*علي حسين عبيد
السياسي غير المثقف لا يمكنه أن يكون سياسيا ناجحا، على الرغم من أن الثقافة تختلف عن السياسة، ولكن الثقافة تمنح السياسة دعما معنويا وعلميا وتجريبيا، فيكون السياسي المثقف مجرِّبا مطّلِعا عارفا ببواطن الأمور، مدركا للأعماق وليس الأشكال أو المظاهر وحدها، باختصار السياسي المثقف هو المحنك العارف الحصيف الذي لا يفوته شيء...
بحسب القواميس المتخصصة بتفسير أو تعريف الكلمات، فإن الحنكة تعني قوّة التبصّر لدى الإنسان، فلا يعبر عليه (قرش قلب) كما في التعبير الشعبي، أي لا يمكن خداع هذا النوع من الساسة، ومن غير الممكن تمرير ما هو زائف عليه، وإذا أضفنا الثقافة إلى الحنكة، فهنا تتوفر للسياسي صفة الاكتمال التي تجمع بين التبصّر الشديد والصحيح بالأشياء وبين الثقافة والمعرفة التي تجعل منه ذا شخصية مُبهرة وواثقة.
هل هناك أهمية لجمع السياسي بين الحُنكة والثقافة؟
بالطبع لا يمكن أن تنتفي الأهمية بتعاضد هاتين الصفتين، فإذا تحلّى بهما السياسي، فقد ضمن نسبة النجاح العالية في ميدان عمله.
فالثقافة بمفهومها المباشر هي تحصيل المعرفة النظرية والعملية، والمثقف هو الإنسان الذي يعيش بطريقة تقوم على التوازن بين الحقوق والواجبات، وتقوم على توازن السلوك والفكر، وتعطي انطباعا مباشرا عن شخصية السياسي المثقف، وتؤكّد بأنه ليس إنسانا طارئا على السياسة ولا على الحياة، فالثقافة تمنحه هوية ساطعة تحميه من التوصيفات السلبية التي يطلقها الآخرون على السياسيين في الغالب، لاسيما في العراق.
السياسة تحمي السياسي من الزلل
من هنا فإن الثقافة تحمي السياسي من التقوّلات التي يطلقها هذا وذاك على السياسي لأي سبب كان، والثقافة أيضا تحمي السياسي من الوقوع في الزلل، سواء في علاقاته مع المواطن أو مع الأقران من السياسيين، كما أنه تمنحه فرصة التفوق في اقتناص فرص التصحيح والتعديل وكسب الناس من خلال قدرته على استثمار المواقف، وباعتباره مثقفا عارفا فإنه سيكون الأكثر قدرة على استثمار المتاح له من الموارد والفرص لكي يجعلها تصب في صالح المجتمع.
السياسي غير المثقف لا يمكنه أن يكون سياسيا ناجحا، على الرغم من أن الثقافة تختلف عن السياسة، ولكن الثقافة تمنح السياسة دعما معنويا وعلميا وتجريبيا، فيكون السياسي المثقف مجرِّبا مطّلِعا عارفا ببواطن الأمور، مدركا للأعماق وليس الأشكال أو المظاهر وحدها، باختصار السياسي المثقف هو المحنك العارف الحصيف الذي لا يفوته شيء، وكما يُقال لا تعبر عليه الأشياء بسبب قلة الاطلاع والمعرفة.
الثقافة تمنح السياسي القدرة على الإقناع، وهي من أهم الصفات والسمات التي يجب أن يتصف بها السياسي، إذا لا يمكن للشخصية السياسية أن تكون ناجحة ومؤثرة إذا لم تكن مقنعة للآخرين، ولهذا يُقال إن الساسة المحنكين تجدهم مثقفين وعارفين وفاهمين ولا يعبر عليهم الغش أو الخداع، كما أنهم يتحلّون بشخصيات بارعة.
الثقافة تدعم صفة الشجاعة
ولا يشفع للسياسي شجاعته، أو مواقفه الحازمة إذا لم يكن مثقفا، لماذا لأن الثقافة تعني الاطلاع والفهم والفرز بين الجيد والرديء وبين الصحيح والخطأ، ولهذا فإن جميع الساسة الناجحين عبر التاريخ تجدهم مثقفين من الطراز الأول، ولو أخذنا أمثلة من التاريخ المنظور، غاندي مثلا محرّر الهند العظيم، فقد اطلع في حياته على معظم ثقافات الأمم وتواريخها وتجاربها وفهم الحياة جيدا واستغور أعماق الإنسان ونوازعه النفسية، فقاد هذه الأمة الفقير نحو الغنى المعنوي الكبير.
يمكننا بلا أدنى شك أن نعثر على الشخصيات التي أصبحت علامات فارقة في مسيرة التحرر الإنسانية، ولا فرق هنا بين الشرق أو الغرب، المهم أن يكون بين يدينا تجربة عملاقة لشخصية عابرة للقارات والزمان والمكان، فلو أننا اطلعنا على شخصية نلسن مناديلا جيدا لوجدنا أنه محنّك ومثقف من طراز خاص.
فقد أمضى هذا الشخص المناضل في السجن قرابة الثلاثة عقود من السنوات وكان الكتاب أقرب الأشياء إلى نفسه، فقرأ واطّلع بعمق وثقّف نفسه وأخذ من تجارب التاريخ وسواه دروسا تمكن من خلالها أن يحرّر أمته وأن يخلصها من براثن العبودية والاستعمار والاضطهاد والحرمان، هذا مثالان قريبان عن السياسي المثقف، فهل نحن نمتلك السياسي المثقف القادر على قيادة المجتمع والدولة إلى التفوق والنجاح.
نعم نحن نمتلك كل اللوازم والمؤهلات والظروف والثقافة والتاريخ السياسي والفكري والديني لكي نحصل على ساسة كبار وعظماء، يمكنهم بناء الدولة العراقية والمجتمع العراقي على أفضل وجه، المهم في هذا الجانب أن يكون السياسي محنّكا مثقفا عارفا مطّلعا مهنيا غائرا في تجارب التاريخ والحاضر أيضا، وعندما يتسلح بالثقافة الحقيقية والفكر الخلاق والحنكة في التمييز بين الأمور ودراستها بعمق، سوف يكون رجل دولة على غرار بناة الدول المثقفين الخالدين الذين حفروا أسماءهم وأعمالهم في سجل التاريخ إلى الأبد.