×

  المرصد الصيني

  الموقف الصيني من تطورات الأزمة السورية



*الباحث عبد الله جمال

 

*انترريجيونال للتحليلات الاستراتيجية

في السابع والعشرين من نوفمبر 2024، وبعد سنوات من الهدوء النسبي، شهدت الحرب الأهلية السورية التي اقتربت من دخول عامها الرابع عشر تحولاً دراماتيكياً انتهى بسقوط نظام الرئيس السوري الأسبق بشار الأسد، يوم الثامن من ديسمبر 2024. أعادت هذه الأحداث القضية السورية إلى واجهة الاهتمام في منطقة الشرق الأوسط، متصدرةً المشهد بجانب القضية الفلسطينية، لما تتجاوزه تداعياتها الإطار الإقليمي لتصل إلى القوى العالمية –ومن بينها الصين– التي ترتبط مصالحها الاستراتيجية والاقتصادية والأيديولوجية بالوضع في سوريا. ورغم أن الدور الصيني في الأزمة السورية لم يكن بارزاً، إلا أن وجودها كان ثابتاً، معبراً عن سياسة خارجية تتسم بمبادئ عدم التدخل واحترام السيادة والبراجماتية الاقتصادية.

 

حياد استراتيجي

يُعد موقف الصين تجاه تطورات الأزمة السورية موقفاً محايداً في ظاهره، ولكنه يعكس سياسة استراتيجية ترتكز على مبادئها التقليدية في السياسة الخارجية، مثل: احترام سيادة الدول، وعدم التدخل في شؤونها الداخلية. ويمكن إيجاز أبرز مواقف بكين عقب تصاعد حدة الأزمة على النحو التالي:

 

1- الدعوة إلى حل سياسي للوضع الراهن:

في التاسع من ديسمبر 2024، أي في اليوم التالي لسقوط النظام، أصدرت وزارة الخارجية الصينية بياناً يدعو إلى تحقيق الاستقرار في سوريا بأسرع وقت ممكن، والعمل على إيجاد حل سياسي شامل للأزمة. وأكدت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الصينية ماو نينغ، على أهمية أن تكون العملية السياسية سورية بحتة، تتماشى مع قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2254، والذي ينص على التوقف الفوري من جميع الأطراف عن شن هجمات على أهداف مدنية في سوريا.

كما شددت المتحدثة على أنه "حينما تتطلع سوريا إلى حل سياسي، تأمل بكين أن تسترشد جميع الأطراف المعنية بمبدأ المسؤولية والمصالح الأساسية للشعب السوري على المدى البعيد"، مؤكدة أن مصير ومستقبل سوريا يجب أن يقرره الشعب السوري بنفسه دون أي تدخل خارجي، مشيرةً إلى أن هذا الموقف يعكس الالتزام الصيني بمبدأ احترام سيادة الدول، وتعزيز الحلول السلمية للأزمات الدولية.

 

2- التأكيد على احترام سيادة الأراضي السورية:

 جددت الصين التأكيد على أهمية احترام سيادة سوريا ووحدة أراضيها، خاصة بعد التصعيد الإسرائيلي الذي أعقب سقوط النظام. وفي تصريح رسمي، ذكرت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الصينية، أن الصين "تراقب عن كثب الوضع في سوريا"، وأكدت على ضرورة احترام سيادة الدولة السورية وسلامة أراضيها، وذلك بما يؤكد التزام بكين بالقانون الدولي ومبادئ ميثاق الأمم المتحدة.

 

3- المطالبة برفع العقوبات الغربية المفروضة على سوريا:

 أبرزت الصين أهمية رفع العقوبات الأحادية الجانب المفروضة على سوريا منذ سنوات طويلة، حيث صرح وزير الخارجية الصيني وانغ يي، عقب اجتماعه مع نظيره المصري بدر عبد العاطي، يوم 13 ديسمبر 2024، بأن المجتمع الدولي يجب أن يعمل بشكل مشترك على تحقيق رفع هذه العقوبات، موضحاً أن هذه الخطوة ضرورية لتخفيف الوضع الإنساني المتدهور في سوريا. وأضاف الوزير: "لقد أصبح الوضع في سوريا أكثر تعقيداً في الآونة الأخيرة، والصين تُولِي هذا الأمر اهتماماً بالغاً"، مشيراً إلى أن الصين لطالما انتهجت سياسة قائمة على تعزيز الصداقة والتعاون مع سوريا.

