إنترريجونال للتحليلات الاستراتيجية
في ظل التنافس المحموم بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية وروسيا في مجال الأمن السيبراني، وتطوير تقنيات الذكاء الاصطناعي، حرصت واشنطن على وضع بصمتها التكنولوجية في كافة أنحاء العالم؛ ولذلك تم الإعلان عن استراتيجية دولية للفضاء السيبراني والرقمي؛ أعلن عنها وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن خلال مؤتمر "آر سي إيه RSA" الذي عُقد في مايو 2024 بمدينة سان فرانسيسكو، وضم خبراء الأمن السيبراني، والمهتمين بالمجال التكنولوجي، قائلاً: "إن الثورات التكنولوجية اليوم تمثل قلب منافستنا مع المنافسين الجيوسياسيين"، موضحاً الأهداف التي ترمي إليها الاستراتيجية عبر قوله: "إن قدرتنا على تصميم التقنيات وتطويرها ونشرها، ستحدد قدرتنا على تشكيل مستقبل التكنولوجيا.
وبطبيعة الحال، فإن العمل من موقع القوة يضعنا بشكل أفضل في وضع المعايير وتطويرها في جميع أنحاء العالم. لكن ميزتنا لا تأتي من قوتنا المحلية فقط؛ إنها تأتي من تضامننا مع غالبية العالم الذي يشاركنا رؤيتنا لمستقبل تكنولوجي نابض بالحياة ومنفتح وآمن، ومن شبكة لا مثيل لها من الحلفاء والشركاء الذين يمكننا العمل معهم من أجل قضية مشتركة".
أهداف واشنطن
قامت الاستراتيجية التي أعلنت عنها وزارة الخارجية، تحت عنوان "استراتيجية الولايات المتحدة الدولية الخاصة بمجال الفضاء الإلكتروني والسياسة الرقمية: نحو مستقبل رقمي مبتكر وآمن ويحترم الحقوق"، على مجموعة من المبادئ والأهداف، وركزت على مجموعة من مجالات العمل التي ستسعى واشنطن من خلالها إلى تعزيز الأمن السيبراني العالمي؛ علماً بأن إدارة بايدن قد سبق أن أصدرت استراتيجية وطنية للأمن السيبراني في مارس 2023، وفي يونيو 2023، أصدرت خطة تنفيذية أعقبتها وثيقة استراتيجية سيبرانية صادرة عن وزارة الدفاع في سبتمبر 2023. وفيما يلي يمكن توضيح أهداف ومبادئ استراتيجية وزارة الخارجية الأمريكية:
1– تعزيز الدبلوماسية الرقمية و"التضامن الرقمي":
أعلنت وزارة الخارجية الأمريكية عن "مبدأ التضامن الرقمي"، وهو أحد المبادئ الذي تحرص الاستراتيجية الجديدة على تكريسه؛ حيث تهدف الاستراتيجية إلى تعزيز دور الدبلوماسية الرقمية التي سيتم خلالها الاعتماد على التعاون في مجال الفضاء الرقمي لتشكيل تحالفات دولية جديدة تضم الدول التي تُشارِك الولايات المتحدة في المبادئ ذاتها المرتبطة بتوفير "شبكة إنترنت منفتحة وشاملة وآمنة ومرنة".
2– إبقاء الولايات المتحدة في صدارة المشهد التكنولوجي العالمي:
تعكس الاستراتيجية حرص الولايات المتحدة على الحفاظ على تفوقها التقني، بحيث تكون القائدة لدفة القيادة التكنولوجية العالمية؛ وذلك في ظل الجهود المتسارعة التي تبذلها بكين وموسكو للتفوق على واشنطن في مجال الفضاء الرقمي، كما أنها تركز على نقل الخبرة التكنولوجية الأمريكية للحلفاء، وكذلك الاستفادة من خبراتهم.
3– طرح مبادئ لتنظيم عمل الفضاء الإلكتروني:
كشف الموقع الرسمي لوزارة الخارجية الأمريكية عن ثلاثة مبادئ رئيسية تسعى الاستراتيجية الأمريكية إلى تحقيقها، موضحاً أنها تتمثل في فضاء إلكتروني يحترم قواعد القانون الدولي، وخصوصية وحقوق الأفراد وأمنهم، فضلاً عن دمج مساعي تحقيق أهداف التنمية المستدامة السبعة عشر بمساعي تأمين فضاء إلكتروني آمن يعتمد على الابتكار التكنولوجي، وأخيراً بلورة "سياسة شاملة" تُطوِّع مختلف الوسائل الدبلوماسية التي يمكن استخدامها في فضاء رقمي عالمي مرن قادر على مواجهة مختلف الأزمات، والتعافي منها سريعاً، بجانب القدرة على معاقبة المتسللين والمخترقين الذين يرغبون في الإضرار بأمن الدول السيبراني، بما يتطلب تعزيز قدرات الدول السيبرانية.
دوافع الإصدار
كانت هناك مجموعة من الدوافع والمحفزات التي شجَّعت الولايات المتحدة على إصدار هذه الاستراتيجية التي تساعد على خلق أطر مؤسسية، يمكن من خلالها حوكمة الفضاء الرقمي. وفيما يلي، يمكن تسليط الضوء على أبرز هذه الدوافع والمحفزات:
1– تأمين الفضاء السيبراني الأمريكي:
بالرغم من انشغال واشنطن بالحروب التي تخوضها حلفاؤها في مختلف أنحاء العالم، وتحديداً أوكرانيا وإسرائيل وتايوان، فإنها تولي المخاطر السيبرانية المحيطة بها اهتماماً كبيراً، في ظل تكرار الهجمات على بنيتها الحيوية السيبرانية التي شملت خطوط الغاز وأنظمة الرعاية الصحية من حين إلى آخر، من جانب خصوم واشنطن، وعلى رأسهم موسكو وطهران وبيونج يانج وبكين؛ ولذلك تم إصدار هذه الاستراتيجية التي ترمي إلى تعزيز أمن الفضاء السيبراني الأمريكي.
