×

  مام جلال ... حقائق و مواقف

  شخصية مام جلال أثناء دراسته في كلية الحقوق في بغداد وعلاقته بأصدقائه



*القاضي مدحت المحمود

*نص ورقته البحثية في الملتقى الوطني الأول لرحيل الرئيس جلال الطالباني في النجف الاشرف

تشرين الأول 2023/ جلسة :"الرئيس جلال طالباني بعيون اصدقائه ورفاق دربه "

    

 

بسم الله الرحمن الرحيم

فخامة الدكتور عبد اللطيف جمال رشيد المحترم

رئيس جمهورية العراق

أصحاب السيادة والمعالي المحترمون

السلام عليكم

تحية إكبار إلى مؤسسة بحر العلوم الخيرية ومؤسسة الرئيس جلال طالباني، لقيامهما (وفاء) بتنظيم هذا الملتقى الوطني وذلك بمناسبة الذكرى السادسة لرحيل الرئيس الخالد جلال طالباني.

فالشكر والتقدير للقائمين على هذا الملتقى ولجهودهم على تنظيمه ومن الله التوفيق.

 أبدأ كلمتي بتحية إكبار وإجلال لروح الرئيس الخالد جلال طالباني لرفعة مكانته في ضمير العراقيين ولما كان يتمتع به من إنسانية فريدة جعله عنواناً لبلده ومجداً لمواطنيه.

 

السيدات والسادة الحضور الكرام

عرفت (مام جلال) الأسم المحبب لديه ولزملائه لما يحمله هذا الأسم من معان سامية، وذلك على مقاعد الدراسة في كلية الحقوق قبل أكثر من ستين سنة خلت وبالذات خلال الدورة التي تخرجت في العام الدراسي 1958-1959 ، لذا يكون الكلام عن هذه الفترة الزمنية وعن مام جلال وفيه بالكامل ضرب من المحال، فالذكريات والمواقف والأحداث التي مرت خلالها تشكل كماً هائلاً وهي تتزاحم وتتسابق بالظهور على شريط الذاكرة عند الكتابة عنها.

والوقت مهما اتسع لهذه الكلمة لا يسعها قطعاً ففيها الحدث الحلو، وفيها الحدث المر، وفيها من الشدائد الكثير، ولكني وجدت كما وجد زملائنا في هذه الدورة من جانب مام جلال، أنه قد تعايش مع طلابها وأساتذتها وكادرها الإداري بحكمة وشجاعة وود ووفاء.

والدورة التي كان مام جلال أحد طلابها وأقولها بتواضع - كانت من الدورات المميزة في تاريخ كلية الحقوق نظراً لمستوى القبول فيها وكان عدد المقبولين لم يتجاوز (90) طالباً وطالبة، وقد تولى التدريس فيها نخبة من الأساتذة العراقيين والعرب وكانوا على مستوى عال من العلمية والشعور بالمسؤولية ومن باب الوفاء أذكر أسماء بعض منهم( د. مصطفى كامل ياسين الشيخ د. محمد حسين الذهبي، الأستاذ عبد الرحمن البزاز القاضي شفيق العاني د. حسن الجلبي د. عباس الصراف).

 وقد تبوأ كل منهم بعد أن ابتعدوا لسبب أو لآخر عن التدريس في الكلية، مناصب رفيعة في العراق، أو في بلدانهم، وللأمانة أذكر كان مستوى طلبة هذه الدورة شاهداً للعيان من حيث الدوام والتنافس العلمي، حيث اصبح الكثير منهم بعد التخرج أسماء لامعة، فمنهم الوزير والقاضي والسفير والإداري الكفؤ ورجل الدولة، و من باب الفخر أذكر الخريج جلال حسام الدين طالباني الذي تبوأ رئاسة جمهورية العراق بإجماع سياسي وشعبي فريد، ولدورتين أدى خلالهما الأمانة بكل جدارة واقتدار وحكمة، وكان موضع احترام الجميع رغم الظروف القاسية التي حكمت الوضع السياسي خلال تلك الدورتين، وما تطلبته من جهد وأعداد لبناء عراق المؤسسات التي ارتكز عليها النظام الديمقراطي، الذي اختاره العراقيون بعد التغيير (2003)، ولم يكن ذلك الاقتدار بكثير على الرئيس جلال طالباني، إذ كانت تجاربه وثقافته السياسية وجهاده في سبيل عراق ديمقراطي خير معين لأداء الرسالة.

وكان كما هو معروف منتمياً إلى الحزب الديمقراطي الكوردستاني، وفي مكانة متقدمة فيه، وكان مع هذه الصفة منفتحاً على الكافة بمختلف انتماءاتهم وتوجهاتهم، يتعامل مع الجميع بنظرة عراقية صميميه، واسع الصدر يناقش ويحاور بعمق وبفكر جوال في مختلف المواضيع السياسية والاجتماعية لذا حاز احترام الكافة.

