×

  مرصد مكافحة الارهاب

  كيف سيتعامل ترامب مع الوجود العسكري الأمريكي في العراق؟



 

*انترريجيونال للدراسات

منن خاطر: في سبتمبر 2024، وافقت واشنطن على الانسحاب التدريجي للقوات الأمريكية من العراق، تزامناً مع الفترة التي سبقت الانتخابات الرئاسية الأمريكية. جاء القرار في أعقاب مطالبات من الحكومة العراقية التي زعمت أن تهديد داعش قد تضاءل، وأن القوات العراقية باتت قادرة على معالجة التحديات الأمنية بشكل مستقل. ومع ذلك، يواجه الجدول الزمني للانسحاب حالة كبيرة من الضبابية لأسباب مختلفة. أولاً، تهديد داعش في العراق لم ينتهِ بعد، وتواجه البلاد مشهداً سياسياً مضطرباً، فضلاً عن التصعيد الإقليمي على جبهات متعددة تشمل المليشيات العراقية. كما أن عودة ترامب إلى البيت الأبيض سيلعب دوراً في الموقف العسكري الأمريكي، وخاصة في العراق، ليس فقط بسبب الأهمية الجيوستراتيجية للعراق وقربه من إيران، ولكن أيضاً بسبب ما قد تكسبه واشنطن من تأمين مصالحها في هذه المنطقة من العالم.

 

الدوافع الرئيسية

يعتمد الوجود العسكري الأمريكي في العراق على جهود مكافحة الإرهاب والكثير من العوامل الأخرى، منها:

 

1- تصاعد التوترات وسط حرب غزة:

لطالما كانت القوات الأمريكية المتمركزة في العراق هدفاً للوكلاء المدعومين من إيران، لكن التصعيد الأخير في الشرق الأوسط والحرب في غزة أدى إلى زيادة نشاط الوكلاء. المليشيات المدعومة من إيران والتي كانت ذات يوم أداة فعالة في القتال ضد داعش في العراق، تصور نفسها الآن كمدافعة عن فلسطين وتروج لخطاب معادٍ لأمريكا ومعادٍ للغرب. قد تجد القوات الأمريكية نفسها في موقف محفوف بالمخاطر أكثر فأكثر إذا قرر ترامب الاحتفاظ بالقواعد واستخدامها كنقطة انطلاق لاستهداف كبار القادة داخل تلك المليشيات، ليس على عكس ما حدث مع مقتل قاسم سليماني في مطار بغداد. خلال فترة ولايته الأولى، أوضح ترامب أنه كان يستخدم القواعد لمراقبة إيران. عندما تعرضت السفارة الأمريكية في العراق للهجوم، نقل المزيد من القوات من الكويت إلى العراق لحماية المواطنين الأمريكيين هناك. إذا استمر الصراع في غزة دون مشاركة دبلوماسية تشمل إيران، فمن المرجح أن تظل القواعد الأمريكية أهدافاً لهجمات مستمرة. ورغم أن سحب القوات من العراق قد يقلل من التهديدات المباشرة للقوات الأمريكية، فإنه يخاطر بترك البلاد تحت تأثير هذه المليشيات، التي تكتسب قوة عسكرية وسياسية.

 

2- تعطيل صادرات النفط الإيرانية من أطراف ثالثة:

 تلعب الحكومة العراقية الحالية دوراً حاسماً في مساعدة إيران على التهرب من العقوبات الأمريكية، وتخفيف تأثير هذه العقوبات على الاقتصاد الإيراني. وقد استفاد العراق من حاجته إلى الغاز الطبيعي لتشغيل محطات الطاقة من خلال الموافقة على تصدير النفط الخام والنفط الأسود إلى إيران. في يوليو 2023، وقّعت بغداد وطهران اتفاقية لمبادلة الغاز الإيراني بالنفط الخام العراقي. تسمح هذه الاتفاقية للعراق بسداد ديونه لإيران، حيث يُحظر على العراق إرسال الأموال مباشرة إلى طهران بموجب العقوبات الحالية.

خلال فترة ولاية ترامب الأولى، كانت العقوبات المفروضة على إيران على قدم وساق بهدف قطع النفط الإيراني عن الأسواق العالمية. وقد ساعد الاتفاق الأخير بين العراق وإيران الدولة الثانية على التحايل على هذه العقوبات، خاصة بعد أن خفف بايدن بعض القيود. ويضفي هذا الاتفاق الشرعية على عمليات تهريب النفط الإيرانية، ما يمكنها من التحايل على العقوبات بغطاء قانوني. وتخضع العديد من المعابر الحدودية العراقية لسيطرة غير رسمية من قبل مليشيات قوات الحشد الشعبي المدعومة من إيران والتي تلعب دوراً في تسهيل هذه الاتفاقيات التجارية.

