×

  المرصد الخليجي

  النهج العربي للوساطة .. إعادة تشكيل الدبلوماسية في عالم متعدد الأقطاب



*نيكولاي ملادينوف

 

*معهد واشنطن لسياسات الشرق الادنى

نظراً للمفاهيم الثقافية الفريدة لدول الخليج ونفوذها الاقتصادي والسياسي الكبير، فإنها مستعدة للعب دور أكثر أهمية في مبادرات السلام والأمن المستقبلية.

يُثبت الانخراط المتزايد لدول الخليج في جهود الوساطة النفوذ المتنامي للقوى المتوسطة في السياسة الدولية، كما يعكس الصعوبة التي يواجهها الوسطاء التقليديون في التكيف مع التعقيدات التي تطبع عالماً متعدد الأقطاب ومترابطاً ومشبّكاً بشكل متزايد.

وفي خضم الحاجة المتزايدة للتعاون في حل النزاعات، يرزح النظام الحالي للعلاقات الدولية تحت وطأة المنافسات الجيوسياسية والجيواقتصادية سواء القائمة منذ فترة طويلة أم الناشئة. وفي هذا السياق، تدخل جهات فاعلة جديدة، مثل دول الخليج، إلى ساحة الوساطة الدولية، حيث تلعب دوراً مهماً في سد الفجوات التي تخلفها القوى التقليدية وتقدّم منظوراً جديداً بشأن حل النزاعات في عالم متزايد التعقيد يُعد قيّماً للغاية.

وفي بعض الأحيان، تجد القوى التقليدية في مجال الوساطة، كالولايات المتحدة والدول الأوروبية، أن أساليبها الموثوقة التي جرّبتها واختبرتها غير مناسبة لخصائص النزاعات الجديدة، المتجذرة بعمق في السياقات المحلية وديناميكيات القوة الإقليمية.

 وربما يحتاج نهجها في الوساطة، الذي يعتمد غالباً على عمليات رسمية ومنظمة وقانونية، إلى مرونة أكبر للتكيف مع الطبيعة المتغيرة والديناميكية لهذه النزاعات. كما أن تاريخ الانخراط السياسي والاقتصادي والعسكري في مناطق النزاع، والذي يمكن أن يؤدي إلى تصور قائم على التحيز أو المصالح الخاصة، يجعل من الصعب بشكل متزايد اعتبار بعض البلدان وسيطة محايدة وغير متحيزة.

 وتحت ضغط الرأي العام، فإن إعطاء الأولوية لتحقيق نتائج سريعة وملموسة قد يدفع نحو التوصل إلى تسويات سريعة لا تعالج بشكل كاف الأسباب الجذرية الكامنة وراء النزاعات. وغالباً ما تنبع هذه المقاربة من عدم مراعاة الدوافع التاريخية، وثقافة "تحقيق التقدم" بأي ثمن، واعتماد مبدأ "نهج واحد يناسب الجميع" في التعامل مع الأنظمة السياسية وأنظمة الحكم. وقد أدّى هذا النهج إلى تقويض الفعالية، ولا تؤيده الجهات الفاعلة الإقليمية. وفي المقابل، قد يكون أسلوب الوساطة الذي تتبعه دول الخليج أكثر ملاءمة للتغلب على هذه التحديات.

لقد لعبت دول الخليج دوراً حاسماً في جهود الوساطة المتعلقة بالنزاعات الإقليمية والدولية. على سبيل المثال، أدّت قطر دوراً نشطاً من خلال وساطتها الناجحة في الأزمة اللبنانية عام 2008، واستِضافتها المحادثات بين الولايات المتحدة وحركة "طالبان" في الدوحة، وتوسطها مؤخراً بين إسرائيل و"حماس".

 ولعبت الكويت دوراً حاسماً في محاولة حل خلاف قطر مع بعض دول "مجلس التعاون الخليجي" بين عامَي 2017 و2021. وقد حاولت المملكة العربية السعودية تقليدياً التوسط في النزاع الفلسطيني الداخلي من خلال اتفاق مكة واستضافة محادثات جدة بين الفصائل السودانية المتحاربة. وقد أدّت الدبلوماسية السرية التي اتبعتها عُمان إلى تسهيل المناقشات المبكرة بين الولايات المتحدة وإيران والتي أسفرت عن التوصل إلى الاتفاق النووي لعام 2015.