وأذكر في هذا المجال أحد المواقف النقاشية مع عدد من أعضاء مجلس النواب العراقي في حينه - حيث كان هناك نظام أو تقليد يقبل بموجبه عشرة من أعضاء مجلس النواب طلاباً في كلية الحقوق يداومون بشكل أو بأخر في الكلية إلى جانب أداء مهامهم النيابية، ليتخرجوا بعد انتهاء سنوات الدراسة بشهادة تخولهم الحقوق التي يتمتع بها زملائهم من الخريجين.

 

مام جلال بحكمته البالغة

 وقد استمر هذا الحال حتى تولى أستاذ عبد الرحمن البزاز عمادة الكلية فخير النواب الراغبين في الدراسة بين الدوام في الكلية دواماً كاملاً وبخلاف ذلك لا يحصلون على شهادة تخرج وإنما يحصلون على الثقافة القانونية.

أعود إلى الحلقة النقاشية مع النواب الطلبة وكانت تدور حول الوضع السياسي بعد 14 تموز 1958 وما هو مستقبل العراق المنظور والبعيد، وبعد الانتهاء من ذلك النقاش كان الغالب فيه مام جلال بحكمته البالغة.

ضبط النفس والتصرف بحكمة

وموقف آخر على مرونة مام جلال وقدراته على ضبط النفس والتصرف بحكمة فقد كنا في فرصة تناول الفطور، ويومها كان هناك خلاف سياسي شديد بين الحزب الديمقراطي الكوردستاني والحزب الشيوعي العراقي، فقد جاءت إحدى الطالبات من جانب الشيوعين وهي في حالة انفعال شديد وانهالت بكلمات حادة موجهة إلى مام جلال، أما مام جلال فقد انتظرها حتى تكمل الكيل، وبكلمات حميمية طلب منها المشاركة في الفطور وبهذه الأريحية تبدل الموقف بالكامل.

وموقف ثالث، ففي شتاء 1958 كنا طلبة كلية الحقوق في سفرة الى منطقة السعدية في ديالي وكان الجو السياسي ملبداً بالخلافات حول الوحدة أو الاتحاد مع مصر أو البقاء خارج هذين النظامين، وكان في منهاج السفرة فعاليات أدبية واجتماعية، ومنها قصيدة وكلمة لمام جلال الذي أشرف على تنظيم تلك السفرة، وبعد ما ألقيت القصيدة من أحد الطلبة وكانت للجواهري الكبير، وعلى ما أتذكر كانت قصيدة يا دجلة الخير، وجاء دور مام جلال لإلقاء الكلمة، وبانفعال شديد اعترض أحد الطلبة مخاطباً مام جلال ... (القصيدة انته اختاريتها والكلمة انته تلقيها ماذا أبقيت للمشاركين)، فأدرك مام جلال الموقف، وكان بدوافع سياسية مغايرة الموقف مام جلال من الأحداث، فرد عليه مام جلال وبأريحية فريدة (رحم الله والديك سويت فضل علي حنجرتي تعبانة قم انت القي الكلمة عني)، وبذا حسم مام جلال الموقف بحكمته وكياسته.

 

مواقف صلبة وراسخة

والى جانب هذه المواقف التي اتسمت بالمرونة وسعة الصدر والحكمة، كانت لمام جلال مواقف صلبة وراسخة، أذكر مفردة منها ... موقفه من العدوان الثلاثي على مصر عام 1965، وكان الموقف هو التنديد بالعدوان والانتصار لمصر.

 وانطلاقاً من هذا الموقف فقد حشد المظاهرة تخرج من كلية الحقوق وتتجه إلى باب المعظم، لتتجمع مع مظاهرات طلبة بقية الكليات، حيث كان يشاع إن رئيس الوزراء نوري السعيد ووزير المعارف خليل كنه سيكونان على شرفة مجلس الخدمة في باب المعظم في حينه، لشرح موقف الحكومة العراقية من العدوان الثلاثي، وكانت مظاهرة طلاب كلية الحقوق مدوية في هتافاتها ورافعة شعارات حساسة ضد الحكومة.

 وخلال مسيرتها تصدت لها الشرطة لتفريقها بالقوة، وحصل إطلاق نار كثيف، ولولا تعاطف الجنود في سرية الخيالة مع الطلبة، وفتحهم باب السرية لإدخالهم داخلها لكان مصير مام جلال وزملائه وزميلاته من المتظاهرين بين شهيد وجريح. وهكذا لطف الله لإبقاء مام جلال حياً لأداء دوره الوطني والإنساني.

 

أيها الحضور الكريم:

انتهى العام الدراسي (1958-1959) وتخرجت الدورة، وهي الدورة الأولى التي تخرجت عبر جامعة بغداد بعد تأسيسها برئاسة العالم العراقي عبد الجبار عبد الله، وكان عدد الخريجين 87 خريجاً وكان مام جلال والمتكلم قد خططنا للانتماء الى نقابة المحامين، وممارسة المحاماة، قبل التحاقنا بدورة الضباط الاحتياط الوجبة الأولى من الدورة (14). وفعلاً تسلمنا هوية المحامين في 11/7/1959  .

