×

  شؤون قانونية

  الدور المتعاظم للمحكمة الاتحادية في العراق وأثره السياسي



مركز الإمارات للسياسات

|في ظل الأزمة السياسية المستمرة في العراق نتيجةً لعدم الوصول إلى اتفاق سياسي لتشكيل حكومة جديدة بعد الانتخابات البرلمانية التي جرت في أكتوبر 2021، برز دور المحكمة الاتحادية العليا كمرجع حاسم في توجيه المسار السياسي وبطريقة غير مسبوقة، على الأقل منذ الحكم الجدلي للمحكمة الاتحادية الصادر عام 2010 فيما يخص "الكتلة الأكبر" التي تؤلّف الحكومة، والذي مكّن رئيس الوزراء الأسبق، نوري المالكي، من الحصول على غطاء قانوني لاستمراره في منصبه رغم حلول قائمته الانتخابية بالمركز الثاني.

 

المحكمة بلون جديد

بعد وفاة أو تقاعد بعض أعضاء المحكمة الاتحادية، تعطّل عملُها نتيجة الخلاف بين رئيس المحكمة السابق، مدحت المحمود، ورئيس مجلس القضاء الأعلى، فائق زيدان، حول مَن له الحق في تسمية الأعضاء الجدد للمحكمة. وتسبب هذا التعطيل في إيقاف عمل المحكمة والحدّ من تأثيرها، خصوصاً في فترة سياسية حرجة شهدت تشكيل حكومة جديدة من دون تسمية الكتلة الأكبر عام 2018، ومن ثم اندلاع احتجاجات واسعة في أكتوبر 2019 تسببت باستقالة حكومة عادل عبدالمهدي، وتكليف حكومة جديدة برئاسة مصطفى الكاظمي مهمتها الأساسية تنظيم انتخابات مبكرة.

 

ويبدو أن الحاجة الملحة للدور الذي تلعبه المحكمة ساعد في تحريك المياه الراكدة، خصوصاً مع نجاح فائق زيدان في تكريس نفوذه السياسي وبشكل فرض على المحمود التنازل عن موقفه. فبناءً على مقترح من مجلس القضاء الأعلى أصدر البرلمان في مارس 2021 تعديلاً على قانون المحكمة الاتحادية يقضي بأن يتولى رئيس مجلس القضاء ورئيس المحكمة الاتحادية ورئيس الادعاء العام ورئيس جهاز الإشراف القضائي مسؤوليةَ اختيار رئيس المحكمة الاتحادية وأعضائها، وتم إثر ذلك إحالة رئيس وأعضاء المحكمة السابقين على التقاعد، وتشكيل محكمة جديدة بالكامل برئاسة جاسم محمد عبود، الذي شغل منصب رئيس محكمة استئناف بغداد/الرصافة، ورئاسة الإشراف القضائي سابقاً.

والملاحظ أن جميع الأعضاء الجدد هم من أعمار أصغر نسبياً من أعضاء المحكمة السابقة، بما يوحي بأن الطاقم الجديد لديه طموحاته وربما هو أكثر اندفاعاً من الطاقم القديم لإثبات دور المحكمة في سياق سياسي مختلف عما كان عليه الحال بعد عام 2003. وفي الوقت نفسه، يبدو أن غالبية أعضاء المحكمة الجدد غير متخصصين بالقانون الدستوري (الذي لا يزال تخصصاً ضعيفاً في العراق)، الأمر الذي قد يُلقي بظلاله على طبيعة الأحكام التي يصدرونها في القضايا المختلَف عليها دستورياً.

 

 

الانسداد السياسي والمحكمة كقوة حسم

من جهة أخرى، فإن العامل الأكثر أثراً في تفعيل دور المحكمة هو الانقسام السياسي الذي تبع انتخابات أكتوبر 2021، خصوصاً بين "الكتلة الصدرية" الفائزة بالعدد الأكبر من المقاعد، وتجمع قوى "الإطار التنسيقي" الذي يضم القوى الشيعية الرئيسية الأخرى. إذ إن ذهاب مقتدى الصدر باتجاه تشكيل تحالف ثلاثي مع "الحزب الديمقراطي الكردستاني" وتحالف "السيادة" السُّني (الحلبوسي/الخنجر)، دون الاتفاق مع بقية القوى الشيعية، وإصراره على استبعاد بعض تلك القوى، وبشكل خاص ائتلاف "دولة القانون" بزعامة نوري المالكي، يمثل سابقةً غير معتادة، حيث جرت العادة أن يتم التوصل إلى صفقة شاملة (تتضمن إنشاء تحالف شيعي كبير لتسمية رئيس الحكومة) قبيل انعقاد جلسة البرلمان وانتخاب رئيسه. لذلك ذهب "الإطار التنسيقي" إلى البحث عن الأداوت التي تسمح له بإعاقة عملية تشكيل حكومة أغلبية من دون أن يكون جزءاً منها، وكان من أهم تلك الأدوات تقديم الطعون إلى المحكمة الاتحادية.

