أصدر وزير الخارجية الإيراني السابق جواد ظريف مذكراته الجديدة «طاقة الصبر» حيث يروي مسيرة ثمان سنوات التي كان فيها على رأس الدبلوماسية الإيرانية (2013–2021)، واستعرض أهم الأحداث والمواقف الداخلية والخارجية خلال تلك المرحلة، وما يدور في غرف صنع القرارات الاستراتيجية في طهران، لقد دوّن ظريف مذكراته في 538 صفحة وستة أبواب مع مقدمة وخاتمة بالإضافة للملاحق. وقد طبع الكتاب ثلاث مرات منذ صدوره في مارس 2024م.
يذكر ظريف في المقدمة سبب اختيار عنوان المذكرات، حيث يقول: أردت أن أسمّي الكتاب «الشفاه المبتسمة والكبد الدامي» تخليداً لذكرى معاناة ثماني سنوات من الخدمة، ولكنني خشيت أن يكون اسماً ميؤوساً منه، ولا يتماشى مع نظرتي لمستقبل إيران الواعد الذي سيبنيه صنّاع المستقبل من جيل الشباب بعون الله، لذلك، اخترنا اسماً آخر للكتاب يعبّر عن الحاجة للصبر مع الأمل، وذلك بمساعدة الصديق الأديب والمثقف مهدي دانش يزدي، وبإلهام من الغزل الرائع للشاعر حافظ، الذي ربما هو مأخوذ من طاقة الصبر والانتظار لملهم الوجود، وهو الأمل في ظهور منقذ البشرية الإمام المهدي (أرواحنا فداه)، وكذلك بسط المحبة والتعايش في الخلق.
ثم يشير إلى الهدف من المذكرات بقوله، إنّ الغرض من تأليف هذا الكتاب، الذي يمثّل تاريخ ثماني سنوات من الدبلوماسية الإيرانية، وانطباعاً عن أربعين عاماً من العلاقات الخارجية للبلاد، هو أن تستفيد منه الأجيال المقبلة لتحقيق إدارة أفضل ودبلوماسية أكثر كفاءة.
والشرط الأساسي لتحقيق هذا الهدف هو تجاوز القراءة البسيطة للأحداث واتّباع أسلوب التدقيق والتساؤل الذكي، وبهذه الطريقة فقط يصبح تعلّمنا الحالي مدّخراً للتعلّم والبصيرة للمستقبل، ومن المؤكد أنّ الأمم والحكومات، التي لا تتخذ موقفاً دقيقاً في التعامل مع بقايا الماضي ولا تقرأ الماضي بحكمة، سوف تعيد أخطاءه وزلّّاته.
في هذا السياق قدَّم المبحث الخاص بالعلاقة مع العراق في المذكرات، وتحدث فيه عن طبيعة هذه العلاقة وتحدياتها، وكذلك عن زياراته للعراق ولقاء بعض المسؤولين وانطباعه عن المرجعية الدينية عند زيارته للنجف الأشرف ولقائه بمرجعية السيد السيستاني "دام ظله".
مبحث العلاقة مع العراق في المذكرات
يعدُّ العراق جاراً مهماً لإيران حيث شغل مساحة مهمة في السياسة الإيرانية. فقد كان العراق يمثل قلقاً كبيراً بالنسبة إلى النظام البهلوي الثاني إثر تزايد قوته العسكرية وتلقيه الدعم العسكري وتزوُّده بمختلف المعدات والأسلحة الحديثة من قبل الاتحاد السوفيتي أضف إلى تلك الصراعات القديمة، قضية الحرب التي طالت ثماني سنوات والتي تلت مباشرة انتصار الثورة الإسلامية.
بعد سقوط نظام صدام حسين، أصبحت هناك علاقة وثيقة وتقارب متين بين جمهورية إيران الإسلامية والعراق.
وقد استحكم هذا التقارب بسبب الوشائج الدينية والمذهبية المشتركة بين الشعبين.
بالإضافة إلى عامل الجوار، فإن احتضان العراق للعتبات والمراقد المقدسة جعل تواصل الشعبين وعلاقتهما برابطة عاطفية وأيديولوجية عميقة أمراً لابد منه، ومن هذا المنطلق كان يجب أن تتوسع العلاقات بين إيران والعراق والسعودية.
