×

  شؤون دولية

  الانتخابات التشريعية في إيران: هل يستعيد المشهد السياسي الانتخابي عافيته؟



*الباحث محمود البازي

 

*مركز الجزيرة للدراسات الاستراتيجية

في النسيج السياسي والاجتماعي المعقد الذي تعيشه إيران، تبرز الانتخابات التشريعية المقبلة منعطفًا حاسمًا يعكس التحديات والآفاق التي لا تعد ولا تحصى التي يواجهها هذا البلد. وفي خضم الأزمات الاقتصادية الحادة، والاضطرابات السياسية، والتوترات الجيوسياسية الخارجية، فإن هذه الانتخابات هي أكثر من مجرد تنافس سياسي؛ فهي بمنزلة اختبار حقيقي لمرونة إيران وقدرتها على التكيف. وتمثل هذه الانتخابات أيضًا لحظة حاسمة بالنسبة لحركة الإصلاح، التي تكافح من أجل إعادة تحديد هويتها وإستراتيجيتها بعد سنوات من النكسات والإقصاءات الممنهجة. وبينما تقف إيران عند مفترق الطرق المحوري هذا، فإن نتائج هذه الانتخابات يمكن أن تعيد تحديد مستقبلها، وتشكيل سياساتها الداخلية وموقفها الدولي.

من المقرر إجراء انتخابات مجلس الشورى الإسلامي المقبلة في إيران، في الأول من مارس/آذار 2024.

ويتزامن مع انتخابات مجلس الشورى هذه انتخابات مجلس الخبراء، الذي يلعب دورًا حاسمًا في الإشراف على عمل القائد الأعلى الإيراني واختيار خليفة له.

تم تسجيل رقم قياسي بلغ 48847 شخصًا كعدد أولي تقدم للمشاركة في الانتخابات التشريعية؛ مما يسلط الضوء على الاهتمام المتزايد بالمشاركة في العملية السياسية في إيران. ومع ذلك، فإن عملية التدقيق التي أجراها مجلس صيانة الدستور، المعروف بمعاييره الصارمة القائمة على الولاء للجمهورية الإسلامية وغيرها من المؤهلات، أدت إلى تأييد أهلية حوالي 15200 مرشح لهذه الانتخابات. وتم رفض أهلية 22 من أعضاء البرلمان الحالي.

 كما أن هذه الانتخابات شهدت زيادة كبيرة في عدد المرشحات من النساء؛ حيث سجلت 1713 امرأة، أي أكثر من ضعف العدد في الانتخابات الأخيرة.

كما أعلن ممثل المسيحيين الأرمن في طهران وشمال إيران في مجلس الشورى، تأييد أهلية 12 مرشحًا من الأقليات الدينية لخوض الانتخابات. وأشار آرا شاوارديان إلى أنه خلال هذه الفترة الانتخابية سيتنافس 12 مرشحًا من الأقليات الدينية على 5 مقاعد في البرلمان.

وستجرى هذه الانتخابات النيابية في 1218 دائرة انتخابية رئيسية وثانوية. ويوجد حوالي 59 ألف مركز اقتراع، منها 44 ألفًا ثابتًا و15 ألفًا متنقلًا.

 وهناك 35 ألف فرع في المدن و24 ألف فرع في الريف والقرى. كما سيتم إجراء انتخابات إلكترونية بالكامل على أساس تجريبي فقط في أربع دوائر انتخابية هي آبادان وملاير وقم ورشت(3).

على الطرف المقابل، تحظى انتخابات مجلس الخبراء، التي ستجري بشكل متزامن مع انتخابات مجلس الشورى، بأهمية خاصة نظرًا لدوره في اختيار القائد الأعلى القادم. ويتألف المجلس من 88 عضوًا من الفقهاء الإسلاميين؛ مما يجعل هذه الانتخابات حاسمة بالنسبة للقيادة المستقبلية لإيران. وقد سجل في هذه الانتخابات 510 أشخاص تم تأييد أهلية 144 شخصًا منهم. وتتسم الأغلبية الساحقة من المرشحين بتوجهات أصولية، كما يظهر بين المرشحين 16 شخصية مستقلة، ولا يوجد في القائمة مرشحون إصلاحيون أو معتدلون.