ودخلت الإمارات العربية المتحدة بشكل نشط إلى مجال الوساطة، لا سيما من خلال دورها المحوري في اتفاق السلام بين إثيوبيا وإريتريا في عام 2018، وسهلت عمليات تبادل أسرى الحرب بين روسيا وأوكرانيا، كما نشطت في الساحة متعددة الأطراف من خلال استضافتها قمة "كوب 28" في دبي.

وتقوم نقطة البداية البديهية على النظر في أسلوب الوساطة الذي تتبعه دول الخليج، والسبب الذي قد يكون أكثر ملاءمة للتعامل مع الاضطرابات الجيوسياسية الحالية.

وعلى الرغم من أن تحديد "أسلوب" محدد للوساطة وحل النزاعات قد يكون سابقاً لأوانه، إلّا أن الكثير من العناصر المشتركة بدأت بالظهور، أحدها مفهوم "الصلح"، وهو أسلوب عربي تقليدي لحل النزاعات يركز على المصالحة واستعادة العلاقات.

ويلعب هذا المفهوم المتجذر بعمق في الثقافة العربية، دوراً مهماً في تشكيل أسلوب الوساطة الخليجية. ومع ذلك، تساهم كل دولة بمنظورها الثقافي والتاريخي الفريد الذي يحدد القيمة التي تضيفها إلى الجهود الدولية. وهناك العديد من العوامل، بدءاً من دور المجلس ومفهوم الصلح إلى عوامل أكثر حداثة مثل الهيكلية الفيدرالية لدولة الإمارات، أو السياسة الخارجية للمنطقة المتمثلة في التحالفات المتداخلة المتعددة، أو روابطها القوية مع الشمال العالمي والجنوب العالمي، التي تحدد الخطوط العريضة للأسلوب الناشئ للوساطة الخليجية وحل النزاعات.

ويرى بعض المحللين أن الطبيعة الشخصية المميزة لنهج الوساطة المتبع من قبل دول الخليج تتداخل مع حكمها الملكي، حيث تكون عملية صنع القرار مركزية للغاية. ويعتبرون أن هذا الاستقرار يسمح باتباع نهج ثابت في السياسة والدبلوماسية، والتي تشمل جهود الوساطة، التي قد تكون مفيدة عند بناء الثقة والتفاهم بين الأطراف المتنازعة.

ومع ذلك، لا يمكن أن يُعزى أسلوب الوساطة في الخليج إلى نظامه السياسي فقط، إذ أن ذلك قد يغفل ميلاً ثقافياً أكثر ترسخاً نحو تعزيز العلاقات الدائمة لحل النزاعات. وبخلاف التركيز الغربي على تحديد المشاكل وتنفيذ التدخلات بسرعة، يشدد النهج الخليجي بشكل كبير على بناء الثقة والروابط بتروٍّ ودقة.

 

السمات المميزة لأسلوب الوساطة الخليجي

تشهد منطقة الخليج اعترافاً متزايداً بالعلاقة التكافلية بين الاستقرار الإقليمي والازدهار الوطني. ويتضح ذلك بالدرجة الأولى في الإمارات، التي تركز على وقف التصعيد والتطبيع مع الدول الحيوية في المنطقة، وهي إيران وإسرائيل وتركيا وقطر وسوريا، كما ركزت على تنويع اقتصادها. وبالمثل، فإن وقف التصعيد بين السعودية وإيران يشكل جزءاً من تركيز أكبر للسياسة الخارجية على دعم الخطة السعودية للتنمية الاجتماعية والاقتصادية المتمثلة بـ"الرؤية 2030".

وبينما تسعى جميع بلدان المنطقة إلى مستقبل خارج نطاق النفط والغاز، فإنها تدرك بشكل متزايد أن التنويع الاقتصادي المستدام يعتمد على السلام والأمن في المنطقة وخارجها. وبالتالي، يُعنى انخراط دول الخليج في الوساطة بالمساهمة في توافق إقليمي بقدر ما يُعنى بحماية مصالحها الاقتصادية وخطوط الإمداد بالموارد وطرق التجارة الخاصة بها، وفي النهاية، نجاح استراتيجيات التنويع الاقتصادي.

