×

  رؤى حول العراق

  أبعاد توظيف العراق دبلوماسية الوساطة في الصراعات الإقليمية



*الباحث كرم سعيد

  

*انترريجيونال للدراسات

تحوّل العراق إلى رقم مهم في جهود الوساطة في عددٍ من الصراعات الإقليمية، حيث تمكن من تحقيق اختراق في عددٍ من الملفات الشائكة، خاصة فيما يتعلق بتعزيز التقارب بين أنقرة ودمشق في ظل التصريحات التي أدلى بها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، في 7 يوليو 2024، والتي قال فيها إن أنقرة قد توجه دعوة للرئيس السوري بشار الأسد لزيارة تركيا، وأشار إلى دور عراقي في التقريب بين الطرفين، بالإضافة إلى توفير بيئة مواتية لتصفية القضايا الخلافية بين طهران والرياض قبل توقيع اتفاق بكين في 10 مارس 2023، بالتوازي مع نقل رسائل بين طهران وواشنطن.

وتطرح دبلوماسية الوساطة التي يتبناها العراق العديد من التساؤلات بشأن الأهداف التي تسعى بغداد إلى تحقيقها عبر ذلك، والتي تتركز بالأساس حول الرغبة في توظيف دبلوماسية الوساطة لدعم الدور والنفوذ إقليمياً ودولياً، وبما يُسهم في استثمار هذه النجاحات في معالجة حالة عدم الاستقرار التي تشهدها البلاد، فضلاً عن تحقيق إنجاز داخلي يمكن من خلاله احتواء الأزمات التي تواجه البلاد في التوقيت الحالي.

كما تستهدف جهود الوساطة، في جانب آخر منها، محاولة بناء نظام إقليمي يطغى النمط التعاوني على العلاقات بين أطرافه الرئيسيين، جنباً إلى جنب مع تقليص حدة التوترات والصراعات القائمة، والتي تفرض في طياتها ارتدادات على دول الإقليم، ومنها العراق.

 

سياقات متقاطعة

 

تأتي الوساطة العراقية في عدد من الملفات الإقليمية في خضم العديد من التحولات المحلية والإقليمية والدولية ذات الصلة والتي يتمثل أبرزها في:

 

1- قدرة العراق على الانفتاح على قوى مختلفة:

 تأتي جهود الوساطة العراقية في عدد من الصراعات الإقليمية في ضوء التطور الحادث في علاقات بغداد الإقليمية، وقدرتها على بناء شراكات استراتيجية متنوعة مع عدد واسع من القوى الإقليمية والدولية، وهو ما ظهر في توقيع اتفاق أمني مع أنقرة في 22 أبريل 2024، هو الأول من نوعه بين البلدين لتعزيز دورهما في محاربة الجماعات المسلحة.

بالتوازي مع ذلك، حافظ العراق على علاقاته الاستراتيجية مع سوريا، حيث مارست بغداد دوراً مسانداً وحيوياً في عودة دمشق للجامعة العربية وحضور القمة العربية التي استضافتها الرياض في 19 مايو 2023. كما شهدت السنوات الثلاث الماضية توقيع العديد من الاتفاقيات الأمنية بشأن التطورات الميدانية، سواء على الحدود المشتركة، أو على مستوى محاصرة تحركات الفصائل المسلحة ومقاتلي "داعش". في المقابل، شهدت العلاقات العراقية-الخليجية طفرة غير مسبوقة، وبدا ذلك جلياً، على سبيل المثال، في استعداد العراق، بحسب تقارير عديدة في 9 يوليو 2024، لطرح قانون لحماية الاستثمار السعودي العراقي، ليسهم في دفع مسار التعاون الاقتصادي بين المملكة والعراق.