ولعل أبرز من تم رفض تأييد أهليتهم للمشاركة في انتخابات مجلس الخبراء هو الرئيس السابق، حسن روحاني، الذي شغل منصب رئيس الجمهورية لثماني سنوات متتالية وكان أمينًا للمجلس الأعلى للأمن القومي لمدة 16 عامًا وممثلًا للمرشد الأعلى في هذا المجلس وكان نائبًا في مجلس الشورى الإسلامي لمدة 20 عامًا بالإضافة إلى كونه عضوًا في مجلس خبراء القيادة منذ دورته الثالثة إلى الآن.

كما امتنع أحمد جنتي، رئيس مجلس الخبراء الحالي، عن الترشح مما سيجعل منصب الرئيس منحصرًا في أسماء محتملة مثل إبراهيم رئيسي أو هاشم حسيني بوشهري أو أحمد علم الهدى أو محمد علي محمد كرماني.

 

السياق الداخلي والدولي للانتخابات التشريعية

إن هذه الانتخابات، التي تجري على خلفية من الصراعات الداخلية الكبيرة والضغوط الخارجية، تعتبر منعطفًا تاريخيًّا مهمًّا. ففي قلب التحديات الداخلية التي تواجهها الجمهورية الإسلامية تعتبر الأزمة الاقتصادية مصدر القلق الرئيسي. فاعتبارًا من عام 2022، أفادت التقارير أن حوالي 60% من الإيرانيين يعيشون عند خط الفقر أو تحته. وتراوح معدل التضخم بين 39 و56 في المئة خلال الأشهر التسعة الأولى من عام 2023.

 وقد أثَّر التأثير التراكمي للعقوبات الأميركية وتقلب أسعار النفط وسوء الإدارة والفساد المتفشي على جميع طبقات المجتمع. أما الطبقة الوسطى، التي كانت قوية ذات يوم، فقد تقلصت في الوقت الذي تكافح فيه الأسر للتعامل مع تكاليف المعيشة المرتفعة. ووصف خامنئي نفسه ارتفاع معدلات البطالة (حوالي 22% في أوائل عام 2023) بأنها وصمة عار تجب معالجتها وحلها.

إن البنية السياسية الفريدة التي تتمتع بها إيران، والتي تتميز بمزيج معقد من الرقابة الدينية ومؤسسات الحكم الجمهورية، تضع مجلس الشورى (البرلمان الإيراني) في موقف حاسم.

وباعتباره العمود الفقري لصنع السياسة الداخلية فضلًا عن تأثيره وإن بشكل أقل في ملفات السياسة الخارجية في إيران، يقف المجلس عند مفترق طرق القرارات المهمة التي ستشكل مستقبل إيران. فضلًا عن ذلك، فإن مجلس الخبراء، المكلف بالمسؤولية المتمثلة في اختيار القائد الأعلى القادم، يكتسب أهمية أعظم في ظل تقدم آية الله خامنئي بالسن. وبالتالي، فإن الانتخابات تتجاوز مجرد صراعات السلطة التشريعية أو التنفيذية، وتجسد منعطفًا حاسمًا في تحديد القيادة المستقبلية والمسار الأيديولوجي لإيران بل وشكل إيران في المستقبل.

على الصعيد الخارجي، تجري الانتخابات على خلفية الاضطرابات الإقليمية وسياسة حافة الهاوية الجيوسياسية. إن العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، يلقي بظلاله على إيران؛ حيث تضيف المشاركة غير المباشرة لإيران طبقات من التعقيد إلى الخطاب الانتخابي.

ومن المتوقع أن تنهج إيران نهجًا أكثر تشددًا في سياساتها الخارجية وانخراطها العسكري في الشرق الأوسط بسبب التركيبة الأصولية المتشددة التي يتوقع سيطرتها على المجلس بشكل كامل.

علاوة على ذلك، يضيف الجمود في المفاوضات النووية بعدًا آخر من عدم اليقين، وخاصة مع احتمال عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، في عام 2025.

 ويثير هذا التطور المحتمل شبح التوترات المتزايدة والصدام الأكثر وضوحًا مع مجلس الشورى الإسلامي، وهو ما قد يؤدي إلى تفاقم المشكلة وتوجيهها نحو موقف أكثر تطرفًا أو صدام وحرب مباشرة ومفتوحة.

