*هشام ملحم
*معهد دول الخليج العربية في واشنطن
ليس من المستغرب أن يصف العديد من المحللين السياسيين والمؤرخين كل انتخابات رئاسية امريكية “بالمفصلية” أو “التاريخية” أو “الانتقالية”. كانت جميع الدورات الانتخابية الامريكية منذ أكثر من قرن هامة ومحورية، لأنها كانت تساهم مثلاً في إعادة صياغة العقد الاجتماعي أو السياسي في الداخل أو إعادة هيكلة العلاقات الاقتصادية بين مختلف فئات وطبقات المجتمع الامريكي، أو تعديل الدور الامريكي في العالم ليعكس المتغيرات الاقتصادية أو الاستراتيجية التي طرأت على الولايات المتحدة، وحولتها من دولة متوسطة النفوذ الاقتصادي والقوة العسكرية قبل الحرب العالمية الثانية، إلى القوة العظمى في العالم سياسياً واقتصادياً واستراتيجياً بعد 1945، وبعد الحرب الباردة وغيرها من الحروب الساخنة التي خاضتها الولايات المتحدة منذ منتصف القرن العشرين.
الانتخابات الرئاسية هذا العام مفصلية أكثر من جميع الانتخابات التي شهدتها الولايات المتحدة منذ انتصارها في الحرب الباردة. هذه الانتخابات تجري على خلفية وجود انقسامات وتحولات اجتماعية وسياسية وأيديولوجية وديموغرافية لم تعهدها البلاد منذ عقد الستينات من القرن الماضي، والذي شهد اضطرابات داخلية دموية جلبتها حركة الحقوق المدنية وردود الفعل عليها، وكذلك المعارضة الشعبية العريضة لحرب فيتنام والاغتيالات السياسية التي هزت البلاد، وتركتها تترنح لسنوات طويلة.
ومع دخول السباق الرئاسي شوطه الأخير، لا يزال المشهد الانتخابي قبل أقل من أسبوعين عن موعد الاقتراع متقارباً ومتعادلاً بشكل مذهل وغير معهود، لدرجة أنه لم يعد مجدياً أن يمارس المحلل أو المراقب أي تكهنات أو توقعات او تنبؤات بأي درجة من الثقة حول النتائج على الرغم من طفرة استطلاعات الرأي، والسبل الخلاقة في استخدام “الذكاء الاصطناعي” وغيره من التقنيات الإلكترونية الجديدة.
كل ما نعرفه بيقين هو بعض البديهيات: هناك انتخابات بين مرشحين، الديموقراطية كامالا هاريس والجمهوري دونالد ترامب، وأن أحدهما سوف يفوز، ولكن ليس بالضرورة في الساعات الأخيرة ليلة الانتخابات أو حتى في اليوم التالي أو الأيام التالية لعملية التصويت. المسؤولون في كل حملة يحذرون من احتمال حدوث أعمال عنف قبل وخلال وبعد الانتخابات، وإن كان من المستحيل الحديث بأي ثقة عن حجم مثل هذه الأحداث إذا وقعت بالفعل. وفي الأيام الماضية حذر مسؤولون في أجهزة الاستخبارات الامريكية من احتمال تدخل دول مناوئة للولايات المتحدة، وفي طليعتها روسيا الاتحادية وإيران، في العملية الانتخابية لعرقلتها، أو للإيحاء بأن الانتخابات ليست نزيهة او ديموقراطية.
ما نعرفه ببعض اليقين أيضاً أنه بغض النظر عن الفائز في الانتخابات، فإن الرئيس الجديد لن يستطيع حل أو معالجة الانقسامات العميقة في المجتمع الامريكي أو حالة الانقسام إلى طرفين (سياسياً واجتماعياً) متنازعين، وحالة استقطاب يائسة دون حل في الأفق القريب. هذا لن يمنع المرشح أو الحزب الفائز من الادعاء بأنه حصل على “انتداب” شعبي ليضع البلاد على مسار جديد، أو أن نتائج الانتخابات تشكل بداية لحقبة مشرقة سوف تعيد بناء الوحدة الوطنية في الداخل، ومكانة الولايات المتحدة كدولة رائدة في الخارج، حتى ولو كانت نتائج الانتخابات متقاربة كما هو متوقع.
ليس مجدياً الحديث عن استطلاعات الرأي في الولايات المحورية السبعة (بنسلفانيا وميتشغان وويسكونسن وجورجيا ونيفادا ونورث كارولينا وأريزونا) عندما يكون الفارق نقطة واحدة في 6 ولايات وبفارق نقطتين فقط في أريزونا، وفقا لدراسة لصحيفة نيويورك تايمز حول معدل استطلاعات الرأي. وكشف نموذج توقعات الباحث نايت سيلفر (Nate Silver) أن حالة التعادل بين المرشحين هي بنسبة 50-50.
في الأيام القليلة التي تفصلنا عن الخامس من نوفمبر/تشرين الثاني، سوف يكثف كلا المرشحين من نشاطاتهما لتعبئة وتشجيع القواعد الانتخابية لضمان نسبة عالية من الإقبال.
