضور الكردي في أنقرة واسطنبول لارتدت أصواته إلى مستويات أدنى وربما كان أردوغان قد حسم المعركة من الجولة الأولى، الأدهى من ذلك أن أردوغان في غمار دعايته الانتخابية لم يتوجّه إلى “علويّة” خصمه بقدر ما شدّ من عصب الناخب التركي بتصويره لكليجدار أوغلو حليفاً لحزب العمال الكردستاني وبالاعتماد دائماً على نمط دعاية مبتذل، لكنها دعاية تلقى الكثير من الرواج داخل المجتمع القومي التركي الذي يمكن إضافة أصواته إلى أصوات أردوغان بأي حال، وقد يكون لهذا الاتهام دوره في انزياح طبقات كاملة داخل تحالف طاولة الستة للإحجام عن انتخاب زعيم المعارضة كما في حالة أنصار حزب الجيد اليميني المتطرّف المناوئة أصلاً لترشيح كليجدار أوغلو عن الطاولة، وربما يكون ذلك سبباً في اختيار ناخبين آخرين للمرشح المغمور سنان أوغان بوصفه الأهون بين شرّين.

الجولة الثانية للانتخابات يبدو أنها لن تشذّ عن الأولى؛ ففي الغالب سيفوز أردوغان سواء انسحب كليجدار أوغلو من السباق الانتخابي أم استمر، وسواء تحالف مع سنان أوغان أم لا؛ فالخصمين استنفذا منسوب الخطابات والبرامج والوعود، وما عاد بوسعهما تقديم أيّ جديد مؤثّر على المشهد الانتخابيّ.

صحيح أن الخروق الانتخابية والتلاعب الإعلامي الذي قدّمته وكالة أناضول والإعلام الحكومي كان لهما دور في تعزيز موقع أردوغان الانتخابي ولو بشكل طفيف، إلّا أن تقدّمه الفعلي في المناطق الفقيرة وسط الأناضول وخارجها، عدا مناطق جنوب شرق  الفقيرة حيث يشكّل الكرد أغلبية قومية، والمناطق التي ضربها الزلزال يكشف عن سحر الشعبوية وفعاليتها في استقطاب من يفترض أنهم ضحايا سياسات الفساد والتهميش والإفقار، وأنهم أصحاب المصلحة المباشرة في التغيير.

إن تقدم الشعبوية على لغة البرامج تزامناً مع ذكرى مئوية الجمهورية التركية (1923-2023) قد يقود العدالة والتنمية وتحالفه الحاكم، وخاصة بعد تمكّنه من الفوز بالأغلبية البرلمانية أيضاً، للتحوّل من حكومة إلى “نظام” (regime) متكامل حتى وإن خرج أردوغان من الحياة السياسيّة مستقبلاً، بالتالي تحوّل الحكم من شبه سلطوي، كما يوصف الآن، إلى سلطوي مطلق، ما يعني أن مشروع تحوّل الدولة التركية من دولة صناديق الاقتراع “الصندوقراطية” إلى دولة ديمقراطية بات متعذّراً إن لم نقل مستحيلاً.

والحال، إن جميع الذين حاولوا التغيير خسروا في شكل ما: خسر الكرد الذين حاولوا الخروج من إسار الحالة القومية والذهاب إلى تبنّي قضايا المهمّشين والأقليات الأخرى وإدماجها في القضية الكردية، وخسر كليجدار أوغلو الذي حاول التصالح مع الدين والتعدّد القومي، فيما بدا أن معسكر الفائزين اقتصر على المحافظين والقوميين المتطرّفين. هل يعني ذلك احتمال تراجع كل الطامحين في التغيير عن رؤاهم الحالمة لمستقبل أفضل وأكثر تقدّمية؟ هذا ممكن ومتوقّع لكنه مكلف ومؤلم ورجعيّ.

*وكالة نورث برس

 

 

  مواضيع أخرى للمؤلف