 

مأزق الهوية السياسية للحركة الإصلاحية

يشكِّل النهج الذي تتبعه الحركة الإصلاحية تجاه انتخابات مجلس الشورى الإسلامي، منعطفًا مهمًّا في سعيها الدائم للحصول على الأهمية السياسية والنفوذ داخل سلطات صنع القرار في البلاد.

إن موقف الإصلاحيين، أو بالأحرى عدم وجوده، في الانتخابات المقبلة هو رمز لأزمة أعمق وأكثر وجودية تحاصر الحركة منذ أعقاب مظاهرات الحركة الخضراء، عام 2009.

 لم تختبر هذه الفترة مرونة الإصلاحيين وقدرتهم على التكيف فحسب، بل بدأت أيضًا مرحلة طويلة من التأمل فيما يتعلق بهويتهم السياسية وإستراتيجياتهم الانتخابية للعب دور في رسم مستقبل إيران.

فالحركة الإصلاحية، التي كانت ذات يوم قوة متماسكة تحشد جهودها من أجل إصلاحات سياسية واجتماعية مهمة داخل إطار الجمهورية الإسلامية، أصبحت الآن تتصارع في ظل انقسامات داخلية وأزمة فقدان القيادة الموحدة.

 إن انفصال الحركة الإصلاحية عن القواعد الشعبية نتيجة الأزمات المتكررة وفشل حكومة روحاني في تحسين الظروف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية بالإضافة إلى استبعاد المرشحين الإصلاحيين البارزين بشكل منهجي من قبل مجلس صيانة الدستور، في انتخابات مجلس الشورى في 2020 و2024 والانتخابات الرئاسية في 2021، لم يؤدِّ إلى تهميش الحركة داخل الساحة السياسية الرسمية فحسب، بل أدى أيضًا إلى تحفيز النقاش حول جوهر المشاركة السياسية في ظل النظام الحالي. ومما يزيد من تعقيد هذه المناقشة وجهات النظر المتباينة لرموز الحركة فيما يتعلق بجدوى المشاركة في الانتخابات البرلمانية القادمة.

فقد اختار مهدي كروبي ومير حسين موسوي، الشخصيتان الرمزيتان للحركة الخضراء، الصمت فيما يتعلق بانتخابات مجلس الشورى لعام 2024، وهو موقف يمكن تفسيره على أنه انعكاس لخيبة الأمل أو انسحاب من الحياة السياسية.

 وفي المقابل، دافع محمد خاتمي، الرئيس السابق والرمز الدائم للتطلعات الإصلاحية، بشدة عن المشاركة. ويؤكد موقف خاتمي على الإيمان بضرورة مواصلة النضال من أجل الإصلاح من داخل النظام وضمن العملية الانتخابية التي يوفرها.

ويتناقض هذا الاعتقاد مع موقف شخصيات بارزة في الحركة الإصلاحية مثل مصطفى تاج زاده (نائب وزير الداخلية في حكومة الرئيس الإصلاحي السابق خاتمي)، وابنة السياسي المخضرم هاشمي رفسنجاني، فائزة هاشمي رفنسجاني، اللذين دعيا من داخل سجن إيفين إلى مقاطعة الانتخابات بشكل كامل، بحجة أن المشاركة في ظل الظروف الحالية تعمل على إضفاء الشرعية على عملية غير ديمقراطية وقمع النظام للمعارضة.

بينما اختارت جبهة الإصلاحيات، الكيان الرسمي للحركة الإصلاحية، موقفًا وسطًا؛ فهي اتخذت قرارًا بعدم إصدار قوائم انتخابية ولكنها في الوقت نفسه لم تدعُ إلى مقاطعة الانتخابات؛ حيث أكد المتحدث باسمها "جواد إمام" أنه وبناء على مقررات جبهة الإصلاحات تم اتخاذ قرار بعدم إصدار قائمة مرشحين إصلاحية في العديد من المدن والمحافظات الإيرانية مثل طهران، وقم، والمحافظة الوسطى، وأصفهان، وغيلان، وغلستان، وكهكيلويه، وبوير أحمد، وذلك بسبب عدم تأييد أهلية مرشحين إصلاحيين معروفين في هذه المدن.