وفي الوقت ذاته، محاولة اقناع تلك الشريحة، المنحسرة باستمرار، من الناخبين المستقلين أو الجمهوريين المعتدلين، الذين يمكن أن يميلوا لكامالا هاريس، أو الديموقراطيين المترددين في التصويت لهاريس، ويمكن أن ينتقلوا إلى صف ترامب ليحسموا أمرهم.
حتى الآن، صوّت أكثر من 20 مليون ناخب في الانتخابات المبكرة، وكان هناك إقبال كبير في ولايات مثل جورجيا وميتشغان، ولكن الأرقام الأولية تسمح بتقويمات متضاربة. والمشهد الانتخابي الراهن يبين أن لكل من ترامب وهاريس طريق للحصول على 270 صوتاً في المجمع الانتخابي، وهو الرقم المطلوب للفوز بالانتخابات. ولكن إذا كانت النتائج متقاربة جداً، أو إذا تأخر فرز أصوات الامريكيين في الخارج، وبقيت النتائج النهائية غير معلنة، فإن الأجواء الانتخابية المشحونة – والادعاءات من جانب المرشح ترامب بأن الديموقراطيين يسعون لتزوير نتائج الانتخابات، أو القول أنهم يريدون من المهاجرين غير الموثقين المشاركة في التصويت، وهو ادعاء باطل – مرشحة للتحول إلى عنف يهدف إلى تغيير نتائج الانتخابات عبر استخدام الترهيب والقوة، كما حدث خلال اجتياح أنصار ترامب لمبنى الكابيتول في السادس من يناير/كانون الثاني 2021.
ما تبينه استطلاعات الرأي ببعض الدقة هو أن هناك هوة بين الرجال والنساء في نظرتهم إلى كل من كامالا هاريس ودونالد ترامب. وجاء في استطلاع لصحيفة يو أس توداي وجامعة سافولك أن ترامب يحظى بتأييد 53 بالمئة من الرجال (وخاصة الشباب منهم) مقابل 37 بالمئة لهاريس، بينما تحظى هاريس بتأييد 53 بالمئة من النساء (خاصة الشابات منهن) مقابل 36 بالمئة من النساء لصالح ترامب. ما تبينه الاستطلاعات أيضاً أن ثلثي الناخبين المحتملين بمن فيها 72 بالمئة من أنصار ترامب، و70 بالمئة من أنصار هاريس، يقولون إن الانتخابات الراهنة هي “الأكثر أهمية خلال حياتهم”، ما يعطي حوالي 5 بالمئة من الناخبين المتأرجحين أهمية كبيرة تفوق قيمة عددهم.
في الأيام الماضية انشغلت الأوساط السياسية بالتصريحات التي أدلى بها رئيس موظفي البيت الأبيض خلال ولاية ترامب، الجنرال جون كيلي، والتي تضمنت قوله بأن ترامب يستحق وصفه “بالفاشي”، وبأنه “متسلط” معجب بطغاة العالم، ويتعامل مع السلطة كما يتعامل معها الدكتاتور. وأضاف كيلي أن ترامب كان دائما يشكو من القيود التي فرضها الدستور على سلطاته، وتابع “وأنا أعني بذلك قدرته على أن يفعل أي شيء يريده في أي وقت يريده.” وكشف الجنرال كيلي السبب الذي دفعه لتوجيه هذه التهم للرئيس الذي عمل معه لأكثر من 18 شهراً، مشيراً إلى تهديدات ترامب العلنية الأخيرة ضد من أسماهم “أعداء الداخل” (في إشارة لسياسيين مثل النائبين الديموقراطيين، نانسي بيلوسي وآدم شيف، وغيرهم من معارضيه)، واستعداده لاستخدام القوة ضدهم في حال انتخابه بما في ذلك القوات المسلحة، على الرغم من أن الدستور يمنع استخدام الجيش الامريكي في الداخل إلا في حالة التصدي لعصيان مسلح.
وتبين الدراسات الحقوقية والسياسية أن ترامب قد حاول تقويض الديموقراطية الامريكية أكثر من أي رئيس آخر في العصر الحديث. وهناك سجل طويل من المواقف والإجراءات والتصريحات التي تبين مدى استهتاره ورفضه لأبرز مقومات الديموقراطية الامريكية، مثل حرية التعبير (وهو المعروف بوصفه للصحافة بأنها “عدوة الشعب” وهي العبارة المستعارة من الدكتاتور جوزيف ستالين)، واستقلالية القضاء وسلطة القانون وحق التصويت دون ترهيب، وغيرها من أسس النظام الدستوري الامريكي. وكان ترامب قد قال علناً أنه يريد أن يكون دكتاتوراً “في اليوم الأول” لدخوله إلى البيت الأبيض، وهو الذي يرفض الالتزام مسبقاً بقبول نتائج الانتخابات الرئاسية أو الانتقال السلمي للسلطة، خاصة وأنه حاول عرقلة هذا الانتقال السلمي للسلطة في السادس في يناير/كانون الثاني 2021 حين شجع أنصاره على اجتياح مبنى الكابيتول لعرقلة التصديق الرسمي على انتخاب جوزيف بايدن كرئيس جديد للولايات المتحدة. ويكرر ترامب القول أنه في حال انتخابه مجدداً، فإنه سيلاحق أعدائه في الداخل قانونياً، ولا يخفي رغبته بالانتقام منهم. ووصل استهتار ترامب بالدستور إلى حد التهديد بتعليق العمل به.
