*د. منى سليمان
*انترريجيونال للدراسات الاستراتيجية
شهدت معظم الأحزاب التركية خلال الآونة الأخيرة انتخابات داخلية بها؛ فقد تم إعادة انتخاب الرئيس التركي "رجب طيب أردوغان" رئيساً لحزب "العدالة والتنمية" الحاكم، كما أجرى حزب الشعب الجمهوري المعارض مؤتمره العام الذي شهد فوز مرشح تيار "التغيير" "أوزغور أوزيل" برئاسة الحزب، وخسر رئيسه المرشح الرئاسي السابق "كمال كليتشدار أوغلو" نتيجة تصاعد الانتقادات له منذ مايو الماضي عند خسارته الانتخابات الرئاسية أمام "أردوغان"، وقد مثَّل فوز "أوزيل" تغيراً في قيادة وفكر أكبر أحزاب المعارضة التركية؛ الأمر الذي سينعكس على معطيات المشهد السياسي التركي داخلياً؛ حيث تستعد كافة الأحزاب لإجراء الانتخابات المحلية المقررة في ربيع 2024، وتعهد كل من "أردوغان" و"أوزيل" بالفوز فيها.
تحولات داخلية
عقد حزب "العدالة والتنمية" الحاكم مؤتمراً عاماً استثنائياً هو الرابع له منذ تأسيسه عام 2001 في 5 أكتوبر 2023، وتم إعادة انتخاب "أردوغان" رئيساً للحزب بالإجماع ولم يترشح منافسون له، بيد أن الانتخابات أسفرت عن تغيير نصف أعضاء مجلس القرار المركزي للحزب المكون من 75 عضواً، وتغيير 4 أسماء فقط في المجلس التنفيذي المركزي للحزب المكون من 19 عضواً بينهم "أردوغان"، فيما عقد حزب "الجيد" المعارض في 24 يونيو 2023 مؤتمره العام الثالث بأنقرة، وفازت برئاسته للمرة الثالثة رئيسته الحالية "ميرال أكشنار". وكانت النتيجة متوقعة في الحزبين، في المقابل عقد حزب "الشعب الجمهوري" المعارض أقدم الأحزاب التركية الذي تأسس عام 1923، مؤتمره العام الـ38 يومي (4-5) نوفمبر 2023، وهو المؤتمر الذي كشف عن عدد من الدلالات المتمثلة فيما يلي:
1-انتخابات داخلية محتدمة:
تولى رئيس بلدية إسطنبول "أكرم إمام أوغلو" القيادي بحزب "الشعب الجمهوري" رئاسة ديوان المؤتمر العام العادي الـ38 للحزب الذي عقد يومي (4-5) نوفمبر 2023 تحت شعار "الديمقراطية والوحدة في المئوية الثانية للجمهورية التركية"، وشهد انتخاب رئيس جديد للحزب، وأعضاء جدد للمجلس المركزي التنفيذي ومجلس التأديب، وترشح لرئاسة الحزب رئيسه السابق "كمال كليتشدار أوغلو" (74 عاماً)، والقيادي الشاب رئيس تيار "التغيير" بالحزب "أوزغور أوزيل" (49 عاماً)، وشارك في الانتخابات (1368) مندوباً.
وقد أجريت الانتخابات على جولتين سادهما التوتر؛ حيث لم يحسم أي من المرشحين منصب الرئيس من الجولة الأولى؛ فقد حصل "أوزيل" فيها على (682) صوتاً مقابل (664) صوتاً "لكليتشدار أوغلو"؛ حيث يتعين على الفائز بمنصب الرئيس الحصول على ثلثي أصوات مندوبي الحزب، وهو ما حققه "أوزيل" في الجولة الثانية بحصوله على (812 صوتاً)، لينهي بذلك رئاسة "كليتشدار أوغلو" للحزب لمدة 13 عاماً وقد اعترف الأخير بالهزيمة وسلم رئاسة الحزب مباشرة للفائز، وسيواصل عمله عضواً في الحزب فقط؛ لأنه لم يخض الانتخابات البرلمانية الأخيرة بسبب ترشحه للرئاسة ولم يصبح نائباً بالبرلمان، وبهذا تكون حقبة "كليتشدار أوغلو" التي امتدت خلال العقدين الماضيين قد انتهت، بعدما رفض فيهما أي دعوات للتغيير أو الاستقالة بعد هزيمته بالانتخابات الرئاسية الماضية التي أجريت في مايو 2023، كما رفض الاعتراف بمسؤوليته عن خسائر الحزب الانتخابية المتتالية.