وفي موقف مخالف لجبهة الإصلاح، دعا أكثر من 110 ناشطين سياسيين بعضهم من الإصلاحيين، عبر بيان تحليلي، إلى المشاركة في الانتخابات القادمة وذلك بهدف خلق "انفراجة" في حياة الأحزاب السياسية والحركات المدنية عبر اختيار مرشحين معتدلين وتقدميين وإصلاحيين في المراكز الانتخابية التي لا تزال فيها إمكانية التنافس موجودة.

وكان من بين الموقِّعين على هذا البيان شخصيات مثل: محمد فاضلي، ومقصود فراستخواه، وإلياس حضرتي، وحميد رضا جلائي بور، وغلام حسين كرباسجي، وإسماعيل غرامي مقدم، وبهاره آروين، وأحمد شيرزاد، ومحمد رضا جلائي‌ بور، ومحمد جواد روح، ووالهه كولايي، وشهاب ‌الدين طباطبايي، وأكبر منتجبي.

وفسَّر محسن أرمين، نائب رئيس جبهة الإصلاح، البيان الداعي إلى المشاركة الانتخابية بأنه نذير انقسام داخل صفوف الإصلاحيين.

ويشير هذا المنظور إلى الخوف من أن تؤدي الدعوات إلى المشاركة إلى تقسيم الكتلة الإصلاحية، مما قد يؤدي إلى إضعاف تماسكها وإضعاف قدرتها على التفاوض الجماعي. في المقابل، يرى حميد رضا جلايبور أن البيان لا يشكل خرقًا لقرارات جبهة الإصلاح، بل هو نهج تكميلي لا يتعارض صراحة مع موقف الجبهة الرافض لإدراج مرشحين إصلاحيين في طهران.

وتفترض هذه الرؤية الدقيقة أن الانخراط في العملية الانتخابية، حتى ولو بشكل محدود أو رمزي، لا يشكل بالضرورة خيانة للمبادئ أو الإستراتيجيات الإصلاحية.

وقال جلالي بور في حديث مع صحيفة "هم ميهن": "إن الأقليات الناشطة كان لها تجارب رائدة وفعالة ومفيدة سواء في تاريخ البرلمان الإيراني (المجلس الوطني أو في المجلس الإسلامي) أو في بلدان أخرى".

وقام السياسي المحسوب سابقًا على التيار الإصلاحي "علي مطهري" بإصدار قائمة من المرشحين تحت عنوان "صوت الشعب". واعتبر مطهري أن القائمة ليست أصولية ولا إصلاحية كما اعتبر أن معيار الاختيار كان الاعتدال والعقلانية، وتجنب الشعارات وإجراء التغييرات قدر الإمكان.

تعكس هذه الانقسامات داخل المعسكر الإصلاحي سؤالًا وجوديًّا أوسع يواجه الحركة الإصلاحية، وهو: هل يجب السعي إلى التغيير من داخل النظام، والاستفادة من أي فرص محدودة للمشاركة، أو الدفع باتجاه إصلاحات هيكلية أكثر عمقًا قد تتطلب الابتعاد عن السياسات الانتخابية التقليدية؟

 

الإصلاحيون التقليديون: اعتراض بالتصويت

يتمسك الإصلاحيون التقليديون، أمثال خاتمي، والمعتدلون، أمثال حسن روحاني، بعملية الإصلاح التدريجي ضمن إطار النظام السياسي الحاكم في الجمهورية الإسلامية الإيرانية وهم لذلك يدعون إلى المشاركة في الانتخابات ولو عبر ما سموه "آراء اعتراضية".

وتسلط التحديات التي واجهها خاتمي (متمثلة بإغلاق الصحف الإصلاحية واعتقال الصحفيين وقمع الحركة الاحتجاجية الطلابية في يوليو/تموز 1999 والفشل في تمرير "مشروع القانون المزدوج"، الذي سعى إلى تعزيز صلاحيات الرئيس والحد من سلطة مجلس صيانة الدستور)، ثم التحديات التي واجهها حسن روحاني (متمثلة بالفشل في الإصلاح الاقتصادي وتحقيق إصلاحات اجتماعية وسياسية وفشل الاتفاق النووي بعد انسحاب ترامب منه)، الضوء على الصعوبات التي تواجه تنفيذ إصلاح سياسي تدريجي في النظام الثيوقراطي في إيران.