ومن اللافت للنظر أيضاً أنها لم تكن المرة الأولى التي تنادي فيها الصين برفع العقوبات عن سوريا؛ إذ سبق ودعا الرئيس الصيني، في سبتمبر 2023، الغرب إلى "رفع العقوبات عن سوريا التي مزقتها الحرب"، وذلك خلال محادثاته مع الرئيس السوري الأسبق بشار الأسد في بكين.

 

4- تجاهل وسائل الإعلام الصينية لتطورات سقوط نظام الأسد:

 إن الانهيار السريع للحكومة السورية يشكل أيضاً رسالة غير مرغوب فيها في الداخل بالنسبة لبكين، وهو ما انعكس في الطريقة التي غطت بها وسائل الإعلام الصينية الأحداث للمشاهدين الصينيين؛ حيث إنه بينما أظهرت وسائل الإعلام الدولية صوراً للحشود المبتهجة وسقوط التماثيل في شوارع سوريا، ركزت وسائل الإعلام الصينية الرسمية على لقطات حية ثابتة لدمشق دون أن تظهر أي حشود. كما تجاهلت تغطية مشاركة الفرع السوري للحزب الإسلامي التركستاني (المنتمي إلى إقليم شينجيانغ الصيني) في الأحداث، رغم نشر أعضاء الحزب تسجيلات توثق مظالمهم في الإقليم، وتهديداتهم باستخدام الأسلحة التي استولوا عليها من الجيش السوري السابق ضد الصين.

 

5- الامتناع عن التدخل العسكري ضد المعارضة:

 على عكس المواقف الروسية والإيرانية، لم تشارك الصين في أي دعم عسكري لنظام الأسد، كما لم تنخرط في الأعمال القتالية دفاعاً عنه. هذا الامتناع يعكس سياسة الصين التي تعتمد على عدم التدخل العسكري في النزاعات الدولية، بل ومن المرجح أن يسهم هذا الموقف في تسهيل تطبيع العلاقات بين الصين والحكومة الجديدة في سوريا، خاصة في ظل التوجه نحو إعادة بناء البلاد بعد سنوات من الحرب.

 

6- الحرص على سلامة المواطنين والممتلكات الصينية:

 ومن بين المخاوف المباشرة سلامة المواطنين الصينيين في سوريا، ففي 8 ديسمبر 2024، ومع تطورات الأوضاع في سوريا، أصدرت الحكومة الصينية بياناً طارئاً دعت فيه مواطنيها إلى مغادرة البلاد حفاظاً على سلامتهم، كما أكد البيان أن الصين قدمت دعماً فعالاً للراغبين في مغادرة سوريا بطريقة آمنة ومنظمة، مع الحفاظ على التواصل مع المواطنين الذين ما زالوا في سوريا لتقديم الإرشادات اللازمة.

من جانبه، قال زعيم هيئة تحرير الشام أحمد الشرع، إنه لن يسمح لأحد بالاقتراب من المؤسسات العامة التي ستستمر في العمل تحت إشراف "رئيس الوزراء السابق" حتى التسليم الرسمي، الأمر الذي دفع بكين إلى الإبقاء على سفارتها مفتوحة في دمشق، بهدف تقديم المساعدة للمواطنين الصينيين المحتاجين، ولا سيما ضمان استمرار قنوات التواصل مع القيادة السورية الجديدة.

 

محددات دافعة

رغم الخسائر التي واجهتها الصين في سوريا بعد سقوط النظام السابق، فإنها تسعى لتقليل هذه الخسائر عبر التكيُّف مع الوضع الجديد في دمشق، سواء في السياسة أو الاقتصاد أو النفوذ الاستراتيجي في الشرق الأوسط. ويمكن تلخيص أبرز محددات الموقف الصيني تجاه الأزمة السورية على النحو التالي:

 

1- عضوية سوريا في مبادرة الحزام والطريق:

 تُمثل عضوية سوريا في مبادرة الحزام والطريق نقطة استراتيجية بالنسبة للصين؛ إذ أوضح بعض الخبراء الصينيين أن بكين تتابع الوضع السياسي في سوريا بدقة، لارتباط ذلك بمصالحها الجيوسياسية، حيث يجعل الموقع الجغرافي الاستراتيجي لسوريا في قلب الشرق الأوسط منها لاعباً أساسياً في السياسة الإقليمية للصين. ومن ثم يتماشى استقرار سوريا مع أهداف بكين في تأمين مسارات الطاقة، وتوسيع نفوذها الإقليمي من خلال المبادرة، خاصةً بعد انضمام سوريا رسمياً لها في عام 2022.