 

3- اعتراض طريق الإمدادات الإيرانية إلى سوريا:

 تقع العديد من القواعد الأمريكية في العراق على مقربة من الحدود العراقية السورية، ومنها قاعدة القيارة، وهي واحدة من أكبر القواعد العسكرية الاستراتيجية، والتي يقال إنها تقع على بعد 58 كم جنوب الموصل. وهناك مطار عسكري مهم بقاعدة ألتون كوبري، في محافظة كركوك الشمالية الغربية، على بعد حوالي 50 كم من مدينة أربيل، وأربع قواعد أخرى في كردستان: واحدة في سنجار، وواحدة بالقرب من أتروش، واثنتان في مدينة حلبجة في محافظة السليمانية بالقرب من الحدود الإيرانية. هذا بالإضافة إلى قاعدتين أخريين على الأقل في محافظة الأنبار، التي تقع على الحدود الشرقية لسوريا.

يمكن أن تلعب هذه القواعد دوراً حاسماً في تعزيز المصالح الأمريكية في كل من العراق وسوريا. من ناحية أخرى، يُمكن لهذه القواعد مراقبة وتعطيل قناة الإمداد بالخدمات اللوجستية والأفراد والأسلحة المرسلة من إيران إلى سوريا عبر الأراضي والمجال الجوي العراقي لدعم نظام الأسد. ومن ناحية أخرى، يمكنهم موازنة النفوذ الروسي في سوريا من خلال تمكين عمليات المراقبة والاستطلاع الأمريكية المحدودة.

 

4- تجنب عودة داعش المحتملة:

 قد يؤدي انسحاب القوات الأمريكية من العراق إلى خلق فراغ أمني، ما يمهد الطريق لعودة داعش والقوى المزعزعة للاستقرار الأخرى. ووفقاً لتقرير صادر عن الأمم المتحدة، تحتفظ داعش بما يقدر بنحو 10 آلاف مقاتل في العراق وسوريا على الرغم من النكسات العسكرية الكبيرة التي تلقتها، ومن ناحية أخرى تواصل استغلال عدم الاستقرار الاقتصادي والسياسي. بين يناير 2020 وسبتمبر 2021، أعلن داعش مسؤوليته عن عشرات العمليات الشهرية في العراق، والتي استهدفت في المقام الأول محافظات صلاح الدين وكركوك وديالى. وقد تم تغذية نشاط الجماعة بالانقسامات الطائفية، وتهميش الأسر المرتبطة بداعش، والركود الاقتصادي غير المعالج. ونظراً لأن القوات الأمريكية توفر رادعاً حاسماً لهذه المليشيات وتدعم جهود مكافحة التمرد المحلية، فإن الانسحاب الكامل للقوات الأمريكية قد يترك العراق عرضة لتمرد داعش والنفوذ المتزايد للمليشيات ذات القوة السياسية والعسكرية. وفي الوقت نفسه، يهدد عدم الاستقرار عبر الحدود، مثل العمليات التركية في سوريا، بإعادة توجيه الموارد بعيداً عن احتواء داعش.

 

5- تعويض نفوذ الصين في العراق:

 أصبحت الصين مورداً مهماً للأسلحة إلى العراق، حيث تقدم اتفاقيات بيع أسلحة رخيصة ولغير أغراض سياسية. ارتفعت صادرات الصين من الأسلحة والذخيرة والمعدات والملحقات إلى العراق منذ عام 2020. ووفقاً لشركة Trading Economics، ارتفع حجم مبيعات الأسلحة الصينية إلى العراق من 245.000 دولار أمريكي في عام 2019 إلى 430.000 دولار أمريكي في عام 2020، وتزايد بشكل تدريجي على أساس سنوي، ليصل إلى أعلى مستوى له على الإطلاق في عام 2022 عند مليون دولار أمريكي. يُنظر إلى هذا باعتباره جزءاً من جهود الصين للاستفادة من نفوذها في الشرق الأوسط، بالإضافة إلى محاولة لاستكشاف سبل جديدة لإحياء اقتصادها خاصة بعد جائحة كوفيد-19. في أبريل 2024، تم عرض أحدث نسخة من طائرة الدرونز ساي هونج (CH-5) في المعرض الدولي للدفاع في العراق (IQDEX). كان العراق قد اشترى درونز صينية لأول مرة في عام 2015 عندما حصل على طراز CH-4، والتي استخدمها ضد داعش في منطقة الرمادي. وتشكل مبيعات طراز CH-5 الجديدة علامة أخرى على توسع مبيعات الأسلحة الصينية إلى العراق. كما تعد الصين منافساً اقتصادياً للولايات المتحدة في العراق، حيث تعد الدولتان من أكبر مستوردي النفط العراقي. في يناير، حلّت شركة البترول الوطنية الصينية (CNPC) محل شركة إكسون موبيل باعتبارها المقاول الرئيسي لحقل غرب القرنة 1 النفطي في العراق. ويبدو أن هذا يشير إلى اتجاه مقلق نحو تراجع نفوذ واشنطن في البلاد.