وكانت سيطرة المؤسسة المحافظة على هياكل السلطة الرئيسية، مثل السلطة القضائية ومجلس صيانة الدستور وبعض المؤسسات الأخرى، سببًا في خنق الجهود الإصلاحية بشكل متكرر. وقد أدى ذلك إلى خيبة الأمل بين أنصار الإصلاحيين والجمهور الأوسع؛ مما أسهم في تراجع شعبية الحركة الخضراء والإصلاحيين بشكل عام. كما أن عجز الرؤساء الإصلاحيين عن الوفاء بوعودهم بإجراء تغيير كبير لم يؤد إلى تهميشهم السياسي فحسب، بل دفع إلى ظهور تيار أكثر راديكالية يدعو إلى تغييرات هيكلية في بنية النظام السياسي والدستوري في إيران، وينبئ بنهاية الحركة الإصلاحية بشكلها وبنيتها التاريخية القديمة.

يقود هذا التيار الجديد كل من مير حسين موسوي ومصطفى تاج زاده؛ حيث عبَّر موسوي عن رؤية تتجاوز مجرد الإصلاح، داعيًا إلى تغيير جوهري في النظام السياسي الإيراني. ويشمل ذلك الدعوة إلى دستور جديد وانتقال ديمقراطي بعيدًا عن الجمهورية الإسلامية. ويحدد اقتراح موسوي الخطوط العريضة لعملية تبدأ باستفتاء حر حول ضرورة صياغة دستور جديد، يليه إنشاء جمعية تأسيسية من خلال انتخابات حرة ونزيهة، وتبلغ ذروتها في استفتاء على الدستور الجديد. وتهدف هذه الخطة إلى إقامة نظام سياسي متجذر في سيادة القانون وحقوق الإنسان.

 وأما تاج زاده فهو يدعو إلى التخلي عن ولاية الفقيه في الدستور الإيراني القادم وفصل المؤسسة العسكرية عن الفضاء الاقتصادي والسياسي وتشكيل جبهة إنقاذ وطني.

يشير الجدل حول الإصلاحات البنيوية، كما أبرزها موقف تاج زاده وموسوي، إلى احتمال حدوث إعادة اصطفاف أيديولوجي كبير داخل المشهد السياسي الإيراني. وقد يؤدي ذلك إلى بلورة كيانات سياسية جديدة تنحدر مباشرة من الحركة الإصلاحية أو تظهر استجابة للدعوة إلى المزيد من التغييرات التأسيسية.

 

منافسة أصولية-وأكثر أصولية

بعد غياب المكون الإصلاحي بشكل كبير نسبيًّا عن العملية الانتخابية القادمة، أصبحت المنافسة الداخلية بين الأصوليين في انتخابات مجلس الشورى واحدة من أكثر أجزاء العملية الانتخابية تعقيدًا وتحديًا في هذا البلد، وقد ذهبت صحيفة "هم ميهن" إلى وصف هذه المنافسة بالخلافات العائلية.

ولا يقتصر هذا التنافس على عدد مقاعد البرلمان فحسب، بل على السلطة والنفوذ والتأثير في المستقبل السياسي والعلاقات الخارجية الإيرانية. فالأصوليون، على الرغم من الوحدة في بعض المبادئ العامة مثل الطاعة التامة للمرشد الأعلى والاعتماد على المؤسسات الحكومية القوية مثل الحرس الثوري، إلا أن لديهم اختلافات كبيرة من حيث جغرافية السلطة والأولويات السياسية والرؤى الاقتصادية داخل مجموعاتهم المتنوعة.

يوجد في قلب المنافسة الانتخابية طيفان أساسيان من الأصولية؛ هم الأصوليون التقليديون والأصوليون الجدد.

 وقد شهد التقليديون، مثل حزب المؤتلفة الإسلامي وجمعية رجال الدين المقاتلين، تراجعًا تدريجيًّا في نفوذهم لصالح الجدد الأكثر ديناميكية وعدوانية.