وعلى الرغم من هذه الإمكانيات، فإن الاستثمارات الصينية في سوريا لا تزال محدودة، فقد بلغ إجمالي الاستثمارات المباشرة للصين في سوريا حوالي 13.24 مليون دولار فقط بحلول نهاية عام 2022. ورغم توقعات بعض وسائل الإعلام الصينية بأن تستثمر الصين مليارات الدولارات على مدى السنوات القادمة لإعادة إعمار سوريا، فإن الواقع يشير إلى بطء عملية وخطوات تنفيذ هذه المشروعات. من جانب آخر، يرى المراقبون أن سقوط النظام السابق قد يُشكل فرصة أمام الصين لإحياء مشاريعها الطموحة، مثل طريق الحرير الجنوبي، الذي يربط الصين بأوروبا عبر كازاخستان، وأوزبكستان، وإيران، والعراق، وسوريا.

 

2- الاستفادة من فرص إعادة الإعمار:

 في ضوء الشراكة الاستراتيجية الموقعة بين البلدين عام 2023، ولا سيما مع احتمالية انفتاح النظام السوري الجديد على التقارب مع بكين، يقدم احتمال المشاركة في إعادة إعمار سوريا فرصاً اقتصادية واعدة للصين لتثبيت أوضاعها ومصالحها الاقتصادية في سوريا. وعلى الرغم من التحديات التي تفرضها العقوبات الغربية، أبدت الشركات الصينية اهتماماً بإعادة بناء البنية التحتية الحيوية، بما في ذلك قطاعات النقل والطاقة.

 

3- الهواجس الأمنية الصينية الداخلية:

 يُشكل وجود مقاتلين من الإيجور في سوريا قضية حساسة بالنسبة للصين، حيث تخشى الأخيرة من امتداد التطرف إلى إقليم شينجيانغ. وبالتالي، سيشكل التعاون في مكافحة الإرهاب عنصراً رئيسياً في تفاعل الصين مع سوريا؛ إذ تهدف التحركات الدبلوماسية لبكين إلى ضمان أن تعالج الحكومة السورية هذه التهديدات الأمنية بفاعلية، خاصة وأن الصين لا تُخفي قلقها من احتمال استفادتهم من البنى التحتية الحاضنة للدولة السورية المقبلة. وعلى الرغم من صعوبة تحديد الأرقام الفعلية لمقاتلي الإيجور في سوريا، إلا أن الصين ستعطي الأولوية للضغط على الحكام الجدد في سوريا لاستبعاد هؤلاء المقاتلين من أي دور في الحكومة.

في المقابل، يرى العديد من الخبراء في الشؤون الصينية أن هذا الموضوع لن يكون عائقاً إذا ما تم التفاهم بشأنه مع العهد الجديد. وباستثناء التعبير عن دعمها لقضية الإيجور، لا يبدو أن هيئة تحرير الشام لديها أي مصلحة واضحة في مواجهة الصين، وبالتالي فإن انتصارها في الحرب الأهلية السورية لا يشكل تهديداً مباشراً للصين، والتي يمكن أن تكرر تجربتها مع أفغانستان داخل الحالة السورية للتعامل مع هيئة تحرير الشام في حال بقي قرارها هو المرجح في دمشق.

 

4- دعم سياسات الصين في المنطقة:

 تلعب الصين دوراً متزايداً كوسيط في الشرق الأوسط، كما ظهر من خلال دورها في تحقيق التقارب بين السعودية وإيران، وهو النهج الذي قد يمتد إلى سوريا، حيث تسعى بكين إلى تحقيق توازن في علاقاتها مع اللاعبين الإقليميين الرئيسيين، مثل تركيا وإيران ودول الخليج، وتهدف هذه السياسة إلى تقليل الصراعات الإقليمية، وتعزيز النفوذ الاقتصادي والدبلوماسي للصين.