قمت في عهد صدام بعدة زيارات رسمية إلى العراق، وكنت حاضراً في زيارة الدكتور ولايتي الأولى إلى العراق عام 1991 ، وذهبت أيضاً إلى العراق برفقة الدكتور خرازي، والتقينا فيها بصدام. وقبل الذهاب إلى نيويورك للقيام بمهمة رسمية في الأمم المتحدة أصرت زوجتي على أن نذهب إلى العراق أولاً لزيارة الأئمة والدعاء عند أضرحتهم ليكون عيشنا في الغرب في مأمن من الأخطار والمشاكل، ولذلك قمنا برحلة عائلية إلى العراق وذلك في ذروة الحر في شهر أغسطس 2002 .
كانت رحلتي الأولى الرسمية بعد بدء العمل كوزير للخارجية إلى العراق. وكانت الزيارة الأولى للسيد رئيس الجمهورية إلى بيشكيك للمشاركة في اجتماع منظمة شنغهاي للتعاون. وفي الوقت نفسه، تم الترتيب له أيضاً لزيارة ثنائية إلى قيرغيزستان. وهكذا انطلقت الرحلات الثنائية على مستوى رئيس الجمهورية ووزير الخارجية من الجيران والمنطقة.
خلال رحلتي الأولى إلى العراق التقيت بقيادات الأحزاب ورجالها.
حضرنا مأدبة عشاء باستضافة رئيس الجمهورية، كما أجرينا لقاءات ودية ورسمية مع رئيس البرلمان ورئيس الوزراء، وفي إحدى الزيارات ومن أجل متابعة ملف اغتيال الشهيد قاسم سليماني، أجرينا لقاءً مع رئيس اللجنة القضائية العراقية وذلك بسبب ارتباطه بالملف المذكور.
كان رؤساء الأحزاب والتنظيمات وفصائل المقاومة وقياداتها من الشيعة والسنة والمسيحيين والإيزيديين ضمن قائمة الزيارات العديدة التي قمنا بها إلى العراق.
خلال زيارة استغرقت ستة أيام قمنا بالرحلة إلى خمس مدن، التقينا فيها أيضاً برجال أعمال عراقيين ومقيمين إيرانيين، حيث لقيتْ كل تلك اللقاءات استحساناً كبيراً.
لعل أهم ذكرى لي في الرحلة الأولى إلى العراق هي اللقاء بآية الله العظمى السيستاني الذي شملنا بعطفه وكرمه 2. تشرفت بزيارته في رحلتين في الرحلة الأولى رافقتُ رئيس الجمهورية.
إضافة إلى عظمة شخصية السيد السيستاني فإن له مطالعة واسعة وخبرة وفراسة في مجالات مختلفة. في نفس اللقاء قال سماحته إنه طالع كتاب «سعادة سفير » الذي كان قد طبع في حينه مرتين.
خلال زياراتي الثلاث أغرقني سماحته بلطفه وكرمه، خاصة عندما تشرفت بزيارته وأنا برفقة السيد رئيس الجمهورية. لقد التقيت برؤساء العديد من الدول ولكني لم أجد شخصية عظيمة كالسيد السيستاني.
إن لسماحته رؤية في الأحداث السياسية إلا أنه لا يعبر عن رؤاه بصورة مباشرة وفي بعض الأحيان يرى المصلحة في عدم التدخل. بالإضافة إلى ذلك، فقد لعب سماحته دوراً في إعادة الصف والوحدة ليس بين المجتمع الشيعي فحسب، بل بين المسيحيين والمجموعات العرقية الأخرى.
لا تجد في العراق من ينظر إلى سماحته بنظرة سلبية إلا القليل. وفيما يخص الشأن الإيراني إلى جانب دعمه لها يصر سماحته دائماً على أن جمهورية إيران الإسلامية يجب أن تتحدث مع العالم بدراية وفطنة لتحصل على حقوقها.