 

2- ارتباك العلاقات الأمنية مع واشنطن:

لا تنفصل التحركات العراقية للانخراط في أدوار الوساطة للوصول إلى تسويات للصراعات الإقليمية عن التوتر المستمر مع الولايات المتحدة الأمريكية، في ظل تصاعد ضغوط القوى السياسية العراقية -الموالية لإيران- لدفع الحكومة نحو وضع جدول زمني لإنهاء مهام التحالف الدولي والوجود العسكري الأمريكي في العراق، فضلاً عن استهداف المليشيات العراقية الموالية لإيران القواعد الأمريكية في الإقليم، للرد على الدعم الأمريكي للعمليات العسكرية الإسرائيلية في قطاع غزة. وهنا، يمكن تفسير مساعي رئيس الحكومة العراقية محمد شياع السوداني لتوظيف دبلوماسية الوساطة بين واشنطن وبغداد من أجل تحييد الضغوط الأمريكية على العراق من جهة، ومحاولة إعادة العلاقات الثنائية بين البلدين إلى نقطة "توازن" جديدة من جهة أخرى.

 

3- صعوبة التوازن بين شركاء بغداد في الشرق الأوسط:

رغم ارتباطات العراق بتحالفات ومصالح واسعة مع عدد من الشركاء الإقليميين والدوليين، وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية وإيران؛ إلا أن الشراكة مع هذين البلدين مثّلت في جوهرها متغيراً ضاغطاً على بغداد في كثير من الأحيان، وظهر ذلك في فشل حكومة السوداني في تأسيس توازن دقيق قادر على إدارة مصالحها مع واشنطن وطهران في آن واحد، بالنظر إلى عدم امتلاكها الأدوات الضاغطة على الطرفين لتحقيق هذا التوازن، فضلاً عن تباين حساباتهما ومصالحهما الذي يفرض خيارات محدودة أمام بغداد.

 

4- اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية الأمريكية:

تتزامن الوساطة العراقية حيال بعض أزمات الإقليم مع اقتراب الانتخابات الرئاسية الأمريكية التي سوف تُجرى في نوفمبر 2024، حيث تتزايد مخاوف بغداد من عودة الرئيس السابق دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، وهو الأمر الذي قد يلقي بظلال سلبية على موقع ومصالح العراق الإقليمية، خاصة في ظل معارضة ترامب لانسحاب قوات بلاده من العراق قبل دفع بغداد قيمة المنشآت الجوية التي تكلفتها واشنطن، بالإضافة إلى سياسة ترامب العدائية تجاه إيران. كما تدرك الحكومة العراقية في التوقيت الحالي، أن عودة ترامب تعني تعزيز احتمالات تجدد المواجهة العسكرية المباشرة بين واشنطن وطهران، وهو ما قد يزيد من حدة الاستقطاب على الساحة العراقية، وسط مخاوف من تحول العراق إلى ساحة نزاع مفتوحة بين الولايات المتحدة الأمريكية وإيران.

 

أهداف مختلفة

يعوِّل العراق في التوقيت الحالي على توظيف دبلوماسية الوساطة في بعض أزمات الإقليم لتحقيق جملة من الأهداف، التي يمكن تناولها على النحو التالي:

 

1- تعزيز الموقع السياسي لرئيس الوزراء السوداني:

 ترتبط تلك الجهود التي تبذلها الحكومة العراقية باقتراب موعد الانتخابات التشريعية التي سوف تجري في عام 2025؛ حيث يسعى السوداني إلى توظيف مبادرات وجهود الوساطة لتعزيز موقعه داخل خريطة القوى السياسية، وبالتالي دعم قدرته على الاستمرار في منصبه كرئيس للحكومة، خاصة في ظل تصاعد خلافاته مع الإطار التنسيقي حيال عدد من الملفات، ومنها التعيينات داخل الأجهزة الأمنية، بالإضافة إلى تباين رؤية الجانبين بشأن العلاقات مع الولايات المتحدة الأمريكية.

 

2- تكريس سياسة التوازن الاستراتيجي في الإقليم:

تستهدف مبادرات وجهود الوساطة العراقية، في قسم معتبر منها، توفير وتأمين القدرات اللازمة للحفاظ على سياسة التوازن مع الشركاء الإقليميين والدوليين. فعلى سبيل المثال، يرتبط العراق بمصالح استراتيجية مع طهران وواشنطن، وفي ظل الأوراق الضاغطة لدى الطرفين داخل الساحة العراقية، فإن بغداد ربما ترى أن أدوار الوساطة للوصول إلى تسويات لبعض القضايا الخلافية تبقى مدخلاً مهماً، سواء لتحقيق التوازن الاستراتيجي أو لتحييد الضغوط التي يمارسها الشركاء. ووفقاً للعديد من التقديرات، فإن تبني العراق دبلوماسيةَ الوسيط في المرحلة الحالية يهدف إلى تحقيق قدرٍ من الاتزان في مواقف العراق تجاه أطراف الصراعات الإقليمية، ومن ثم منح العراق قدرة إضافية لتفادي تدهور علاقاته الإقليمية والدولية.