 

5- ترسيخ المبادئ الأيديولوجية والدبلوماسية لبكين:

 يُعد التزام الصين بمبادئ عدم التدخل واحترام السيادة حجر الأساس لخطابها الدبلوماسي، وهو نهج يحظى بقبول واسع في الدول النامية التي تعارض التدخلات الغربية. وعلى خلاف الدعم العسكري الذي كانت تقدمه روسيا وإيران للنظام السوري، اكتفت الصين بتقديم دعم سياسي ودبلوماسي، حيث استخدمت حق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن الدولي.

وفي السياق ذاته، يرى خبراء الشأن الصيني أن دور الصين في سوريا سيتأثر بمنافسة دول أخرى كتركيا والولايات المتحدة وأوروبا، التي بدأت تولي اهتماماً متزايداً بالتطورات في سوريا. في الوقت ذاته، قد يتم التنسيق بين الصين وهيئة تحرير الشام عبر تركيا التي تجمعها علاقة وثيقة بهذه الجماعة، خاصة وأن بكين تتمتع بمرونة أيديولوجية كافية للتعامل مع أي حكومة مستقبلية في دمشق.

 

6- مدى استعداد الفاعلين الجدد بسوريا للتقارب مع بكين:

 مع تغير المشهد السوري، قد تعطي القيادة الجديدة الأولوية لحماية الاستثمارات الأجنبية، بما في ذلك الاستثمارات الصينية، كوسيلة لاستقرار الاقتصاد؛ حيث تسعى الحكومة الجديدة إلى الحصول على الدعم من دول مثل الصين، التي أظهرت نهجاً مرناً في التعامل مع العلاقات الخارجية. وبناء على ذلك، يرى البعض أنه من المحتمل أن تكون أي قيادة جديدة في دمشق حريصة على بناء علاقات جيدة مع بكين، وسط تراجع الناتج المحلي الإجمالي في سوريا بنسبة 85% بسبب الصراع في سوريا.

كما تحدثت بعض التقارير عن أن هيئة تحرير الشام تعهدت بحماية الأصول الصينية في سوريا، على غرار تعهدها بحماية القواعد الروسية في سوريا بانتظار التوصل إلى تفاهمات واتفاقات جديدة، ناهيك عن أن مستقبل علاقات الصين مع العهد الجديد سيتعلق بمدى استمرار موافقته على استمرار المشاريع الصينية المتفق عليها مع النظام السابق، لا سيما أن العهد الجديد لديه خيارات إلغاء أو تعديل الاتفاقات المبرمة بشأنها.

 

7- رغبة بكين في موازنة علاقاتها مع إيران وتركيا:

أدركت الصين بعد التطورات الأخيرة في المنطقة التكلفة العالية لتحالفها مع إيران وروسيا في الشرق الأوسط، فبالرغم من نجاحها في توظيف علاقتها مع إيران للتوسط في صفقة تطبيع بين إيران والسعودية، إلا أن سقوط نظام الأسد قد يعيد ترتيب الأولويات الصينية في المنطقة.

وبناء على ذلك، تتوقع التحليلات أن تبدأ الصين بالابتعاد تدريجياً عن إيران، وإعادة صياغة استراتيجيتها في المنطقة، مع الأخذ في الاعتبار دور تركيا كقوة إقليمية بارزة، وهو ما قد يدفع بكين للتركيز على بناء علاقات أكثر توازناً مع القوى الإقليمية المؤثرة، بهدف إعادة تموضع نفوذها في المنطقة، للحفاظ على مصالحها الاقتصادية.

 

مستقبل معقد

يكشف موقف بكين تجاه التحولات السورية عن نهج براجماتي يسعى لطي صفحة العلاقات التقليدية مع دمشق، واستكشاف إمكانيات شراكات جديدة مع القيادة المستقبلية؛ حيث يجمع الموقف الصيني بين الالتزام بالمبادئ الأيديولوجية والسعي لتحقيق المصالح الاقتصادية والاستراتيجية. ولكن من جانب آخر، قد يواجه الدور الصيني انتكاسات على المدى القصير، خصوصاً في ظل مبادرة الحزام والطريق، حيث إن مستقبل بكين في سوريا سيعتمد بشكل كبير على كيفية تطور المشهد السياسي، خاصة في ضوء استمرار حالة التشرذم السياسي، ووجود قوى دولية وإقليمية متنافسة، ومن ثم تهديد المصالح الصينية في سوريا.


26/12/2024