كانت القضية الأولى التي أحالها "الإطار التنسيقي"، وبشكل خاص تحالف "الفتح" بزعامة هادي العامري، إلى المحكمة الاتحادية هي طعنه بنتائج الانتخابات وادعائه وجود عمليات تزوير واسعة فيها، وقد ردَّت المحكمة بنود هذا الطعن (مُحتجةً بشكل أساسي بعدم الاختصاص)، وصادقت على نتائج الانتخابات. كان هذا القرار حاسماً في دفع القوى المعترضة إلى القبول بنتائج الانتخابات، والتوقف عن الاحتجاج في الشارع، والانتقال إلى المفاوضات السياسية. بعدها، جاء الطعن الثاني فيما يتعلق بجلسة البرلمان الأولى، التي جرى فيها انتخاب رئيس البرلمان (محمد الحلوبسي) ونائبيه (حكَم الزاملي وشاخوان عبدالله)، بموجب اتفاق أطراف "التفاهم الثلاثي" وبعد انسحاب أعضاء "الإطار التنسيقي" من الجلسة. ومجدداً، ردّت المحكمة الطعن وحكمت بدستورية الجلسة.

وبينما بدا أن مسار قرارات المحكمة منسجمٌ مع توجهات أطراف "التفاهم الثلاثي"، فإن قراراتها التالية انصبت في مصلحة "الإطار التنسيقي" والأطراف المقربة منها، وفي مقدمتها "الاتحاد الوطني الكردستاني". حيث جاء قرارها باشتراط حضور ثلثي أعضاء مجلس النواب لجلسة انتخاب رئيس الجمهورية لتعقّد على أطراف "التفاهم الثلاثي" المضي بتشكيل حكومة أغلبية وفرضها كأمر واقع، بسبب صعوبة توفير مثل هذا النصاب من دون التفاهم مع "الإطار التنسيقي" و"الاتحاد الوطني الكردستاني". تلا ذلك قرار المحكمة بإبطال ترشيح هوشيار زيباري، مرشح "الحزب الديمقراطي الكردستاني"، لمنصب رئيس الجمهورية، بسبب إقالته سابقاً من البرلمان بدعوى إساءة استغلال المال العام، وهو القرار الذي جاء بمنزلة ضربة أخرى لتفاهمات "الديمقراطي الكردستاني" مع الصدر وتحالف "السيادة". وسيكون لقرار المحكمة المقبل بشأن البتّ بدستورية قرار رئيس مجلس النواب إعادة فتح باب الترشيح لمنصب الرئيس أثرٌ مهم في تحديد ما إذا كان بوسع "التفاهم الثلاثي" التصويت لمرشح "الديمقراطي الكردستاني" البديل، أم أن هذا الباب قد أُغلق تماماً.

 

قرار المحكمة بشأن قانون النفط والغاز في كردستان والآثار المترتبة

وإذا كانت هذه القرارات قد جاءت في سياق الأزمة السياسية ولتفكيك انسداداتها، وتأكيد وجود المحكمة كحكَم نهائي بين الفرقاء في ظرف من الانقسام السياسي الشديد، فإن قراراها الصادر في 15 فبراير 2022 بعدم دستورية قانون النفط والغاز الذي سنَه إقليم كردستان عام 2007، والحُكم بعدم قانونية عقود النفط والغاز التي وقعتها حكومة الإقليم جاء مفاجئاً من حيث توقيته وأهميته. فمن جهة، خلافاً للقرارات السابقة التي تتعلق بتوقيتات ضاغطة لانتخاب الرئيس وتشكيل الحكومة، لم يكن هناك سبب مُلح لإصدار هذا القرار في هذا التوقيت. فالدعوى المقامة من وزير النفط الاتحادي بخصوص هذه القضية تعود إلى عام 2012، ولم تكن حكومة مصطفى الكاظمي مُهتمةً في هذه المرحلة بالمضي بالدعوة، ونظراً لأن الخلاف الطويل في تفسير بنود الدستور بين بغداد وأربيل كان يمكن أن يجد مخرجاً سياسياً في هذه الدورة البرلمانية، مع اشتراط "الديمقراطي الكردستاني" إصدار قانون اتحادي للنفط والغاز مقابل دعم الحكومة التي يسعى الصدر إلى تشكيلها.