 1)- يضم مجلس الوحدة، الذي يمثل الحرس الأصولي القديم، جمعية رجال الدين المقاتلين والجمعية الإسلامية للمهندسين وحزب المؤتلفة الإسلامي، وفصائل أصغر مثل جبهة أتباع خط الإمام والقيادة. ويرمز هذا المجلس إلى اليمين التقليدي، الذي يهدف إلى التفاوض على تقاسم مقاعد مجلس الشورى مع نظرائه من الأصوليين التقليديين والجدد الأكثر حزمًا. غالبًا ما تتضمن إستراتيجية مجلس الوحدة التواصل مع الأصوليين الجدد من خلال مجلس ائتلاف القوى الثورية، الذي يتمتع بإمكانية الوصول المباشر إلى الدوائر الداخلية للسلطة بسبب الروابط التي يتمتع بها صاحب النفوذ الواسع في أطياف الأصوليين، غلام علي حداد عادل. ويبدو أن مجلس الوحدة لم يتوصل إلى نتيجة في مفاوضته الحالية مع مجلس ائتلاف القوى الثورية ولذلك فقد أصدر قائمة مستقلة به، بينما نقل أبرز ممثليه، محمد رضا باهنر، دائرته الانتخابية من طهران إلى كرمان فيما يبدو للتحضير للمنافسة على كرسي رئاسة المجلس في الدورة القادمة.

2)- يعتبر مجلس ائتلاف القوى الثورية الذي بدأ عمله عام 2020 برئاسة غلام علي حداد عادل، أبرز المنافسين وأكثرهم شعبية في الطيف الأصولي التقليدي ويحاول هذا المجلس ضم أغلبية الأصوليين تحت مظلته. وبعد نجاحهم في الفوز بأغلبية المقاعد في البرلمان الحادي عشر لعام 2020، يقود هذا المجلس بقيادة حداد عادل مفاوضات طويلة وشاقة لتشكيل ما وصفه بمجلس أكثر ثورية.

3)- الائتلاف الشعبي للقوى الثورية أو ما يُعرف اختصارًا بـ"أمناء"، وهو جبهة جديدة أعدها الجيل الثاني من الأصوليين للانتخابات المقبلة. وأهم مكونات هذا الائتلاف هو الشبكة الإستراتيجية لأنصار الثورة الإسلامية المعروفة باسم شريان، التي يقودها مهرداد بذرباش (وزير النقل في حكومة رئيسي) وحميد رسايي، هذه الشبكة المقربة من حكومة إبراهيم رئيسي بشكل وثيق.

وأعلن نظام الدين موسوي، أمين المجلس المركزي للائتلاف الشعبي لقوى الثورة الإسلامية (أمناء)، أن هذا التكتل قريب جدًّا من إصدار قائمته الانتخابية الخاصة به. كما أصدر المجلس السياسي للحركة الشعبية (جماران) بيانًا أعلن فيه عن تشكيل تحالف مع الائتلاف الشعبي للقوى الثورية لخوض الانتخابات القادمة.

4)- جبهة الثبات "بايداري": تعتبر جبهة الثبات التي تؤمن بنظريات محمد تقي مصباح يزدي، أبرز التيارات الأصولية الجديدة والمتشددة والذين يدعون إلى دور أكبر للدولة في الاقتصاد ويدعون إلى التشدد في الفضاء السياسي والاجتماعي الإيراني ويشنون هجمات مستمرة ضد الإصلاحيين وحكومة روحاني ووزير خارجيته، محمد جواد ظريف، بسبب الاتفاق النووي ويدعون إلى توجه أكبر نحو المعسكر الشرقي (روسيا والصين)، ويدعون كذلك إلى التشدد في العلاقات مع أوروبا والولايات المتحدة. يتمتع هؤلاء بنفوذ قوي وفعال في الحوزة الدينية في قم وكذلك يتمتعون بنفوذ لا يستهان به في المجلس الأعلى للثورة الثقافية وحكومة إبراهيم رئيسي والتليفزيون الرسمي الإيراني. يعتبر مرتضى آقا طهراني أبرز زعمائهم، وصادق محصولي رئيسًا لهذه الجبهة.

ما يجب قوله في المنافسة الأصولية-الأصولية بالنسبة للانتخابات القادمة هو أنه لا يمكن رسم حدود واضحة في المجالس والتحالفات الأصولية فهي متداخلة بشكل معقد.

 ومن ناحية أخرى، فإن جبهة الثبات وبعض التيارات الأخرى شنَّت هجمات حادة ضد رئيس مجلس الشورى الحالي، محمد باقر قاليباف، بعد تسريب وثائق تُظهر سعي ابنه للهجرة إلى كندا وتسريب كشوفات بنكية بمبالغ كبيرة تعود ملكيتها إلى ابنه، وتمت هذه الهجمات بقيادة مؤسسة "مصاف" بقيادة رائفي بور.