 

3- توثيق العلاقات مع المحور السُني:

 تهدف هذه الجهود التي يقودها رئيس الحكومة محمد شياع السوداني إلى تعزيز العلاقات بين العراق والمحور السُني، وذلك لتقليص حدة الضغوط الإيرانية على الداخل العراقي، خاصة أن طهران تمكنت من توظيف المليشيات والأذرع الشيعية العراقية الموالية لها ليس فقط لإعادة رسم الساحة العراقية وفقاً لمصالحها الإيرانية الضيقة والآنية، وإنما لاستخدام العراق كساحة لتصفية الخلافات مع الخصوم، وهو ما بدا واضحاً في استهداف المليشيات العراقية للقواعد العسكرية الأمريكية في سوريا والعراق والأردن رداً على الدعم الأمريكي للحرب التي تشنها إسرائيل في قطاع غزة منذ 7 أكتوبر 2023.

 

4- توسيع نطاق المكاسب الاقتصادية مع القوى الإقليمية والدولية:

تسعى بغداد من خلال توظيف مبادرات الوساطة في الصراعات الإقليمية للحفاظ على العلاقات الاقتصادية، ورفع مستوى التبادل التجاري مع بعض القوى الإقليمية والدولية، حيث يصل حجم التبادل التجاري مع تركيا، على سبيل المثال، إلى نحو 15 مليار دولار، فضلاً عن الرغبة في احتواء الخسائر التي ترتبت على وقف تصدير النفط العراقي منذ مارس 2023 من كركوك وإقليم كردستان، عبر تركيا. كما تمثل العلاقات الاقتصادية مع الولايات المتحدة الأمريكية وإيران أولوية استراتيجية للعراق، فبينما وصل حجم التبادل التجاري مع الأولى إلى 10.7 مليارات دولار في نهاية عام 2023، فإن العراق يعد أحد أهم الشركاء التجاريين لإيران، حيث يصل حجم التجارة بين البلدين إلى نحو 9.8 مليارات دولار.

في المقابل، تمثل السعودية وسوريا واجهات اقتصادية مهمة للعراق، فبالإضافة إلى وصول حجم التبادل التجاري بين العراق والسعودية إلى 1.3 مليار دولار، كشفت وزارة الاستثمار السعودية في 5 أبريل 2024 عن توقيع 12 شركة سعودية مذكرات تفاهم مع صندوق العراق للتنمية، كما كشف رئيس مجلس الأعمال العراقي السوري في فبراير 2024، عن تخطي حجم التبادل التجاري بين العراق وسوريا حاجز المليار دولار، فضلاً عن توافق البلدين على آلية لاعتماد عملات أخرى غير الدولار في المعاملات التجارية المشتركة.

 

تحديات متعددة

ختاماً، يمكن القول إن العراق برغم أنه يمتلك بعض المقومات التي تؤهله لممارسة دور الوسيط الدبلوماسي حيال الصراعات الإقليمية، وفي الصدارة منها علاقاته المتشابكة في المنطقة، بالإضافة إلى إثبات حكومة السوداني كفاءة نسبية في تعزيز فرص الوصول إلى تسويات لبعض الملفات المعقدة محلياً وخارجياً؛ إلا أن ثمة تحديات عديدة تواجه العراق في هذا الإطار، في الصدارة منها تعقيدات السياسة المحلية، وولاءات بعض التيارات العراقية لدول بعينها، بالإضافة إلى تأزم الأوضاع الاقتصادية، فضلاً عن تباين الأطراف المتصارعة في رؤيتها لحل خلافاتها، حيث لا تمتلك بغداد في هذا السياق كثيراً من الأوراق الضاغطة التي يمكن أن تساعدها في التعامل مع مجمل هذه المتغيرات.


13/07/2024