 

بيئة التحديات

يواجه الوجود العسكري الأمريكي المستمر في العراق تحديات محلية وإقليمية، يمكن تلخيصها على النحو التالي:

 

1- النظام العراقي يدعم إيران بشكل متزايد:

تتزايد التكهنات حول الدوافع وراء سياسات رئيس الوزراء العراقي الحالي محمد شياع السوداني. تم ترشيح السوداني في عام 2022 من قبل الإطار التنسيقي، وهو تحالف من الفصائل الشيعية في العراق يضم شخصيات متحالفة مع طهران مثل قيس الخزعلي، زعيم عصائب أهل الحق، وهي جماعة أعلنت مسؤوليتها عن آلاف الهجمات ضد القوات الأمريكية منذ إنشائها في عام 2006.

كان ترشيح السوداني قيد التفحص والتدقيق بسبب علاقاته السياسية؛ لم يكن هذا أول ترشيح له لهذا المنصب. ففي عام 2019، بعد استقالة رئيس الوزراء آنذاك عادل عبد المهدي وسط احتجاجات على التدهور الاقتصادي والفساد، رُفض ترشيح السوداني بشدة. ومؤخراً، في مقابلة مع بلومبيرج، صرّح السوداني بأن القوات الأمريكية لم تعد ضرورية في العراق، وأكّد أن الجيش العراقي قادر على إدارة أمن البلاد. ويتماشى هذا الموقف مع مطالب المليشيات المدعومة من إيران، ما يثير المخاوف من أن السوداني قد يكون متحالفاً سياسياً مع طهران. وإذا تأكدت هذه المخاوف، فقد يؤدي ذلك إلى تعقيد التعاون الأمني بين الولايات المتحدة والعراق في المستقبل.

 

2- التصعيد على جبهات متعددة في الشرق الأوسط:

التصعيد المستمر على جبهات متعددة في الشرق الأوسط يجر العراق إلى مواجهة مباشرة مع إسرائيل، بسبب تصاعد أنشطة المليشيات المدعومة من إيران ضد القواعد الأمريكية في البلاد. من جهته، قال وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر في الأمم المتحدة: "لقد بعثت هذا المساء برسالة إلى رئيس مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة دعوت فيها إلى اتخاذ إجراءات فورية بشأن نشاط المليشيات الموالية لإيران في العراق، والذي يتم استخدام أراضيه لمهاجمة إسرائيل". وأضاف ساعر أن بلاده ستتخذ "كل التدابير اللازمة لحماية نفسها ومواطنيها". وأثارت الرسالة حالة من الذعر داخل العراق، وحثت الحكومة العراقية مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة على التدخل ووقف التهديدات الإسرائيلية. وفي بيان لها، أكدت وزارة الخارجية العراقية على ضرورة تحرك مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة ضد العدوان الإسرائيلي. وتتكثف الجهود الدبلوماسية مع محاولة بغداد تجنب سيناريو المواجهة المباشرة مع إسرائيل. ودعا السوداني إلى خفض التصعيد، وحث واشنطن على التدخل لمنع إسرائيل من شن هجوم على العراق.

 

3- المشهد السياسي المحلي غير المستقر:

 تعمل التنافسات بين الأحزاب على تأجيج عدم الاستقرار السياسي في العراق. في عام 2022، وجدت البلاد نفسها على وشك الحرب الأهلية مع اندلاع التوترات بين الصدريين والإطار التنسيقي، إلى جانب الاحتجاجات الواسعة النطاق في الشوارع بشأن تشكيل الحكومة الجديدة. كشف هذا عن انقسام داخل الكتلة الشيعية حول السيطرة على المشهد السياسي. في أعقاب هذه الأحداث، انسحب مقتدى الصدر في النهاية من المشهد السياسي، تاركاً مساحة للإطار التنسيقي، الذي يضم فصائل مرتبطة بطهران، لتشكيل الحكومة الجديدة.