على الرغم من حدة هذه الهجمات على قاليباف إلا أنه يمكن قراءتها في سياق ضغط جبهة الثبات نحو حصة أكبر في القائمة الموحدة بين هذين الطيفين؛ حيث من المتوقع أن يشكل كل من مجلس ائتلاف القوى الثورية وجبهة الثبات تحالفًا مشتركًا لدخول الانتخابات بقائمة موحدة يقع قاليباف على رأسها في محاولة لتكرار ما حصل في الانتخابات البرلمانية في 2020 حيث حصد هذا التحالف أغلبية المقاعد في مجلس الشورى.

 وأما عن توجيه السهام نحو قاليباف فهو نموذج مصغر لمعركة وصراع قادم بين هذه الجبهات للحصول على كرسي رئاسة المجلس والإطاحة بقاليباف والقدوم بأسماء جديدة مثل حميد رسايي أو محمد رضا باهنر أو مرتضى أقا طهراني.

 

مفترق الطرق الانتخابي ونسبة المشاركة

في الفترة التي تسبق الانتخابات البرلمانية المحورية في إيران، يدعو كبار المسؤولين في البلاد، بمن في ذلك القائد الأعلى، آية الله علي خامنئي، والرئيس إبراهيم رئيسي، ووزير الداخلية، والعديد من أئمة الجمعة، بشدة إلى مشاركة انتخابية واسعة النطاق.

 وشدَّد آية الله خامنئي، على أهمية الانتخابات باعتبارها حجر الزاوية الأساس في هيكل الحكم في الجمهورية الإسلامية وخطوة حاسمة نحو الإصلاح الوطني.

 وشدَّد على أن الانتخابات هي السبيل الشرعي لمعالجة قضايا الوطن وحلها، قائلًا: "علينا جميعًا أن نشارك في الانتخابات، ومن يسعَ إلى تصحيح المشاكل وحلها فالطريق الصحيح هو الانتخابات".

وفي معرض تسليط الضوء على البعد الدولي، أعرب آية الله خامنئي عن قلقه إزاء المعارضة الأجنبية للعملية الانتخابية الإيرانية، وخاصة ما أسماه "جبهة الاستكبار"، بما في ذلك الولايات المتحدة. وقال: إن مثل هذه المعارضة تنبع من كون الانتخابات مظهرًا من مظاهر جمهورية النظام والأيديولوجية الإسلامية، والتي يعارضها خصوم النظام الإيراني.

كما ذهب إمام الجمعة في مدينة أصفهان إلى أن مقاطعة الانتخابات هي افتقار إلى الالتزام العملي بالإسلام، واضعًا المشاركة في الاعتبار ليس فقط واجبًا مدنيًّا، بل واجبًا دينيًّا أيضًا.

إن الدعوة إلى تحقيق الحد الأقصى من المشاركة الانتخابية هي دعوة متعددة الأوجه؛ حيث تعتبر هذه الانتخابات هي الأولى منذ الاحتجاجات واسعة النطاق التي أشعلتها وفاة الفتاة مهسا أميني؛ مما يجعل نسبة إقبال الناخبين بمنزلة مقياس لشرعية النظام والدعم الشعبي له. بالإضافة إلى ذلك، فإن الانتخابات المتزامنة لمجلس الخبراء، المكلفة باختيار القائد الأعلى المقبل، تزيد من أهمية هذه الانتخابات.

وتتجلى تعقيدات التنبؤ بنسبة إقبال الناخبين في التباين التاريخي الذي شهدته الانتخابات التشريعية الإيرانية على مدى السنوات الخمس والأربعين الماضية. فمن المتوقع أن تشهد مناطق الطبقة الوسطى الحضرية، وخاصة طهران، انخفاضًا في نسبة الإقبال على الانتخابات بسبب عدم الرضا الواسع النطاق عن تعامل الحكومة والبرلمان مع القضايا الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. وعلى العكس من ذلك، قد تشهد المناطق الريفية معدلات مشاركة أعلى مدفوعة بالولاءات القبلية والقومية.