إن هذا التركيز على الاستقرار - وهو خروج عن نهج الدول الغربية الذي يركز عادة على تعزيز القيم الديمقراطية وحقوق الإنسان في جهود حل النزاعات - هو جانب رئيسي من استراتيجية الوساطة لدول الخليج. فنهجها أكثر واقعية وأقل توجيهية، مما يُمكّن توفير درجة من الطمأنينة في مواجهة النزاعات المعقدة.

وقد طوّرت دول الخليج أيضاً أساليب مميزة للوساطة تتسم بالتكتم والتركيز على تكوين علاقات دائمة. وهذه الأساليب متجذرة في النسيج الاجتماعي الثقافي في المنطقة، حيث تمارَس الدبلوماسية في الكثير من الأحيان بعيداً عن الأضواء وتفضَل التفاصيل الدقيقة للمفاوضات على مظاهر الخلافات العلنية. وهذا النهج مترسخ في التقاليد العربية.

فمن خلال تأكيد هذا الأسلوب، أصبحت دول الخليج بارعة في توفير بيئة آمنة وجديرة بالثقة للأطراف المتنازعة التي قد تكون حذرة من التداعيات المحتملة للدبلوماسية العلنية رفيعة المستوى.

وقد تبنت عُمان دور القناة السرية والميسر الهادئ وتحوّلت إلى "سويسرا الشرق الأوسط" بعد أن كادت تتدخل إلى جانب صدام حسين في الحرب العراقية الإيرانية في ثمانينيات القرن الماضي من خلال السماح باستخدام منشآتها لشن ضربات عراقية ضد إيران. وفي عام 1980، اضطرت الولايات المتحدة إلى التوسط لتجنب تورط عُمان في الضربات على إيران.

 وفي عام 2015، ساهمت عُمان بهدوء في التوسط في الاتفاق بين الولايات المتحدة وإيران الذي أدى إلى "خطة العمل الشاملة المشتركة"، مما حولها إلى ما أطلق عليه جيمس وورال عن حق تسمية "دولة محاورة"، وهو مصطلح يشير إلى الدولة التي تعمل كوسيط أو ميسر في المفاوضات الدولية، غالباً بسبب حيادها ومهاراتها الدبلوماسية.

وقد ميز هذا التركيز على التكتم والدبلوماسية الهادئة أيضاً الجهود الناجحة التي بذلتها الإمارات للتوسط في أكبر عملية تبادل لأسرى الحرب بين روسيا وأوكرانيا في كانون الثاني/يناير 2024.

ومؤخراً، لعبت أيضاً دوراً أساسياً في ضمان التوافق بين "المفوضية الأوروبية" وقبرص والولايات المتحدة والمملكة المتحدة بشأن تفعيل الممر البحري لإيصال المساعدات الإنسانية إلى غزة. وركزت الإمارات، خلال فترة ولايتها الناجحة التي استمرت عامين في مجلس الأمن الدولي (2022-2023)، على دورها في بناء الجسور بين دول الشمال العالمي والجنوب العالمي وتمثيل حساسيات الشرق الأوسط والإظهار بأنه من الممكن خدمة المصلحة الوطنية بمهارة من خلال الغيرية.

وقد نجح هذا النهج في كسب الدعم لمبادراتها من خلال اعتماد أسلوب وساطة "إيجابي" يركز على تحقيق أهداف واسعة النطاق بدلاً من التمسك بمواقف صلبة التي هي بمثابة خطوط حمراء.

وفي هذا السياق، تجدر الإشارة إلى أن نهج دول الخليج في حل النزاعات ليس استراتيجياً فحسب، بل حساساً من الناحية الثقافية أيضاً.

 فالتركيز على الحلول القائمة على الإجماع يعكس فهماً عميقاً لأهمية حفظ ماء الوجه في العلاقات الدبلوماسية، خصوصاً في منطقة تولي أهمية كبرى للشرف والسمعة. وقد أثبتت الدبلوماسية الهادئة، التي تعمل على مبادئ الاحترام المتبادل والسرية، فعاليتها الكبرى في حل النزاعات التي قد تشهد تصاعداً في ظل حدة الاستقطاب العلني الناتج عن وسائل التواصل الاجتماعي والاهتمام العالمي.

 وتجدر الإشارة إلى أن هذه المنهجيات لا تتبنى نهج الترهيب والترغيب الغربي الشائع، ويرجع ذلك جزئياً إلى النفور الثقافي من هذا التكتيك وجزئياً إلى عدم توفره بسهولة. وبدلاً من ذلك، تستفيد دول الخليج من قوتها الاقتصادية كقوى وسطى باستخدام أداة أكثر فعالية من البراعة السياسية والعسكرية للقوى العظمى.