2- فوز "أوزيل" وبدء "التغيير" بقيادة وفكر الحزب:
يمثل فوز "أوزغور أوزيل" بداية مرحلة جديدة من تاريخ حزب "الشعب الجمهوري" تعتمد على القيادات الشابة والفكر الجديد ليواكب مقتضيات العصر الحالي، وقد تمكن من خوض الانتخابات الحزبية بعد حصوله على دعم (5٪) من مندوبي الحزب، وهو صيدلي شاب من ولاية أزمير معقل حزب الشعب الجمهوري، وقضى بها معظم حياته، ولا يتمتع بخبرة سياسية واسعة، وتم اختياره ليصبح رئيساً لجمعية الصيادلة بتركيا، وخاض الانتخابات البرلمانية عن مدينة مانيسا عام 2011 وفاز بها، ثم تولى منصب نائب رئيس المجموعة البرلمانية للحزب عام 2015، وفي مايو 2023 أصبح رئيساً للمجموعة ثم استقال ليترشح لرئاسة الحزب.
يعرف عن "أوزيل" أنه سياسي تكنوقراطي لا يجيد الخطابة ولا يمتلك شخصية قيادية أو كاريزما خاصة "كأردوغان" أو "أكرم أمام أوغلو"، بيد أنه يجيد عمله للغاية، وله صلات متميزة بأعضاء حزبه وبين مدينته، وماهر في العمل الحزبي، وقد وجه خطاباً قصيراً بعد فوزه أوضح فيه أنه سيعمل على "كتابة تاريخ جديد وإعادة تشكيل السياسة التركية"، وأن هدفه هو "تحويل اليأس إلى أمل لتعويض الحزن والانكسار اللذين عشناهما عقب الانتخابات الأخيرة، والتركيز على مناقشة مشروع الموازنة الجديدة في البرلمان، والاستعداد للانتخابات المحلية المقبلة"، وبهذا يكون قد حدد أولويات عمله رئيساً للحزب، التي تتوافق مع أغلبية مواقف أعضاء الحزب والموقف العام التركي. وفيما يخص الشأن الخارجي، دعا "أوزيل" المجتمع الدولي لإحلال السلام في فلسطين والشرق الأوسط وإنهاء التوترات المتصاعدة، ودعا إسرائيل إلى منع إزهاق مزيد من الأرواح بفلسطين.
3- الدور المحوري لأكرم أوغلو في الحزب:
كان رئيس بلدية إسطنبول الكبرى "أكرم إمام أوغلو" القيادي بحزب الشعب الجمهوري أول من أطلق الدعوة "للتغيير" داخل قيادة الحزب وآليات عمله، والاعتماد على آساليب جديدة تضمن الفوز في الانتخابات المحلية والرئاسية المقبلة، وألمح إلى رغبته في الترشح في الاثنتين عن الحزب عمدةً لأسطنبول عام 2024 ثم رئيساً للبلاد عام 2028، وأكد "إمام أوغلو" في 8 أكتوبر 2023 أن هدفه هو الفوز بالانتخابات البلدية؛ ما يؤكد عزمه الترشح فيها للمرة الثانية، وأوضح أن "الشعب التركي يرغب في تولي الشعب الجمهوري للرئاسة، ومهمتنا طرح خيار السلطة"، ثم أعلن "أكرم إمام" تأييده لترشح "أوزيل" رئيساً لحزب الشعب الجمهوري، وكثف صلاته وعلاقاته داخل الحزب لدعمه وتأكيد ضرورة فوز تيار "التغيير" لاستعادة شعبية وقوة الحزب، ولولا هذا الدعم ما كان فاز "أوزيل" بمنصبه الجديد، وللمقربين من الطرفين فإنه من المعروف علاقة الصداقة الوثيقة التي تربط كلا من "أكرم إمام أوغلو" مع "أوزيل" منذ سنوات طويلة داخل الحزب.