بدورها، كتبت وكالة أنباء "أذار قلم" بأنه بحسب النتائج التي تم الحصول عليها من استطلاع أجراه أحد المراكز الحكومية، فقد تبين أن نسبة المشاركة في انتخابات مارس/آذار 2024 في عموم البلاد ستكون حوالي 30 بالمئة. وفي محافظة طهران الكبرى فإنه من المتوقع أن تبلغ نسبة المشاركة حوالي  %22 وفي مدينة طهران 15%(22).

 وتشير صحيفة جوان الأصولية إلى أن نسبة المشاركة المحتملة في الانتخابات هي 50%(23). بينما أشارت صحيفة "وطن امروز" إلى أنه في أواخر يناير/كانون الثاني 2024، أظهر 52 من المستطلع آراؤهم عدم اطلاعهم على تاريخ الانتخابات التشريعية.

 

تاريخيًّا،

 كانت انتخابات الدورة الخامسة لمجلس الشورى الإسلامي والتي شارك فيها أكثر من 71٪ من الذين يحق لهم التصويت هي الأعلى من حيث المشاركة الشعبية. في تلك الانتخابات كان هناك 34 مليونًا و763 ألف شخص مؤهلين للتصويت، وبلغ مجموع الأصوات المشاركة ما يقارب 24 مليونًا و682 ألف صوت، وأُجريت الانتخابات النيابية الخامسة في مارس/آذار 1996.

من ناحية أخرى، فإن أقل نسبة مشاركة في انتخابات مجلس الشورى الإسلامي مرتبطة بانتخابات الدورة الحادية عشرة التي عُقدت في 21 فبراير/شباط 2020، شارك في الانتخابات ما مجموعه 24 مليونًا و512 ألفًا و404 (48٪ نساء و52٪ رجال)، وكان 57 مليونًا و918 ألفًا و159 مؤهلين للتصويت. بلغت نسبة التصويت 42.57% من الناخبين المؤهلين، والتي سجلت أقل نسبة مشاركة مقارنة بالجولات السابقة(25).

 

خاتمة

تظهر الانتخابات التشريعية الإيرانية القادمة اختبارًا حاسمًا يعول عليه النظام الإيراني بوصفها عاملًا مهمًّا في رسم السياسات الداخلية وتأطير علاقات إيران الخارجية. إن الانتخابات الوشيكة هي أكثر من مجرد مسابقة سياسية؛ إنها استفتاء على اتجاه إيران المستقبلي وقيادتها وتوجهها الأيديولوجي.

وعلى الصعيد الخارجي، فإن المشهد الجيوسياسي محفوف بالتوترات، ولاسيما الجمود في المفاوضات النووية والصراعات الإقليمية. كما أن احتمال تصاعد التوترات مع القوى الدولية، وخاصة مع شبح تغيير القيادة في الولايات المتحدة، يضيف طبقة أخرى من التعقيد إلى الخطاب الانتخابي وتوجهات إيران ما بعد الأول من مارس/آذار 2024.

كما تجد الحركة الإصلاحية، التي تمتعت ذات يوم بقاعدة شعبية قوية، نفسها في مستنقع من الأزمات الوجودية، وتتصارع مع الانقسامات الداخلية، والفراغ القيادي، والمعضلات الإستراتيجية. ويسلِّط الجدل حول المشاركة الانتخابية أو المقاطعة داخل الأوساط الإصلاحية الضوء على صراع أيديولوجي أوسع داخل صفوف الإصلاحيين، بين أولئك الذين يدعون إلى التغيير المنهجي والهيكلي الجذري وأولئك الذين يسعون إلى الإصلاح من داخل الإطار الحالي.

ومن ناحية أخرى، تواجه الفصائل الأصولية مجموعة من التحديات الخاصة بها؛ حيث تعتبر هذه الانتخابات شكلًا من التنافس الداخلي بين المحافظين التقليديين والمحافظين الجدد وصراعهم الأوسع للسيطرة على رئاسة السلطة التشريعية.

وبالنظر إلى المستقبل، فإن الانتخابات تمثل منعطفًا حاسمًا بالنسبة لإيران، مع ما يترتب على ذلك من آثار تمتد إلى ما هو أبعد من حدودها خصوصًا في شكل العلاقة والتصادم مع الحكومة الأميركية القادمة. كما ستكون معدلات المشاركة ونتائج الانتخابات بمنزلة مقياس لشرعية النظام ومشاركة الشعب في العملية السياسية.

*محمود البازي:باحث متخصص بالشؤون الإيرانية.


29/02/2024