بالإضافة إلى ذلك، لا يقتصر نهج الوساطة الذي تتبعه دول الخليج على مجرد التوسط في الاتفاقات، بل يُعنى بتعزيز العلاقات. وترى هذه الدول أن حل النزاعات ليس حدثاً فردياً، بل عملية تتطلب تعزيز التفاهم والتعاون والتكافل المتبادل بين الخصوم السابقين. على سبيل المثال، حظيت قطر باهتمام واسع النطاق على خلفية تسهيلها لاتفاق السلام الأفغاني في عام 2020، ومؤخراً، توسطها في إطلاق سراح بعض الرهائن الإسرائيليين المحتجزين في غزة.

وتقوم قدرتها على إنجاز هذه الوساطات البارزة على علاقاتها طويلة الأمد مع "طالبان" و"حماس". وقد أصرت الدوحة على أنها انخرطت في هذه القضايا البارزة بناءً على طلب الولايات المتحدة. ويُعد بناء العلاقات طويلة الأمد أساسياً للنهج الذي تتبعه دول الخليج، وليس فقط في الأمثلة البارزة المذكورة أعلاه. فالعلاقة طويلة الأمد بين السعودية والسودان تضطلع بدور محوري في جمع الفصائل المتحاربة في إطار عملية جدة. كما أن علاقات الإمارات الوثيقة مع مصر وإثيوبيا سمحت لها بالتوسط في نزاع "سد النهضة الإثيوبي الكبير" بين البلدين.

إن المواقع الاستراتيجية لدول الخليج كمفترق طرق تمنحها أدواراً رمزية وعملية كجسور في الشؤون الدولية. وتضفي هذه الميزة الجغرافية - إلى جانب علاقاتها التجارية الدولية القوية وطموحاتها من أجل أن تصبح مراكز عالمية للأعمال والابتكار - مستويات مهمة من النفوذ والقدرة على جهود الوساطة التي تبذلها.

ولا يمكن المبالغة في أهمية هذه السمات بالنسبة إلى نهج دول الخليج في الوساطة، أي التركيز على الاستقرار والمصالح الاقتصادية، والتكتم والسرية، والتوصل إلى الإجماع. ففي المناطق التي تمزقها النزاعات، حيث يكون ميزان القوى حساساً أو يزداد احتمال سوء التواصل والتصعيد، يجب أن يمتد دور الوسيط إلى ما هو أبعد من مجرد تيسير الحوار. من هنا، أدى التزام دول الخليج بهذه المبادئ إلى تحويل خدمات الوساطة التي تقدّمها إلى أداة دبلوماسية قيّمة، وهي أداة مطلوبة نظراً لقدرتها على تحقيق نتائج فعالة ومراعية لاحتياجات الأطراف من الخصوصية والثقة.

وتتشارك دول الخليج، التي تتمتع كل منها بميزات فريدة فيما يتعلق بالسياسة الخارجية، نهجاً أساسياً لحل النزاعات متجذراً بعمق في قيم الشرف والتوافق الثقافية. لكن هناك أيضاً اختلافات دقيقة فيما بينها.

 

عُمان: "الدولة المحاورة"

تستخدم عُمان مزيجاً من الدبلوماسية التقليدية والحكمة الثقافية، وتعطي الأولوية للوساطة وعدم التدخل. فأسلوب حل النزاعات الذي تعتمده يتميز بنهج عملي ودبلوماسي، ويركز على الوساطة وحل المشاكل وبناء الثقة.

وتتركز جهود مسقط بشكل رئيسي على الشرق الأوسط وجواره المباشر، وتهدف إلى تحقيق نتائج مربحة للجانبين بدلاً من تحقيق مكاسب سريعة. وتتأثر أنشطة الوساطة العُمانية أيضاً بدورها الفريد كميسّر سري، مما يتيح أوجه معينة من التدخل في ظل ظروف معينة. ومن المرجح أن تمارس عُمان وساطتها في المواقف التي تقبل فيها الدول المجاورة إجراءاتها. فضلاً عن ذلك، يتأثر أسلوب عُمان بالتزامها بالحفاظ على ثقة جميع الأطراف المشاركة في عملية الوساطة وشراكاتها الاستراتيجية مع شركائها الأساسيين مثل الولايات المتحدة.