وكان ترامب قد تعهد بطرد آلاف المهاجرين غير الموثقين خارج البلاد، بمعدل مليون مهاجر كل سنة. كما تعهد بإقامة معسكرات واسعة لإيواء المهاجرين مستخدماً الميزانية العسكرية لإبقاء المهاجرين قيد الاعتقال إلى حين البت بإجراءات طردهم خارج البلاد. كما من المتوقع أن يجدد ترامب أوامره بحظر دخول رعايا بعض الدول ذات الأكثرية المسلمة، وهي الأوامر التي ألغاها الرئيس بايدن بعد انتخابه. كما سيحاول ترامب منع إعطاء الجنسية الامريكية لأي طفل يولد في الولايات المتحدة لأبوين غير امريكيين كما هو الحال الآن.
في المقابل تبدو طروحات وسياسات وخطط كامالا هاريس الداخلية امتداداً لخطط وطروحات الرئيس بايدن مع تعديلات “تقدمية” واختلافات تتعلق بالأسلوب أكثر من المضمون. هاريس مرشحة تقليدية، ولن يشكل انتخابها نقلة جذرية أو ثورية، باستثناء انتخاب أول امرأة من أصل أفريقي وآسيوي، بعكس إعادة انتخاب ترامب، الذي سيعين هذه المرة مسؤولين موالين له بشكل مطلق، متفادياً تعيين مساعدين (مثل الجنرال جون كيلي) لديهم شخصيات قوية ووفاء للدستور.
على صعيد السياسة الخارجية، لم تطرح المرشحة هاريس أي طروحات تختلف عن طروحات الرئيس بايدن فيما يتعلق بقضايا مثل التجارة الدولية أو العلاقة القوية مع الحلفاء، وخاصة في حلف الناتو، أو دعم أوكرانيا في مقاومتها للاحتلال الروسي. وهي لا تختلف كثيراً عن بايدن في مقاربتها لحرب إسرائيل ضد غزة ولبنان، وإن كانت أبدت حساسية أكثر للخسائر المدنية الفلسطينية، حين انتقدت سياسة الأرض المحروقة التي تعتمدها القوات الإسرائيلية المحتلة ضد المدنيين.
ولكن إعادة انتخاب ترامب سوف تكون مفصلية بالفعل، وحتى ثورية، في مجال السياسة الخارجية، لأنه سيسعى إلى تغيير علاقة الولايات المتحدة بالعالم جذرياً. على الصعيد التجاري، سوف يلجأ ترامب إلى إجراءات جذرية مثل فرض تعريفات شاملة كنوع من الضرائب الجديدة على مختلف البضائع المستوردة، بمعدل 10 بالمئة، وسوف يكثف من القيود التجارية ضد الصين. ويرى العديد من الخبراء الاقتصاديين أن هذه التعريفات العالية سوف تؤدي إلى حرب تجارية دولية ستلحق الضرر بالاقتصاد والمستهلك الامريكيين.
في ولايته الثانية، سوف يسعى ترامب لتحقيق ما لم يستطع تحقيقه في ولايته الأولى، أي فك الارتباط العسكري بالقارة الأوروبية، بما في ذلك تقليص العلاقات جذرياً مع حلف الناتو، أو حتى الانسحاب من الحلف، على الرغم من القيود الجديدة التي فرضها الكونغرس في السنوات الماضية على مثل هذه الخطوة. ولا يزال ترامب يرى في حلف الناتو عبئاً على الموارد الامريكية، وليس مكسباً استراتيجياً ضرورياً لصيانة المكانة العسكرية المتميزة للولايات المتحدة في العالم. تقليص علاقات الولايات المتحدة بحلف الناتو، أو الانسحاب منه، سوف يكون كارثياً على دول تحت الاحتلال الروسي مثل أوكرانيا، أو دول تعيش في ظل روسيا مثل دول بحر البلطيق. ترامب ادعى بأنه في حال انتخابه سينهي الحرب في أوكرانيا “خلال24 ساعة”، وهذا ممكن فقط في حال إرغام اوكرانيا على التخلي عن بعض أراضيها لروسيا.
وصول هاريس كأول امرأة إلى البيت الأبيض سوف يكون تاريخياً بالفعل، ولكنه ليس من المتوقع أن يكون مفصلياً من حيث المضمون. ولكن عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض هذه المرة سوف تكون مفصلية بالفعل، لكل الأسباب المقلقة، وحتى المخيفة، التي تطرقنا لها.
*هشام ملحم هو باحث غير مقيم في معهد دول الخليج العربية في واشنطن، وكاتب عمود ومحلل سياسي.