وبعد انتهاء دورة الضباط الاحتياط لم تنقطع صلتي بأخي وزميلي مام جلال، كلما وجدت لذلك سبيلاً حتى جاء التغيير المفصلي في العراق بتاريخ 09-04-2003 وما رافقه من أحداث جسام، ثم تشكل مجلس الحكم وكان مام جلال من أحد رؤسائه، بعدها بدأت مرحلة جديدة في تاريخ العراق السياسي بعد صدور دستور عام 2005 وتحمل مام جلال مسؤولية رئاسة الجمهورية بناء على إجماع نادر نظراً لتاريخه وقدراته ونضاله داخل وخارج العراق.

وبقدر علاقة الرئيس جلال طالباني بالقضاء، فقد كان تعامله برهاناً على الوفاء لمبادئه باستقلال القضاء الذي يعده ركيزة متينة للنظام الديمقراطي، وكذلك إيمانه المطلق بمبدأ الفصل بين السلطات لتحديد المسؤوليات وترسيخ الاختصاصات.

وللتاريخ والحقيقة، أذكر إن الرئيس جلال طالباني لم يطلب تلميحاً أو تصريحاً بصدور حكم معين في قضية جزائية أو مدنية أو بتغيير حكم من الأحكام.

وأذكر على سبيل الأمانة العلمية، إنه قد اتصل بي هاتفياً وكنت يومها رئيساً لمجلس القضاء الأعلى مستفسراً عن دعوة جزائية، وبادرني بادى ذي بدء تلفونيا هذا ليس بصفة رئيس جمهورية ولكن بصفة مام جلال يسأل أخ له)، وكانت الدعوى موضوع السؤال تخص أحد وزراء الكهرباء السابقين، و هل يمكن غلقها إذا سدد ذلك الوزير مبلغ الضرر الذي أصاب الوزارة جراء تصرفه المخالف للقانون، وكان ردي بعد الرجوع إلى الدعوى ... إذا سدد الوزير مبلغ الضرر يبقى موضوع الحق العام عن خرق أحكام القانون، وذلك متروك للمحكمة الجزائية، و بعد هذا الإيضاح لم اسمع من الرئيس الراحل سوى كلمة واحدة (شكراً أخي).

 

ترسيخ حكم الدستور والقانون

واستمرت العلاقة و التعاون بيننا بالعمل على ترسيخ حكم الدستور والقانون طيلة الدورتين التي شغلها الرئيس جلال طالباني وكنت أجد فيه الأمين على سيادة ووحدة العراق والالتزام بأحكام الدستور نصاً وروحاً في جميع المواقف التي مر العراق بها في تلك الفترة، وهي مواقف يجار التاريخ عند الكتابة عنها، لتشابكها وتعقيداتها وخطورتها، ولكن قدرات الرئيس الراحل كانت كفيلة بمعالجتها وعبور مخاطرها، وطاولة المداولات في قصر السلام شاهدة على الليالي التي قضاها مام جلال بكل تاريخه وحكمته وصبره وسعة صدره مع المعنيين، للخروج بحلول أمينة لحل المشاكل والعقبات التي تحول دون انتقال العراق من الحكم الشمولي إلى رحال الديمقراطية وتحرير المجتمع العراقي من القيود التي خلفها النظام السابق ... أيام وليالي لا تنسى.

وجاء القدر المر يوم وقع الرئيس الخالد صريع مرض قاس ونقل من مقر عمله إلى المستشفى الجمهوري ثم إلى خارج العراق للعلاج، وكنت أتتبع أخباره، ثم قصدته في مشفاه في ألمانيا للاطمئنان على صحته، ولأتمتع بلقياه وبحديثه.

وكان الحديث بيننا طويل وصميمي وفيه استعرضنا التاريخ حاضره وماضيه وأوضاع العراق وشخوصه الذين كانوا في الميدان السياسي وتقييمه الدقيق لكل منهم، وقد أثبتت الأيام صدق ذلك التقييم والتحليل، وكانت النكتة والضحكة البريئة تتخلل ذلك الحديث الذي يعيش معي الى الأبد، وكان ذلك اللقاء الحي للأسف هو اللقاء الأخير المباشر معه ... مع الطيبة والوفاء مع الإنسان الذي لا يتكرر، ولا يجود الزمان بمثله.

والجميع يشهد إن مام جلال كان إنساناً بكل ما تحمل هذه الكلمة من معان سامية فقد كان سياسياً لامعاً ورجل دولة قدير بكل المقاييس متوازناً في كرديته وعراقيته مؤمناً إن تلازمهما لازم لا خلل فيه، وكان أديباً ضليعاً بفروع الأدب قديمه وحديثه، ذو فكر جوال لا يعرف الحدود.

رحمك الله يا صديق العمر، ويا زميل الدراسة، وشريك المسؤولية، وأسكنك الله في عليين مع الشهداء والصديقين.

وحق لك علي وانا اختتم كلمتي أن أتلو الآية الكريمة...

بسم الله الرحمن الرحيم

من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا

(صدق الله العظيم)

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

 

*رئيس مجلس القضاء الأعلى السابق


06/10/2024