 

قطر: "الوسيط صاحب المجازفات الكبيرة"

تؤكد قطر نفسها كوسيط ديناميكي في النزاعات، وتتبنى إطاراً دبلوماسياً متعدد الأوجه وتُظهر مرونة في ساحة بناء السلام الدولية بعد عام 2020. وينطوي أسلوب قطر في حل النزاعات على الانخراط في أشكال متعددة من حلها، من بينها الدبلوماسية الوقائية، ووساطة الطرف الثالث، ودعم منع نشوب النزاعات متعددة الأطراف. وتضاءل دور الدوحة في أعقاب أزمة الخليج عام 2017، لكنه برز من جديد مع العودة إلى وساطة الطرف الثالث في بداية العقد الثالث من القرن الحالي، وحظي باهتمام واسع النطاق في أعقاب الاتفاق بين الولايات المتحدة و"طالبان"، ومؤخراً، أزمة غزة.

وعادةً ما توافق قطر على الوساطة بناءً على طلب رسمي من أطراف النزاع. وكان ذلك واضحاً في حالة المفاوضات بين الولايات المتحدة و"طالبان"، حيث عمدت الأخيرة إلى تقييم جهات إقليمية مختلفة من الأطراف الثالثة واختيارها قطر على خلفية قبولها بالشروط المسبقة وعدم تدخلها في النزاع الأفغاني. بالإضافة إلى ذلك، تتأثر إمكانية قبول قطر كوسيط بعلاقاتها مع الدول الأخرى، من بينها الولايات المتحدة.

 

الإمارات العربية المتحدة: "بانية الإجماع"

تؤيد دولة الإمارات الدبلوماسية السرية القائمة على الإجماع، مما يعزز الاستقرار على المدى الطويل والشراكات القوية. فالتوازن بين المصالح الوطنية والصالح العام، وبناء العلاقات القوية، والاتساق، والابتكار، ونهج التفاوض الإيجابي، والمثابرة هي سمات أسلوب حل النزاعات الذي تنتهجه الإمارات. وتتعامل أبو ظبي مع النزاعات من خلال تطوير تفاهمات طويلة الأمد والبقاء منفتحة على الحلول المحلية المصدر. وينبع نهج الإمارات من حاجتها إلى الأمن والاستقرار في المنطقة بشكل عام مع انتقال البلاد من الاعتماد على عائدات النفط إلى اقتصاد مستدام ومتنوع. ومن الواضح أن أسلوب الإمارات يتميز بنهج هادئ وسري، والثقة في قدرتها على ضمان السرية، والقدرة على التحدث مع جميع أطراف النزاع. فالتركيز على الحلول التوافقية متجذر بعمق في التاريخ الفيدرالي للبلاد وقيم التسامح وهويتها الوطنية. ومن المرجح أن تمتنع الإمارات عن السعي بشكل نشط وراء فرص الوساطة. وقد توافق إذا كانت الظروف تلائم مصالحها أو إذا رأت أنه يمكنها أن تلعب دوراً معيناً أو تضمن نتيجة مربحة للجانبين.

ووراء القواسم المشتركة والاختلافات بين مقاربات دول الخليج في الوساطة يكمن مفهومان ثقافيان متجذران بعمق قد يوفران الأسس الضرورية لفهم كيفية تعامل المنطقة مع حل النزاعات وإدارتها، ولماذا يمكن أن يكون نهجها بمثابة أداة دبلوماسية قيّمة في عالم متعدد الأقطاب يعاني من عدم الاستقرار.

 

المجلس

المفهوم الأول هو فكرة المجلس، والتي تشير في العالم العربي إلى قسم مخصص في المسكن لاستقبال الضيوف. إنه نقيض الإعداد لوجبات الغداء الهامة في إطار العمل، أو الاجتماعات القصيرة، أو جلسات العصف الذهني، إذ يشكل مساحة للتفاعل الاجتماعي المريح وتبادل الآراء والمناقشة المتعمقة. لكن المجلس ليس مجرد مكان، بل هو حدث ومناسبة تجمع الأشخاص مع بعضهم البعض. من هنا، اعترفت به "اليونسكو" لأهميته الثقافية في تعزيز "الحوار المجتمعي وحل النزاعات وتعزيز الروابط الاجتماعية".