وللأسف لم يتم التقاط أي صور أو فيديوهات من اللقاءات التي جمعتنا بسماحته باستثناء لقائنا بصحبة رئيس الجمهورية. أعتقد أن إهمالَ تسجيل الأحداث مثل تدوين الملاحظات أو التقاط صور للاجتماعات واللقاءات سواء كان بدوافع شخصية عديدة أو مراعاة للسرية أمرٌ جدير ولكن الآن تراودني شكوك جدية حول صحة هذا العمل لاسيما ساعة تأليف هذا الكتاب.
كما مرت الإشارة فإن العلاقة مع العراق كانت دوماً علاقة مهمة، ولكن بعد الحرب أصبحت تلك الأهمية أكثر وضوحاً. لقد واجهنا لسنوات عدة تحديات بين البلدين حول الحدود البرية والمائية. ومن اللافت أنه قبل عام 2003 ، كانت فيما بيننا صراعات فكرية وأيديولوجية، حيث كانت تقف إيران في المعسكر الغربي ويقف صدام في المعسكرالشرقي.
إلا أنه حدثت بعد تلك الفترة تغييرات أساسية.وخلال الحرب العراقية الايرانية، كانت جميع القوى الكبرى والصغرى تقف إلى جانب صدام. وعلى الرغم من اختلاف الآراء ووجهات النظر، فإنه ينبغي أ لّّا يتناسى الشعب الإيراني هذا الحدث الفريد وخلفياته ضمن تاريخ إيران والعالم.
من وجهة نظر جغرافية، يقع العراق في بيئة جغرافية مضطربة.. حيث إن طرق وصوله إلى المياه الحرة مقيدة تماماً، مما جعل السياسة الخارجية للبلاد تجاه إيران والكويت تواجه صعوبة وتعقيداً للغاية.
وقد ظلت قضايا -مثل تجريف )نهر أروند( وفقاً لاتفاقية الجزائر عام 1975 دون حل لما يقرب من ثمانية وعشرين عاماً بعد انتهاءالحرب العراقية الايرانية، ففي سبتمبر عام 1989 عندما بدأت الجولة الأولى من المحادثات حول تنفيذ القرار 598 ، اختلف الوفدان حول تجريف "نهر أروند" أو شط العرب، الخلاف الذي لم يرَ الحل حتى عام 2018 وهو مازال على حاله دون التوصل إلى نتيجة مطلوبة.
وخلال زيارة الدكتور روحاني إلى العراق عام 2018 وبعد مُضيِّ ثلاثين عاماً، تمكنا ولأول مرة من التوصل إلى اتفاق مشترك بخصوص تجريف شط العرب على أساس اتفاقية 1975 وذلك بالتعاون مع وزارة الخارجية وفيلق القدس، والتدخل الشخصي للشهيد سليماني،حيث، وافقت الحكومة العراقية ورئيس الوزراء العراقي السيد عادل عبد المهدي آنذاك، على تجريف هذا النهر بناء على اتفاقية 1975 .
لقد كان ذلك إنجازاً كبيراً، تم تحقيقه بفضل تضافر وزارة الخارجية وفيلق القدس وبمتابعة شخصية من قبل الدكتور روحاني، وإنْ كانت الحكومة العراقية لا تزال تؤخر تنفيذ ذلك الاتفاق لأسباب مختلفة. ولعلي أنا والدكتور روحاني الوحيدان اللذان حضرا الاجتماع منذ أول يوم من الصراع حول تجريف شط العرب عام 1988.
خلال هذه السنوات ظلت بعض وشائج التواصل والعلاقة بين إيران والعراق ثابتة دون تغيير. يمكن الإشارة إلى موضوع الاهتمامات الإقليمية ومخاوف هذا البلد من الوصول إلى المياه الحرة كأبرز مصاديق ذلك الاهتمام. لم يتمكن صدام من تحقيق هذا المطلب عبر استخدام آلية الحرب مع إيران والكويت. ولا تزال هذه المخاوف الجيوسياسية قائمة فيما يتعلق بالعراق.
ومن ناحية أخرى، فإنه لا يمكن التغافل عن توجه العراق ما بعد صدام نحو الدول العربية، حتى أن الميول الصدامية نحو مصر والأردن والتعاون والتضامن معهما مازالت موجودة.