ومع ذلك، في الأشهر الأخيرة كانت هناك تقارير عن عودة محتملة للصدر، وهو خصم قوي للسوداني، في الانتخابات المقبلة على الرغم من عدم تأكيد هذه التقارير رسمياً. كما نشر الصدر بياناً مثيراً للجدل وقّع عليه باسم مختلف لحركته: الحركة الشيعية الوطنية، بدلاً من الحركة الصدرية. لكن ذلك لم يكن مفاجئاً، حيث لم يتم حل التوترات بين الفصائل الشيعية في العراق، وبالتالي أصبحت الديناميكيات بين الفصائل الشيعية في العراق بمثابة برميل بارود جاهز للانفجار مع عودة الصدر إلى الساحة. علاوة على ذلك، تواجه الفصائل السنية والكردية أيضاً انقسامات وصراعات على السلطة السياسية. ولعل إقالة رئيس البرلمان محمد الحلبوسي كانت إحدى علامات الانقسامات بين السنة.

 

4- السلاح غير المرخص في العراق:

عانى العراق منذ فترة طويلة من انتشار السلاح غير المرخص، وهو الوضع الذي تفاقم بعد الغزو الأمريكي في عام 2003 وحل الجيش العراقي، حيث كانت الأسلحة تُسرق وتُباع بأسعار زهيدة للمدنيين، وتشير التقديرات إلى أن السكان المدنيين يمتلكون ما بين 7.5 و10 ملايين قطعة سلاح، بعضها من الأسلحة الثقيلة. ورغم جهود الحكومة فإن المشكلة لا تزال دون حل. ولم تنجح محاولات الحكومة لتخصيص موازنة قدرها 15 مليار دينار لشراء الأسلحة من المدنيين، حيث يتردد المواطنون في التخلي عن أسلحتهم بسبب مخاوف من تدهور الوضع الأمني. فضلاً عن ذلك، تُستخدم الأسلحة في النزاعات القبلية والانتقام الشخصي والعنف السياسي، ما يؤدي إلى سقوط ضحايا يومياً.

 

5- الاقتصاد المتدهور:

 شهد الاقتصاد العراقي انتعاشاً طفيفاً في أعقاب صدمة جائحة كوفيد-19 وارتفاع أسعار النفط في عام 2020. ومع ذلك، لا يزال ثمة اعتماد كبير للاقتصاد على الدولار الأمريكي بين المواطنين العاديين، حيث تؤثر أسعار الصرف المتقلبة وسيطرة بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي بشكل مباشر على الاستقرار الاقتصادي. وقد أدى هذا الاعتماد إلى ارتفاع تكاليف السلع والخدمات، وانخفاض الأجور، وانخفاض القدرة الشرائية للمواطنين العراقيين. إن العلاقة بين تدهور الظروف الاقتصادية والتطرف العنيف واضحة للغاية. ينضم العديد من الأفراد إلى قوات الحشد الشعبي في المقام الأول لأسباب اقتصادية، حيث إن رواتبها أكثر تنافسية مقارنة بالخيارات الأخرى في العراق. أثناء القتال ضد داعش، استهدفت القوات المسلحة العراقية عمداً أفراداً من الطبقات الاجتماعية والاقتصادية الدنيا من أجل معالجة نقص المجندين بعد جهود التجنيد الفعالة لقوات الحشد الشعبي. تم بناء الإمبراطورية الاقتصادية المزدهرة لقوات الحشد الشعبي بسبب السيطرة على عائدات الجمارك التي تدرّ 10 مليارات دولار أمريكي سنوياً، والضرائب غير القانونية بقيمة 300 ألف دولار أمريكي يومياً، والأرباح من تجارة الخردة المعدنية. ويشكل استمرار المشاكل الاقتصادية والنفوذ المتزايد لقوات الحشد الشعبي والمليشيات الأخرى عوامل خطر رئيسية لعدم الاستقرار في جميع أنحاء البلاد.