 

إن القدرة على الابتعاد نوعاً ما عن الوتيرة السريعة لعالمنا، بعيداً عن الكاميرات وضغط وسائل التواصل الاجتماعي، للاختلاء في مجلس، حيث يُحظر سلوك معين مثل الافتراء على الآخرين أو التشهير بهم، وحيث تنخرط الأطراف في نقاش معمق يحفظ الكرامة، قد يكون ما يحتاج إليه الكثير من أطراف النزاعات لتعزيز التوافق. وقد اعتبر البعض أن المجلس كان أحد الأدوات الحاسمة في تعزيز الإجماع الإماراتي الرائد في المفاوضات الأخيرة لمؤتمر الأطراف "كوب 28". فقد تحدث سلطان الجابر، رئيس مؤتمر الأطراف "كوب 28"، في كلمته الختامية عن إيمانه بأن مجلس صناع التغيير الذي استضافه مؤتمر الأطراف سمح للمندوبين بـ"إعادة التواصل" و"البدء في التحدث مع بعضهم البعض من القلب".

 

الصلح

المفهوم الثاني هو الصلح، وهو مصطلح عربي يعني السلام، على عكس النزاع أو الحرب. ويتشارك هذا المفهوم جذوره اللغوية مع كلمة "مصالحة". لكن في التقاليد الإسلامية، يشير الصلح أيضاً إلى التسوية الودية والوساطة. وهو النتيجة والعملية المفضلة في أي شكل من أشكال حل النزاعات. ولعل هذه السمات تجعل مفهومَي "التسوية الودية" والمجلس، وكلاهما مهم جداً لثقافات الخليج، مناسبين لممارسة الوساطة في النزاعات في عالم يشهد تجزئة واستقطاباً أكثر من أي وقت مضى.

ويُعتبر مفهوما المجلس والصلح أساسيين لفهم مقاربة دول الخليج في الوساطة. فالمجلس يوفر المساحة المادية والثقافية لحل النزاعات. ومن ناحية أخرى، يوفر الصلح الإطار غير الملموس لنهج الخليج في الوساطة ويؤكد أهمية التوصل إلى تسوية ودية واستعادة السلام بدلاً من حل نزاع فوري. ويشكل هذان المفهومان معاً مزيجاً قوياً.

وتظهر عدة اختلافات حيوية عند مقارنة أسلوب الوساطة الذي تتبعه دول الخليج مع الوسطاء الغربيين التقليديين. فالوساطة الغربية تركز غالباً على نهج أكثر رسمية وتنظيماً يؤكد على أهمية الأطر القانونية والعمليات المؤسسية والالتزام بالقواعد والمبادئ. وغالباً ما يتضمن هذا النهج أسلوب انخراط مباشر وحازم، حيث يقترح الوسطاء بشكل نشط الحلول ويمارسون الضغط على الأطراف المتنازعة للتوصل إلى اتفاق. وفي المقابل، يتميز النهج الذي تتبناه دول الخليج بالتركيز بشكل أكبر على الشبكات غير الرسمية، والعلاقات الشخصية، والتفاهم الثقافي. ويُعد هذا النهج أكثر قيمة عند التعامل مع النزاعات التي يواجه فيها الوسطاء الغربيون التقليديون صعوبة في بناء الثقة والمصداقية بسبب المظالم التاريخية أو تصورات التحيز.

 

التحديات والفرص

على الرغم من النفوذ المتزايد لدول الخليج في الوساطة الدولية، إلّا أنها تواجه الكثير من التحديات والقيود التي يمكن أن تؤثر في فعالية جهودها والتصور القائم تجاه هذه الجهود. ويتمثل أحد التحديات الكبيرة في إمكانية النظر إلى وساطتها على أنها متحيزة أو مدفوعة بالمصلحة الذاتية، لا سيما في الحالات التي تكون فيها علاقاتها قوية مع أحد الأطراف المتنازعة. وهذا التصور للتحيز يمكن أن يقوّض مصداقيتها كوسيطة ويحد من تقبل بعض الجهات الفاعلة لجهودها. كما أن الاعتماد على العلاقات الشخصية وقنوات الاتصال غير الرسمية، على الرغم من فعاليته في بعض السياقات، قد يحد من قدرتها على الانخراط في عمليات رسمية ومؤسسية. ومع استمرار دول الخليج في توسيع دورها في الوساطة، سيتعين عليها التغلب على هذه التحديات والقيود لضمان فعالية واستدامة جهودها على المدى الطويل.