كانت وجهةُ نظر المسؤولين العراقيين في التعاون مع إيران، وحتى في قضية مد خط سكك الحديد من البصرة إلى الشلامجة وتجريف النهر، مبنيةً على تحفظات ومخاوف ومعوقات، وذلك على الرغم من المصالح المشتركة وإصدار البيان السياسي المشترك من قبل أعلى المستويات. وحتى لو عزم القادة على التعاون والاتفاق في جسد البيروقراطية العراقية، فإن الاستعداد للتعاون هو العنصر المفقود، فلا تزال فكرة المصالحة أو حتى الصراع الاستراتيجي مع إيران قائمة بين الخبراء والنخب العراقية، وهو السبب وراء عرقلة العديد من المقترحات المفيدة لكلا البلدين، التي لم تنفذ إلى الآن أو تتقدم ببطء.
يرى خبراء عراقيون أن مشروع خط سكك الحديد من البصرة إلى الشلامجة يعد مشروعاً منافساً للمشروع الكبير والطويل الأمد الذي يربط الفاو بأوروبا عبر تركيا.
وعلى الرغم من الاتفاقات المتكررة فإنَّ السياسيين يعيقون تنفيذها بمختلف الطرق والأدوات.
ويمكن لهذه السكة الحديدية القصيرة أن تصل إلى البصرة في فترة زمنية قصيرة جداً، في حين يستغرق تنفيذ مشروع الفاو بضعَ سنواتٍ في أقل تقدير. النقطة المثيرة للاهتمام هي أن العراق اشترط على الحكومة الإيرانية ال 13 بشكل واضح ومدون، تخصيص هذه السكة لنقل الركاب فحسب، دون استخدامها لنقل البضائع حتى لا تشكل منافسة مع خط سكك الحديد من الفاو إلى أوروبا.
لقد استفاد العراق أكثر من غيره من العقوبات المفروضة على إيران، وربما في الأسواق الدولية استحوذ على حصة أكبر من السوق الإيرانية مقارنة بالدول الأخرى.
وبطبيعة الحال، فإن هذا لا يدل على العداء، ولكنه ليس علامةً على الصداقة الوثيقة مع الدولة التي كانت إلى جانب العراق في حربه على داعش. نحن نقوم بتصدير الغاز والكهرباء إلى العراق في وقت نحتاج إليهما، ونواجه الكثير من المتاعب للحصول على أموالنا الخاصة، وعليه فلا يمكن وصف تعامل العراق بالتعامل الودّي.
أحسن الظن هو أن للعراق سلوكاً تجارياً مبنياً على أساس الربح والخسارة.
حتى أنه لم يظهر حسن الجوار بل ويقوم بتنفيذ العقوبات المفروضة على إيران خطوة بخطوة. ولكن عندما تنقطع إمدادات الغاز والكهرباء عن العراق لبضعة أيام، فإن وسائل الإعلام في كلا البلدين تثير هذا الموضوع على الفور وبحدية تامة، وبسبب المكانة التي نوليها للشعب العراقي، فإننا نضطر إلى إعادة الوضع إلى طبيعته على الفور.
ومن المثير للاهتمام أن العراق، يتعرض مثلنا للعقوبات الشديدة التي فرضتها الأمم المتحدة منذ عدة سنوات ولذلك فهو يدرك تماماً نتائج تلك العقوبات، لكنه يقوم بتنفيذ جميع العقوبات بحق إيران. بالمقارنة مع الدعم الذي تلقته إيران من الحكومات الشيعية أمام العقوبات الأمريكية فقد وقفت إيران أكثر من ذلك بكثير إلى جانب نظام صدام في الالتفاف على العقوبات القانونية التي فرضتها عليه الأمم المتحدة بهدف تخفيف معاناة الشعب العراقي.
وفي السنوات الماضية، تمكن العراقيون من الاستفادة من معظم خدمات الجمهورية الإسلامية الإيرانية وإمكانياتها دون دفع الثمن المطلوب، وبينما كان للخدمات الفنية والهندسية الإيرانية تأثيرٌ كبيرٌ على إعادة إعمار العراق، إلا أن مصدِّري هذه الخدمات لم يحصلوا إلّا على جزء قليل من حقهم مقابل ما أسدوه من خدمات،
ولم تجعل بغداد وإقليم كردستان دفع الفواتير الإيرانية في صدر اهتماماتها. معظم هذه الصعوبات ترجع إلى حقيقة أنه ليس لدينا مصالح مشتركة في العراق، والعراقيون ينظرون إلى إيران من زاوية مصالحهم الخاصة.