2– تحقيق مكاسب انتخابية:
مع اقتراب موعد الانتخابات الأمريكية في نوفمبر 2024، تسعى الإدارة الأمريكية إلى أمرين؛ يتمثل أولهما في تأمين الانتخابات المقبلة، وحمايتها من أي محاولة للتأثيرات الخارجية، في ظل زيادة الشكوك المتعلقة باحتمالية تدخل موسكو وبكين وطهران للتأثير على توجهات الناخبين الأمريكيين، بينما يتمثل الأمر الآخَر في تحقيق مكسب جديد يمكن الترويج له لإظهار مدى اهتمام الإدارة بحماية الأمن السيبراني، وتعزيز الشراكات العالمية كما سبق أن وعدت خلال الحملة الانتخابية للرئيس بايدن خلال عام 2020.
3– مجابهة خصوم الولايات المتحدة:
سعت الولايات المتحدة إلى مواجهة النفوذ المتنامي للأنظمة التي تصفها بـ"القمعية" و"الاستبدادية"، وتحديداً بكين وموسكو؛ حيث ترى الولايات المتحدة أن هذه الأنظمة تسعى إلى إعادة رسم ملامح النظام الدولي، وانتهاك حقوق الإنسان المختلفة، بما في ذلك انتهاك خصوصية الأفراد عبر الفضاء الرقمي؛ لذلك فإنها تسعى إلى حوكمة الفضاء الرقمي، ووضع أسس يمكن من خلالها محاسَبة الأطراف المخطئة، وتقويم السلوك الرقمي، وهو أمر ترى الإدارة الأمريكية أنه يصبُّ في النهاية في الصالح العالمي من جهة، كما أنه يحمي أمنها القومي، ومصالحها السياسية والاقتصادية في مختلف مناطق العالم من جهة أخرى، وهو ما أكده السفير الأمريكي المتجول للفضاء الإلكتروني والسياسة الرقمية ناثانيال سي فيك، موضحاً مساعي واشنطن لحشد فريق عالمي يكافح المُخالَفات التي تُنفِّذها بكين أو موسكو.
4– استكمال الخطوات الأمريكية السابقة في مجال الأمن السيبراني:
لا تُعَد هذه الاستراتيجية هي الجهد الأول من نوعه للولايات المتحدة؛ إذ سبق أن دشَّنت مبادرة مكافحة برامج الفدية في عام 2021 التي انضم إليها ما يزيد عن 60 دولة، كما وقَّعت عدد من الدول على معاهدة تهدف إلى "الحد من إساءة استخدام برامج التجسس التجارية". وخلال عام 2022، عيَّنت السفير الأمريكي المتجول للفضاء الإلكتروني والسياسة الرقمية ناثانيال سي فيك الذي قال في هذا الشأن: "على مدى عامين، كان لدينا مكتب في وزارة الخارجية يركز على هذه القضايا. لقد كان لدينا شخص يحمل لقب سفير يُمثِّلنا في هذه القضايا، وعلى نطاق واسع. إنها محاولة لدمج ورفع نهجنا الدبلوماسي بشأن هذه الأمور".
وعلى صعيد آخر، حصلت ألبانيا وكوستاريكا على ما يصل إلى 25 مليون دولار من واشنطن لمساعدتهما على التعافي من أضرار الهجمات السيبرانية من طهران وموسكو؛ هذا بجانب التعاون مع أستراليا ونيوزيلندا واليابان وتايوان لإيصال خدمات الإنترنت لما يصل إلى 100 ألف شخص في منطقة المحيط الهادئ من خلال إنشاء كابل للإنترنت يمر تحت البحر؛ لذا تُعَد هذه الاستراتيجية محاولة من جانب واشنطن لاستكمال جهودها التي نفذتها على مدار السنوات المنصرمة.
ختاماً،
يمكن القول إن توقيت صدور هذه الاستراتيجية هو توقيت شديد الحساسية بالنظر إلى التنافس العالمي المحموم، ولكن مدى نجاحها يظل رهناً بقدرة الولايات المتحدة على فرض مبادئها المنصوص عليها في الاستراتيجية، وفي مقدمتها فضاء رقمي آمن يحترم الحقوق والخصوصيات الفردية، لكن رغبة واشنطن من جانب آخر في حظر بعض التطبيقات الأجنبية الإلكترونية المملوكة للصين، على غرار تطبيق تيك توك، وامتلاكها تطبيقات أخرى تخترق خصوصية الأفراد؛ يثير الجدل حول مصداقية واشنطن في فكرة خلق فضاء إلكتروني آمن يجذب شراكات مع دول تمتلك رؤى مماثلة لواشنطن، كما أن خصوم واشنطن – وفي مقدمتهم موسكو وبكين – ينفقون نفقات باهظة على تطوير قدراتهم الرقمية، بما يجعل هدف الولايات المتحدة المتمثل في قيادة دفة التكنولوجية العالمية أمراً مشكوكاً فيه.