وتواجه دول الخليج أيضاً مخاطر محددة وعواقب محتملة غير مقصودة مرتبطة بهذه المخاطر. ويتمثل أحد هذه المخاطر باحتمال أن تؤدي جهودها عن غير قصد إلى تفاقم المنافسات الإقليمية. ونظراً للشبكة المعقدة من المنافسة السياسية والاقتصادية والأيديولوجية في المنطقة، يمكن اعتبار مبادرات الوساطة الخاصة بها امتداداً لهذه المنافسات، وليس جهداً محايداً وغير متحيز لتعزيز السلام. بالإضافة إلى ذلك، إذا تم النظر إلى جهود الوساطة التي تبذلها دول الخليج على أنها مدفوعة بشكل رئيسي بمصالحها الاقتصادية أو الجيوسياسية الخاصة، بدلاً من الالتزام الفعلي بحل النزاعات، فقد يؤدي ذلك إلى تقويض شرعية مبادراتها. وللتخفيف من هذه المخاطر، يجب على دول الخليج إظهار درجة عالية من الشفافية والحياد والشمولية والعمل بشكل وثيق مع الشركاء الإقليميين والدوليين الآخرين لبناء الثقة والدعم لمبادراتها.

كما أن الدور المتنامي لدول الخليج في الوساطة الدولية يثير تساؤلات مهمة حول كيفية تفاعل جهودها مع عمل المنظمات الدولية القائمة، لا سيما الأمم المتحدة، واستكماله. وتلعب الأمم المتحدة، باعتبارها الهيئة العالمية الرئيسية المسؤولة عن حفظ السلام والأمن الدوليين، دوراً حاسماً في تنسيق حل النزاعات ودعمه في جميع أنحاء العالم. ومع ذلك، فقد تعرضت قدرة الوساطة للأمم المتحدة لضغوط وتحديات متزايدة في السنوات الأخيرة. وفي هذا السياق، فإن ظهور دول الخليج كوسيطة إقليمية يمثل فرصاً وتحديات للتعاون والتنسيق مع الأمم المتحدة. فارتباطها الثقافي واللغوي بالكثير من المناطق المتضررة من النزاعات في الشرق الأوسط وخارجه يمكن أن يشكّل رصيداً كبيراً. كما يمكن أن يساعد نفوذها الاقتصادي والسياسي في تعبئة الموارد والحوافز لدعم جهود الوساطة، استكمالاً لمبادرات الأمم المتحدة لبناء السلام والتنمية.

ومن ناحية أخرى، يمكن لجهود الوساطة التي تبذلها دول الخليج أن تعمل في بعض الأحيان بالتوازي مع مبادرات الأمم المتحدة أو حتى بالتنافس معها، مما يؤدي إلى الازدواجية أو التجزئة أو حتى تناقض في النهج. وللتخفيف من هذه المخاطر والاستفادة إلى أقصى حد من إمكانات التعاون، سيتعين على دول الخليج والأمم المتحدة إنشاء أطر وآليات واضحة للتواصل والتنسيق والدعم المتبادل. وفي نهاية المطاف، ينبغي أن يكون الهدف هو الاستفادة من المزايا النسبية ونقاط القوة التكميلية لكل من دول الخليج والأمم المتحدة.

ومن المرجح أن يستمر دور دول الخليج في الوساطة الدولية بالتطور والتوسع، متأثراً بعوامل مختلفة، من بينها المشهد الجيوسياسي المتغير، والتحولات بين الأجيال، والتقدم التكنولوجي. ومع استمرار ديناميكيات القوة العالمية في التحول نحو عالم أكثر تعددية للأقطاب، تجد دول الخليج نفسها في وضعية جيدة لتأكيد نفوذها والاضطلاع بدور أكثر بروزاً في حل النزاعات. وسيمكّنها موقعها الاستراتيجي ونفوذها الاقتصادي وقدراتها الدبلوماسية المتنامية من الاضطلاع بدور نشط في تحديد نتائج النزاعات الإقليمية والدولية. فضلاً عن ذلك، مع ظهور جيل أصغر من القادة في دول الخليج، من المرجح أن يساهم بوجهات نظر جديدة وأساليب مبتكرة للوساطة، معتمداً على خبرته مع التعليم العالمي، والشبكات المتنوعة، والدهاء التكنولوجي. ويمكن أن يؤدي هذا التغيير بين الأجيال إلى أسلوب وساطة أكثر ديناميكية وقابلية للتكيف، والاستفاد من أدوات التواصل الجديدة وتبادل المعلومات وأدوات ومنصات بناء الثقة.