لقد أدت بعض الآراء ووجهات النظر الإيرانية مثل، أننا لو لم نقاتل داعش في العراق، لكان علينا الآن أن نقاتلهم في إيران، إلى أن يرى العراقيون أنفسَهم أصحاب الفضل على الإيرانيين وبذلك يكون الشعب الإيراني مديناً لهم.
وتدعي مجموعة أخرى في العراق أنها تسهم في تحمل تكاليف الحرب على داعش لكي تكون إيران آمنة وهادئة.
وهذا هو السبب الذي جعلنا لا نستطيع المساومة مع العراقيين في مجالات غير ميدانية بحيث تكون جديرة وحافظة لكرامتنا.
بطبيعة الحال، لا يوجد حدث في السياسة الخارجية أحادي الجانب.
إن نظرتنا بخصوص الإرهاب في العراق والحضور الأمريكي فيه تقوم على مصالحنا الخاصة، وهذا ما يدركه العراقيون أيضاً على الرغم من تأثير النزعة القومية العربية والمعادية لإيران فيما بين النخب العراقية التي مارست دوراً كبيراً في تعزيز هذه التصورات والأفكار.
في بعض المجالات مثل قضية الترانزيت، يعدُّ العراق نفسه منافساً لإيران. إن ربط الخليج بالبحر الأبيض المتوسط عبر إيران إلى البصرة أو سوريا أو تركيا هو في مصلحة كلا البلدين. لكن العراقيين يعتقدون أنهم إذا ربطوا الفاو بالبحر الأبيض المتوسط عبر تركيا،فسيكون ذلك أكثر فائدة لهم.
من وجهة نظرنا، يتمتع العراق بمكانة الدولة المكملة،ولكن يبدو أنه من وجهة نظرهم أن إيران هي فقط في موقع المنافسة، ولهذا السبب يرفضون تنفيذ مشروع خط سكك الحديد من البصرة إلى الشلامجة، وفي الوقت نفسه يتابعون مشروع خط الفاو- تركيا بكل جدية.
هذا على الرغم من أن جميع الحكومات العراقية التي تسلمت السلطة في مرحلة ما بعد صدام تنظر بإيجابية تجاه الجمهورية الإسلامية.
بغض النظر عن تصريحات الدول، إلا أنه لم يحدث أي تغيير في طريقة تعاملالجهاز البيروقراطي العراقي. يَعتبر كثيرٌ من العراقيين إيران خطأً مسؤولة عن عدم كفاءة الحكومات العراقية والناشطين الداخليين، فإنهم إذا رأوا خللاً في سلوك الحشد الشعبي أو قصوراً وتقصيراً في حكومة السيد المالكي أو عادل عبد المهدي أو حيدر العبادي، يوجهون أصابع الاتهام فوراً إلى إيران.
يبدو أنه قد ترسّخت في أذهانهم فكرة أن إيران تقوم بتصفية حساباتها مع السعودية والولايات المتحدة الأمريكية في ملعب العراق.
أعتقد أنه كان من الممكن أن تصبح لإيران شعبية أكثر في العراق بسبب الخدمات والتضحيات التي قدمها أشخاص عظماء مثل الشهيد سليماني، إن العثرات التي ارتكبناها في العراق إلى جانب العوامل الخارجية فيه، أدت إلى نسيان مساعداتنا وإنجازاتنا وأن ينسب كل عائق أو فشل إلينا ظلماً وجهلاً.
ترتبط العديد من الدول بعلاقات أمنية إلا أن واجهة التعاون بينها تبنى على أساس التعاون السياسي أو الاقتصادي، إن واجهة تعاوننا مع العراق مبنيةٌ على التعاون العسكري، وهذا المنهج لا يترك في ذهن الشعب انطباعاً إيجابياً.