 

6- تصاعد التوترات بين بغداد وأربيل:

هناك خلاف بين بغداد وأربيل بشأن استمرار وجود القوات العسكرية الأمريكية في العراق. ترى أربيل أن القواعد العسكرية الأمريكية ضرورية لأمنها ضد الهجمات والاضطهاد التركيين، في حين أن بغداد، التي تفتقر إلى النفوذ لدى طهران، انحازت إلى هدف إيران المتمثل في إزالة القواعد الأمريكية بالكامل من العراق. تتوتر العلاقات بين واشنطن وبغداد بسبب الدعم الأمريكي المتواصل لحلفائها الكرد، حيث يُنظر إلى الولايات المتحدة على أنها تقوّض سيادة بغداد على الأراضي العراقية، بما في ذلك إقليم كردستان. ستعيق هذه التوترات في نهاية المطاف جهود واشنطن لموازنة نفوذ إيران في العراق.

 

الولاية الثانية

قبل التطرق إلى السيناريوهات المحتملة للتدخل الأمريكي في العراق، من الضروري أن نتأمل فترة رئاسة ترامب السابقة. ويمكن تلخيص المواضيع الأساسية لسياساته على النحو التالي:

 

1- الافتقار إلى استراتيجية يمكن التنبؤ بها:

 تميزت فترة ولاية ترامب الأولى بانحرافات كبيرة عن السياسة الخارجية الأمريكية التقليدية. فقد شكك في قيمة عضوية الولايات المتحدة في حلف شمال الأطلسي، وانسحب فجأة من سوريا، وتخلى عن خطة العمل الشاملة المشتركة مع إيران، وبدأ حروباً تجارية مع الصين. وكان من أشد المنتقدين لطريقة تعامل بايدن مع انسحاب القوات الأمريكية من أفغانستان. والتقى ببوتين على الرغم من العقوبات الأمريكية التي فُرضت عليه بسبب تدخله المزعوم في الانتخابات الرئاسية الأمريكية. وكثيراً ما خرق ترامب البروتوكول الرئاسي، وبلغت الأمور ذروتها برفضه دعوة بايدن إلى البيت الأبيض بعد انتخابات 2020 واستمراره في تأكيدات تزوير الانتخابات، ما ساهم في التوترات التي أدت إلى هجوم الكابيتول في 6 يناير.

وبعد فوزه الانتخابي الأخير، بدا أن ترامب يتبع الخط نفسه. على سبيل المثال، حجب هويات المانحين من القطاع الخاص الذين يدعمون انتقاله الرئاسي. وفيما يتعلق بالشرق الأوسط، أدلى ترامب بتصريحات متناقضة بشأن انسحاب القوات الأمريكية. في بعض الأحيان، صرح بأن الولايات المتحدة لا يمكن أن تظل قوة شرطة العالم، وفي أوقات أخرى أكد على ضرورة مواجهة نفوذ إيران. وانتقد اقتراح مجلس النواب العراقي طردَ القوات الأجنبية من البلاد، بل وهدد بفرض عقوبات. وتشير هذه السوابق إلى أن ترامب قد ينحرف عن الاتفاقات التي تم التوصل إليها بين بغداد وإدارة بايدن.

 

2- اختيار المتشددين ضد إيران لفريق انتقال السلطة:

 تؤكد اختيارات دونالد ترامب الأخيرة لإدارته على سياسة متشددة تجاه إيران وموقف موالٍ لإسرائيل. فقد سبق لمايك هاكابي، الذي اختاره ترامب لمنصب السفير الأمريكي لدى إسرائيل، أن أنكر الهوية الوطنية الفلسطينية ودعم المستوطنات الإسرائيلية. وقد حظي هذا التعيين بإشادة شخصيات مثل إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريش، وهما عضوان بارزان في المجال السياسي اليميني في إسرائيل.

تشير إدارة ترامب الجديدة إلى العودة إلى حملة "الضغط الأقصى" التي تؤكد على العقوبات للحد من النفوذ الإيراني والقدرة الاقتصادية. وقد تبنت شخصيات مثل السيناتور ماركو روبيو والنائب مايكل والتز نهجاً متشدداً تجاه طهران، ووصفوها بالنظام الإرهابي ودافعوا عن العقوبات والردع العسكري. حتى إن روبيو أيّد حق إسرائيل في الرد "بشكل غير متناسب" على التهديدات الإيرانية. ولن تكتمل هذه المحاولات لعزل إيران اقتصادياً وعسكرياً دون موطئ قدم قوي في العراق، حيث أصبح نظام هذا الأخير موالياً لإيران أكثر فأكثر.