ومن جهة أخرى، فإن لهذا القرار تأثيرٌ مهم من حيث إنه أول قرار يقدم تفسيراً للبنود الدستورية المختلَف عليها المتعلقة بالفصل بين صلاحيات الحكومة الاتحادية وحكومة الإقليم، وإصداره بشكل بدا للكثيرين –بمن فيهم الحكومة العراقية– مباغتاً، يثير تساؤلات حول الدوافع وفيما إذا كان القرار قد خضع لما يكفي من الدراسة والتدقيق. وهناك تفسيران لإصدار هذا القرار وفي هذا التوقيت:

 

 الأول، أن المحكمة الاتحادية أرادت أن تؤكد دورها وسلطتها الممنوحة لها دستورياً، والتوقف عن أن تكون أسيرة للتوافق السياسي، والاتجاه نحو حسم الملفات العالقة بدل الاستمرار بالتسويف، ولغرض وضع الأطراف السياسية أمام مسؤولياتها.

الثاني، أن يكون القرار مدفوعاً من قبل قوى "الإطار التنسيقي"، التي يُعتقد أن لبعضها نفوذاً على رئيس المحكمة وبعض أعضائها، لغرض معاقبة "الديمقراطي الكردستاني" الذي يقود حكومة إقليم كردستان على تفاهماته المنفردة مع الصدر، وسحب ورقة أساسية من أربيل فيما يتعلق بصفقة تشكيل الحكومة المقبلة.

 

أما من ناحية الأثر المترتب على هذا القرار، فإنه بينما كان رد فعل حكومة الإقليم متوقعاً من حيث اعتبار القرار "مُسيساً" ويعكس عقليةً "مركزية"، وأن حكومة الإقليم لن تتخلى عن "الحقوق المشروعة" لشعب كردستان، فإنه على المدى الأبعد قد يحرك المياه الراكدة بخصوص ملف النفط والغاز محل النزاع لفترة طويلة، ويفرض سقفاً محدداً للمساومة السياسية، ويجبر الحكومة الاتحادية على تبني التفسير الذي اعتمدته المحكمة الاتحادية في أي اتفاق مستقبلي، بما يعني رفض أي عقود منفردة وقّعها الإقليم في مجال النفط والغاز، وعدم السماح للإقليم بتصدير نفطه بشكل مستقل.

 

ولكنه من الناحية الثانية، قد يضع "المحكمة الاتحادية" في موضع الاختيار الصعب بين أن تواصل نقض أي اتفاق مستقبلي لا ينسجم مع الحكم الذي أصدرته، حتى لو كان من شأن هذا الاتفاق تهدئة الأجواء السياسية وتحسين العلاقات بين بغداد وأربيل، أو التراجع عن هذا الحكم للتكيف مع ضغوطات الوضع السياسي، وهو ما يعني إضعاف مصداقيتها ورهنها مجدداً بالتوافقات السياسية. وفي الوقت نفسه، فإن إصرار المحكمة على موقفها قد يجعلها طرفاً في الخصومة مع أربيل، بما يدفع "الديمقراطي الكردستاني" إلى استخدام ثقله في أي مفاوضات مستقبلية للمطالبة بتعديل وضع المحكمة أو إجراء تغييرات فيها.

 

 

الدور الجديد للمحكمة الاتحادية

في النهاية، يبدو بروز المحكمة الاتحادية كفاعل مؤثّر في صياغة المشهد السياسي العراقي انعكاساً للانسداد السياسي، وللشعور العام بأن القواعد السابقة لإدارة الشأن العام في البلد لم تَعد تصمد أمام الوقائع الجديدة. وقد يكون لهذا البروز أثرٌ مهم في إحياء سلطة القانون في بلد يعاني من ضعف تلك السلطة، وفي تقوية المؤسسات الدستورية الوسيطة التي أضعفها نظام يقوم على الصفقات السياسية والتواطؤ المتبادل.

 

لكنْ في الوقت نفسه، فإن الدور الجديد للمحكمة يعكس أيضاً علاقات القوة الجديدة التي بينما صارت تسمح بالتعاطي مع ملفات مؤجلة كان يُفضل السكوت عنها في السابق، فانها لا تزال تفرض السكوت على ملفات تبدو ملحة اليوم، كما حصل في تجاهل المحكمة لقضايا رُفعت أمامها بشأن دستورية امتلاك الأحزاب السياسية لميليشيات وأذرع مسلحة.

 

 


19/02/2022