هناك نقطة أخرى في العلاقات الثنائية بين إيران والعراق وهي المستوى الكبير للصادرات الإيرانية إلى العراق. لكن الحقيقة هي أن هذا المستوى الكبير كان في معظمه بسبب تصدير السلع المدعومة الفائضة في إيران. بمعنى آخر، فإننا كنا نصدِّر في العديد من المجالات الدعمَ الحكومي الإيراني للبضائع إلى العراق. وقد تم تصدير البضائع المنتجة بمواد أولية مدعومة حكومياً إلى العراق. لذلك، كان الشراء من الأسواق الحدودية مربحاً جداً للعراقيين.
على سبيل المثال، يمكن أن تدخل البطاطس إلى العراق من باكستان، وليس من إيران لأنه لم يكن مدعوماً من قبل الحكومة.
النقطة الأخرى هي أن دول المنطقة لا تحبذ التهدئة الفعالة بين إيران والغرب.لأنهم يعرفون دور إيران وثقلها ومكانتها. وهم يعلمون جيداً أنه إذا أصبحت علاقاتنا مع الغرب طبيعية، فإن جاذبيتهم سوف تقل كثيراً. لقد شهدنا المفاوضات الخاصة والعامة للقادة العرب في الدول الغربية.
ولا يوجد دليل على أن قادة العراق قاموا بدعمنا في الحوار مع الغرب.
بطبيعة الحال، فإن التعاون الاقتصادي الطويل الأمد والمربح مع العراق أمر ممكن وضروري. إن تحقيق هذا الهدف يتطلب نهجاً مختلفاً،عندما نربط مصالحنا في العراق بالمصالح الأمنية علينا أن ندفع ثمن تلك المصالح الأمنية، حتى وإن كان العراق يحتاج إلينا من الناحية الأمنية. لكننا نحن الذين نصر على مساعدتهم، لذلك وبكل دهشة يتوقعون منا دفع الثمن.
وعليه فلا ينبغي لنا أن نتوقع كسب السوق العراقية في مقابل مساعدتنا وتضحياتنا الأمنية.
إن السبب الذي يجعل تركيا قادرة على استثمار أكبر منا في العراق هو أنها تستخدم عامل الأمن لتحقيق مكاسبها الاقتصادية.
وبالإضافة إلى الوشائج الدينية المشتركة، فإن العراق لديه اشتراكات تاريخية وعرقية وقبلية مع إيران والعالم العربي، فإذا كان العراق إلى جانب إيران فلا شك في أن ذلك يسهم في توسعة نفوذ قدرة إيران واختراقها في العالم العربي، إذ يتحول العراق إلى جسر يربط بين إيران والعالم العربي.
ولا ننسى أن العراق بلد أساسي ومحوري في العالم العربي وهذا أمر يمكن تحقيقه عندما تبنى العلاقات مع العراق على أساس الحقائق وليس الرغبات.
إن مد العلاقات الجيدة مع المملكة العربية السعودية هو أيضاً أمر أساسي للغاية. ولكن لا يمكننا أن نتمنى أن تصبح إيران والسعودية جناحين للعالم الإسلامي، هذا حلم لن يتحقق أبداً. لن نصبح حلفاء استراتيجيين لبعضنا البعض بل سنبقى في إطار اتفاقيات معهم. يمكننا أن نسعى إلى جعل تلك الاتفاقيات اتفاقياتٍ بناءة. لن يكون العراق وسوريا حليفتين لنا ضد العالم العربي، لكن يمكن أن يكونا جسراً لعلاقات أفضل بيننا والعالم العربي.
هذا التوجه لا يعارض القيم المثالية؛ بل إنه يدعو إلى التركيز على متابعة الأهداف في إطار الحقائق الأرضية. أي أنه إذا قامت سورية في الجامعة العربية بشيء يعارض مصالحنا،فلا يجب أن نشعر بخيبة الأمل والغضب. فقد رأينا أنه على الرغم من وقوفنا إلى جانب سوريا ومنعنا إسقاط النظام السوري، إلا أنهم ما زالوا يقفون إلى جانب الآخرين في البيان العربي الختامي للجامعة بشأن مزاعم الإمارات الكاذبة بشأن الجزر الثلاث ولا تقف مع حقوق إيران. والعراق على نفس المنوال.