وقد شبه البعض ذلك بالصداقة بين "أردوغان" والرئيس السابق "عبد الله جول"؛ حيث قادا معاً حزب "العدالة والتنمية"، وحققا الفوز في كافة الانتخابات التي خاضها الحزب؛ ولذا وصف البعض أن رئاسة حزب الشعب الجمهوري ستكون "ثنائية" يشارك فيها "أمام أوغلو" مع "أوزيل"، لا سيما بعد زيارته له للتهنئة على فوزه برئاسة الحزب، وتعهدا بالعمل معاً لتطوير الحزب وتحقيق أهدافه.
4- انتقاد "أوزيل" الأول "لأردوغان":
وصف رئيس حزب الشعب الجمهوري الجديد "أوزغور أوزيل" في 11 نوفمبر 2023 "أردوغان" بأنه "انقلابي"؛ ما يعد أول مواجهة كلامية بينهما، واتهمه بأنه "لا يملك عدد نواب كافياً لتغيير الدستور، ولم يعطك الشعب هذه السلطة؛ ولهذا السبب أنت انقلابي"؛ وذلك للتعليق على الأزمة القضائية بالبلاد عقب الخلاف بين المحكمة الدستورية ومحكمة النقض بشأن قضية المحامي المعتقل "جان أتالاي" (47 عاماً) الذي أمرت المحكمة الدستورية الشهر الماضي بالإفراج عنه، بيد أن محكمة النقض رفضت، وقدمت شكوى جنائية ضد أعضاء المحكمة الدستورية، وقد أيد "أردوغان" موقف محكمة النقض، وأوضح "أوزال" كذلك أن "تركيا دولة ذات تقاليد دستورية قوية للغاية، لكن حزب العدالة والتنمية يحاول إلغاء الدستور في البلاد، وهذه محاولة للقضاء على النظام الدستوري من قبل أردوغان، وكأننا أمام انتفاضة بقيادة أردوغان ضد إرادة الشعب".
مكانة الحزب
تواجه أحزاب المعارضة التركية لا سيما "الشعب الجمهوري" وقيادته الجديدة العديد من التحديات خلال الأشهر الأربع المقبلة وحتى موعد الانتخابات المحلية في مارس 2024 التي ستمثل اختباراً حقيقياً لمدى شعبيتهم أمام الحزب الحاكم ورئيسه "أردوغان"، ومن بين تلك التحديات ما يلي:
1- رفع شعبية حزب الشعب الجمهوري:
كشفت بعض استطلاعات الرأي التي تم إجراؤها مؤخراً عن تراجع الاهتمام السياسي للأتراك بنسبة 85 % بعد الانتخابات الرئاسية والبرلمانية الماضية، كما كشف استطلاع رأي عام أجرته مؤسسة (Asal) التركية خلال الفترة من (5–10) أكتوبر 2023 عن تراجع شعبية كافة أحزاب المعارضة مقابل حزب "العدالة والتنمية" الحاكم الذي حصل على (34.5%) من الأصوات، بينما تراجع حزب الشعب الجمهوري إلى 20.2% بعدما كانت شعبيته 25.80% في انتخابات مايو الماضي، وزادت شعبية حزب "الحركة القومية" فحصل على 12.1% بعدما كانت شعبيته 10.30% من الأصوات في انتخابات 14 مايو؛ ما يضع أول تحدٍّ أمام "أوزيل" وهو استعادة ثقة الناخبين والقواعد الشعبية لحزب الشعب الجمهوري الحاكم، وإثبات قدرته السياسية على حشد المزيد من الأصوات والناخبين له؛ حيث يجب عليه رفع نسبة تأييد الحزب إلى (30٪) على الأقل ليضمن الفوز بنتائج مرضية بالانتخابات المقبلة.