وفي الوقت عينه، يجب على دول الخليج مقاومة الثقة المفرطة في قدراتها على الوساطة وينبغي عليها التوسع في مناطق مجهولة، والتغلب على التحديات التي تفرضها التعقيدات المتزايدة للنزاعات العالمية، مثل الدور المتنامي للجهات الفاعلة غير الحكومية، والتي أوجبت عليها بشكل فريد التعامل معها خلال العقود الثلاثة الماضية على نحو لم يشهده الغرب. كما أن تغير المناخ واحتمال أن تؤدي التهديدات السيبرانية إلى تقويض عمليات السلام يفرضان تحديات جديدة على الساحة. وفي حين أن الوساطة وحل النزاعات أمران ضروريان، ينبغي على دول الخليج استثمار المزيد في إدارة النزاعات والدبلوماسية الوقائية.

كما يقدم الدور الناشئ لدول الخليج في الوساطة الدولية دروساً قيّمة للمجتمع الدولي ككل. وتشمل هذه الدروس أهمية اعتماد نهج مراعٍ ثقافياً ومحدد السياق في الوساطة. والدرس الآخر هو الحاجة إلى الصبر والمثابرة واعتماد منظور طويل الأمد في جهود حل النزاعات. وتؤكد تجربة دول الخليج أيضاً أهمية الاستفادة من الحوافز الاقتصادية وأطر التعاون الإقليمي. فمن خلال ربط جهود الوساطة بمبادرات أوسع نطاقاً لتعزيز التكامل الاقتصادي، وتطوير البنية التحتية، والازدهار المشترك والحفاظ على الثقافة، يمكن لدول الخليج أن تُظهر كيف يمكن دمج بناء السلام ضمن رؤية أوسع نطاقاً للاستقرار والنمو. وأخيراً، تسلط تجربة دول الخليج الضوء على إمكانية اضطلاع الجهات الفاعلة الإقليمية بدور أكثر بروزاً في جهود الوساطة الدولية.

وعند النظر إلى المستقبل، يمكن القول إن دول الخليج مهيأة للاضطلاع بدور أهم في تشكيل معالم السلام والأمن الدوليين، وسيكون نهجها في الوساطة عاملاً حاسماً في تحديد مدى نجاح هذه الجهود. وتجدر الإشارة إلى أن بعض مبادرات الوساطة الأخيرة ركزت أيضاً على حماية المدنيين والحفاظ على المجتمع كخاصية مميزة للنهج الإقليمي. ويتماشى ذلك مع مبادئ حقوق الإنسان التقليدية في منطقة غير معتادة على مثل هذه الأفكار. على سبيل المثال، إن القرارين المتعلقين بغزة، اللذين قدمتهما الإمارات في مجلس الأمن الدولي في عام 2023، وعمليات تبادل الأسرى بين أوكرانيا وروسيا، ومناصرة حقوق المرأة، والغضب الحقيقي من حملات القمع التي تشنها حركة "طالبان" ضد الأفغان، تشكل جميعها أمثلة على الحماية النشطة لحقوق الإنسان. لكن التداعيات الكاملة لأسلوب التفاوض الناشئ في منطقة الخليج ستصبح أكثر وضوحاً مع مرور الوقت وظهور المزيد من الحالات التي تتطلب جهود وساطة خليجية، مع ملاحظة المجتمع العالمي للنتائج طويلة الأمد للتدخلات الخليجية. وسيكون رصد هذه التطورات أساسياً لتكوين فكرة وافية عن دور الخليج وأساليبه في حل النزاعات الدولية والتزامه بدعم مبادئ حقوق الإنسان في هذا الإطار.

*نيكولاي ملادينوف هو زميل "سيغال" المتميز الزائر في معهد واشنطن. وهو سياسي ودبلوماسي بلغاري، عمل مؤخراً كمنسق خاص للأمم المتحدة لعملية السلام في الشرق الأوسط. وتم نشر هذه المقالة في الأصل على الموقع الإلكتروني لـ "مركز العلاقات الدولية والتنمية المستدامة".

 


12/06/2024