يجب أن نعلم أن إيران في المنظور الاستراتيجي العراقي، ليست إلا منافسة له، وأن المجتمع العراقي يرفض أن تتحول إيران القوة المهيمنة في بلده.
ومن الجدير إضافة بعض العبارات المختصرة حول التعويضات عن الحرب العراقية الإيرانية.في الفقرة الأخيرة من تقريره بتنفيذ الفقرة السادسة من القرار 598 بشأن المسؤولية عن الحرب على إيران ، بعد أن اعترف الأمين العام للأمم المتحدة بأن العراق مسؤول عن بدء الحرب 4؛ إلا أنه أوصى بعدم متابعة هذا الأمر .
بصفتي مسؤولاً كنت حاضراً في جميع المحادثات الثلاثية بين إيران والعراق والأمين العام للأمم المتحدة وأفتخر بأني لعبت دوراً محورياً في تنفيذ الفقرة السادسة، فإنني أؤكد أن مطالبة تعويضات الحرب لن تكون لها عواقب قانونية، وأن استمرار هذه القضية سيؤثر أيضاً لصالح العلاقات بين إيران والعراق.
لقد ورد في الفقرة السابعة من القرار 598 أن تكلفة إعادة إعمار البلدين يجب أن تمول من خلال المساعدات الدولية، ومن أجل أن يسجل في تاريخ إيران والمنطقة شددنا على تنفيذ الفقرة السادسة من قبل الأمين العام للأمم المتحدة والعراق وحصلنا على هذا الحق المسلم، فهو حق الشعب الإيراني وأداء لحق المسؤولية.
وما كان بالإمكان الوفاء لدماء الشهداء إلا التنفيذ الكامل لاتفاقية 1975 وهو لصالح إيران والعراق معاً، ويجب ألا نسمح للعراقيل التي يضعها البيروقراطيون العراقيون في منع تنفيذ اتفاقية تجريف شط العرب.
وبالتالي يجب على العراقيين أن يرضخوا أمام حقيقة هذا الألم التاريخي وأن ينفذوا هذا القرار الأممي لمنع حدوث حرب أخرى.
هناك احتمال لعودة التوتر بين البلدين، ما لم يحصل اتفاق بين إيران والعراق بشأن تجريف الشط، على الرغم من أن هناك أملاً في أن تتعاون إيران والعراق ،كونهما الدولتين الإسلاميتين الشيعيتين في العالم ، وأن تصبحا مثالاً جديراً للتعاون والتعاطف فيما بين الأمم.
ثنائية الوجود والنفوذ، لقد أثير من ذي قبل تساؤل بين النخب الإيرانية وهو أنه لماذا - على الرغم من نفقات إيران الباهظة التي أنفقتها في العراق وسوريا وفلسطين-تستفيد دول أخرى مثل تركيا من الفرص الاقتصادية والسياسية في هذه البلدان أكثر من إيران؟
بعد فوز السيد أردوغان في انتخابات تركيا عام 2023 ، احتفل الفلسطينيون في المسجد الأقصى، وذلك على الرغم من أن تركيا تربطها علاقات دبلوماسية مع إسرائيل،وتصل العلاقات الثنائية في المجالات السياسية بين تركيا وإسرائيل إلى أعلى مستوى.
حتى أن اسم أردوغان أطلق على عدد كبير من الأطفال الفلسطينيين حديثي الولادة.
إن القوة الأساسية لدولة مثل إيران خارج حدودها هي النفوذ الدلالي والتحفيزي وليس الوجود العسكري. ولا ننسى أنه بسبب هذه القوة الدلالية والتحفيزية، في السنوات الأولى بعد الثورة الإسلامية، أطلق كثير من الناس في الزوايا الجنوبية الأربع للعالم اسم روح الله أوحتى الخميني على أطفالهم. إن هذه القوة الدلالية تتعزز أحياناً بتعاون عسكري من خلال تقديم بعض الإمكانيات، لكن يجب أن نأخذ في الاعتبار أن ما يحولها إلى قوة وطنية هو النفوذ الدلالي.
*الترجمة والتحرير:مركز البيدر للدراسات