2- الحفاظ على تحالف "الأمة المعارض":
شهد تحالف "الأمة" المعارض المكون من ستة أحزاب متنوعة التوجهات العلمانية والمحافظة والقومية هي (الشعب الجمهوري، الجيد، السعادة، الديمقراطية والتقدم، المستقبـل)، تجميداً لنشاطه منذ خسارة الانتخابات الرئاسية في مايو 2023، وأصبح كل حزب في البرلمان يتصرف كما يشاء دون تنسيق وتوافق فيما بينهم، وهو ما انتقده "أوزيل"؛ حيث أكد رفضه منح (39) نائباً من الشعب الجمهوري لأحزاب التحالف لضمان وجودهم بالبرلمان، ولم يعلن صراحة عن موقفه من التحالف هل سيستمر أم سيتم حله، بيد أن استمراره سيكون أفضل لكافة أحزابه؛ لأنه سيمنحها المزيد من التكاتف والأصوات خلال الانتخابات المقبلة، لا سيما في ظل ارتفاع شعبية تحالف "الشعب" الحاكم المكون من أحزاب (العدالة والتنمية، الحركة القومية، النصر، الهدى، الرفاه). وجدير بالذكر أن "أردوغان" قد دعا رئيسة حزب "الجيد" المعارض "ميرال أكشينار" للانضمام لتحالفه بيد أنها رفضت؛ ما يعيد المخاوف من تفكك التحالف المعارض الذي سيكون لصالح "أردوغان".
3- الإعداد للانتخابات المحلية المقبلة:
تستعد كافة الأحزاب التركية للانتحابات المحلية المقبلة في مارس 2024 التي ستشهد معركة شرسة، نظراً إلى رغبة "أردوغان" في استعادة السيطرة على الولايات الكبرى (أسطنبول وأنقرة وأزمير) التي خسرها في انتخابات عام 2019، وقد أجرت مؤسسة "سونار للدراسات" التركية مطلع نوفمبر 2023 استطلاع للرأي لرصد شعبية المرشحين المحتملين في الانتخابات المحلية المقبلة لبلدية إسطنبول الكبرى، المقرر إجراؤها في 31 مارس 2024؛ حيث حصد عمدة إسطنبول الحالي "أكرم إمام أوغلو" على أعلى نسبة تصويت بواقع (37.2 %) مقابل (31.6%) للوزير السابق "مراد كوروم" و(13.3%) لوزير الداخلية السابق "سليمان صويلو". والوزيران من المرشحين المحتملين لحزب "العدالة والتنمية" الحاكم بالانتخابات المحلية المقبلة عن إسطنبول؛ ما يؤكد أن "أمام أوغلو" ما زال يتمتع بشعبية مرتفعة في منصبه تؤهله لإعادة انتخابه مرة أخرى.
وقد أعلنت "أكشينار" أنها ستخوض الانتخابات المحلية بعيداً عن تحالف الأمة، وهو موقف ربما تعتمده كل أحزاب التحالف للحصول على أكبر عدد من المقاعد بالانتخابات وتأكيد شعبيتها في قواعدها الحزبية بشتى المحافظات والولايات التركية، بيد أنها ربما تعزز التحالف بعد ذلك وتدعم ترشح "إمام أوغلو" للانتخابات الرئاسية في 2028، لا سيما أنها كانت من أشد المؤيدين لترشحه بدلاً من "كمال أوغلو" في انتخابات 2023. وحتى الآن لم يحدد "أردوغان" مرشحي حزبه في الانتخابات المحلية المقبلة في ظل صراع داخلي بالحزب بين عدد من قياداته ووزرائه السابقين للترشح عن الولايات الكبرى.
الخلاصة
فوز "أوزيل" أنهى الانقسام داخل حزب "الشعب الجمهوري" أكبر أحزاب المعارضة التركية بين الحرس القديم الممثل في "كليتشدار أوغلو" وأنصاره وتيار "التغيير" الذي قاده "أوزيل وإمام أوغلو"، وهو ما يضمن للأخير دعم الحزب له للفوز في الانتخابات المحلية المقبلة؛ وبهذا يكون تيار "التغيير" قد تمكن من فرض كلمته ليدشن مرحلة جديدة من حياة الحزب يسعى لاستعادة الفوز فيها بالانتخابات المحلية عام 2024 والرئاسية عام 2028، بيد أن هناك عدداً من التحديات ستواجه طموحه هذا؛ أبرزها قوة وشعبية الحزب الحاكم، ومحورية شخصية رئيسه "أردوغان"؛ الأمر الذي سيعيد ترتيب المشهد السياسي التركي ككل وسيكون الاختبار الأول لهم في الانتخابات المحلية المقبلة المقررة في مارس 2024.