 

3- التحذير من الانسحاب الكامل من العراق:

خلال حملته الرئاسية لعام 2016، وعد ترامب ببدء انسحاب تدريجي للقوات الأمريكية من العراق. وفي سبتمبر 2020، قبل بضعة أشهر من الانتخابات الرئاسية الأمريكية في ذلك العام، تم الإعلان عن خفض القوات من 5200 جندي إلى 3000. هذه الخطوة التي اعتبرها الكثيرون إما بمثابة تحقيق متأخر لوعد انتخابي أو محاولة للرد على طلب الحكومة العراقية بمغادرة الولايات المتحدة للبلاد بعد الضربة ضد سليماني في بغداد، والتي أدت إلى تفاقم الوضع الأمني المهتز بالفعل. ومع ذلك، سلط ترامب الضوء مراراً وتكراراً خلال فترة ولايته الأولى على أن انسحاب القوات الأمريكية من العراق من شأنه أن يعمل لصالح إيران لتعزيز نفوذها هناك. وبينما قد ينظر البعض إلى هذه المواقف على أنها متناقضة، إلا أن وجهة نظر ترامب بشأن الأهمية الاستراتيجية للعراق ظلت ثابتة إلى حد كبير، حيث كانت طهران وستظل دائماً جزءاً من حسابات الولايات المتحدة بشأن سياستها تجاه العراق.

 

4- هيمنة البراجماتية على العلاقات مع الحلفاء:

تعليق فيكتور تشا على كيفية تعامل ترامب مع حلفائه ليس بعيداً عن الواقع. كانت هذه البراجماتية "المعاملاتية" سمة مميزة لولاية ترامب الرئاسية الأولى. عرض تشا نظرية تفيد بأن ترامب يعتبر دولة ما "منطقة آمنة" أو "منطقة خطر" بناءً على ما إذا كانت تلك الدولة لديها فائض أو عجز تجاري مع الولايات المتحدة وما إذا كانت تنفق ما لا يقل عن 3% من ميزانيتها على الدفاع. في عام 2019، تساءل ترامب عن فائدة عضوية بلاده في حلف شمال الأطلسي، واعتبرها عبئاً على الولايات المتحدة، لأن بلاده أكبر مساهم في التحالف. وفيما يتعلق بالوجود العسكري الأمريكي في الشرق الأوسط، قال ترامب إن الولايات المتحدة لديها "قاعدة جوية باهظة الثمن هناك. كلّف بناؤها مليارات الدولارات. لن نغادر إلا إذا دفعوا لنا ثمنها".

 

سيناريوهات محتملة

في الختام، سوف تحافظ الولايات المتحدة على وجودها العسكري في العراق أو تزيده طالما أن الإدارة الجديدة تعادي إيران. فالعراق يقع تحت نفوذ إيران أكثر فأكثر، سواء من خلال المليشيات بالوكالة، أو من خلال النفوذ الاقتصادي الكبير على موارد بغداد. ويتعزز هذا النفوذ من خلال حكومة عراقية تبدو متحالفة مع أجندة إيران، يثبت ذلك جهودها الرامية إلى إخراج القوات الأمريكية، وخاصة بالنظر إلى الخلفية السياسية المثيرة للجدل لزعيمها وانتماءاته. وفي الوقت نفسه، يشكل تنظيم الدولة الإسلامية تهديداً كامناً، وقد يشن هجوماً في أي لحظة. كما تظل التوترات الإقليمية في غزة وسوريا ولبنان متقلبة.

تعكس التعيينات الأخيرة التي أجراها ترامب لإدارته القادمة موقفاً متشدداً تجاه إيران، وتشير إلى تطوير سياسات يمكن أن تبتعد عن الانسحاب الكامل للقوات الأمريكية بحلول عام 2026، وتركز بدلاً من ذلك على تعزيز المصالح الاستراتيجية للولايات المتحدة. في حين أن ترامب قد يكون غير متوقع في بعض الأحيان، إلا أن الأهمية الاستراتيجية والاقتصادية للعراق ونهج ترامب البراجماتي في السياسة ومواقفه ضد إيران ظلت ثابتة، ومن غير المرجح أن تتغير بشكل كبير. أحد السيناريوهات المحتملة هو أن تفرض الولايات المتحدة عقوبات جديدة على العراق لعزل إيران بشكل أكبر وتصعيد حملتها للضغط الأقصى. يمكن نشر المزيد من القوات إذا شعرت واشنطن بتهديد للمصالح الأمريكية في العراق. ستحول هذه الاعتبارات والديناميكيات الاستراتيجية والاقتصادية والأمنية العراق إلى ساحة معركة لتسوية الحسابات بين واشنطن وطهران.


23/12/2024