*د. أمل عبدالله الهدابي
*مركز المستقبل للابحاث والدراسات المتقدمة
تواجه إيران مشهداً إقليمياً ودولياً بالغ الصعوبة في ظل تحالف أمريكي إسرائيلي يصر على إنهاء مشكلة برنامجها النووي من جذورها، في وقت تبدو فيه أنها فقدت الأوراق الإقليمية التي كانت تعتمد عليها في تحقيق بعض من توازن القوى، بعد الضربات الإسرائيلية لأذرعها في المنطقة، ولاسيما حزب الله اللبناني وجماعة الحوثيين في اليمن.
وتضع رسالة الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، التي وجهها للمرشد الإيراني، علي خامنئي، خلال شهر مارس الجاري، إيران في دائرة الاختيار بين أمرين بالغي الصعوبة؛ التفاوض على اتفاق نووي جديد بالشروط الأمريكية، أو احتمالية مواجهة خيار الحرب والعمل العسكري.
وفي هذا السياق، يُطرح التساؤل حول كيفية تعامل طهران مع هذا المشهد المعقد، وتحديداً مع إدارة ترامب التي عاودت ممارسة سياسة "الضغوط القصوى".
رسالة ترامب.. فرصة أم تهديد؟
أكد ترامب، يوم 6 مارس 2025، أنه بعث رسالة إلى خامنئي، يحث فيها إيران على التوصل إلى اتفاق نووي جديد مع الولايات المتحدة. وقال ترامب في مقابلة مع قناة (Fox Business): "آمل أن تتفاوض إيران، وقد كتبت لهم رسالة أقول فيها آمل أنكم ستتفاوضون؛ لأنه إذا اضطررنا إلى التدخل العسكري، فسيكون ذلك أمراً فظيعاً بالنسبة لهم". وأضاف: "أعتقد أنهم يريدون الحصول على تلك الرسالة.. البديل هو أن نفعل شيئاً؛ لأنه لا يمكن السماح لهم بامتلاك السلاح النووي". وحدد ترامب مهلة شهرين فقط أمام طهران للوصول إلى الصفقة التي يتحدث عنها أو مواجهة السيناريو البديل.
وتنطوي رسالة ترامب على تهديد، حيث يضغط من أجل دفع إيران للتفاوض على صفقة نووية جديدة، مع تأكيد أن البديل هو العمل العسكري، وهو نفس الأمر الذي أكده المبعوث الأمريكي الخاص، ستيف ويتكوف، الذي وصف رسالة ترامب بأنها محاولة لتجنب العمل العسكري، فيما نقلت عنه وسائل إعلامية قوله: "رسالتنا لإيران هي دعونا نجلس معاً ونرى ما إذا كان بإمكاننا، من خلال الحوار والدبلوماسية، الوصول إلى الحل الصحيح. إذا استطعنا، فنحن مستعدون لذلك. وإذا لم نستطع، فإن البديل ليس خياراً جيداً".
ولكن ما طبيعة الصفقة الجديدة التي تسعى إدارة ترامب لفرضها تحت التهديد بالعمل العسكري؟ هنا تذهب الإدارة الأمريكية إلى أقصى حد ممكن، حيث نقلت شبكة "سي. بي. إس نيوز" عن مستشار الأمن القومي الأمريكي، مايك والتز، يوم 23 مارس الجاري، قوله إن الولايات المتحدة تسعى إلى "تفكيك كامل" للبرنامج النووي الإيراني، مضيفاً أنه "يتعين على إيران التخلي عن برنامجها بطريقة يمكن للعالم أجمع أن يراها".
ولا تقتصر ضغوط الإدارة الأمريكية على حل مشكلة البرنامج النووي الإيراني من جذورها، بل تشمل أيضاً وقف الدعم الإيراني للجماعات كافة التي تدعمها في المنطقة، ومن بينها جماعة الحوثيين. ففي 17 مارس الجاري، حذر ترامب من أن إيران ستتحمل المسؤولية عن أي هجمات أخرى من جانب الحوثيين على السفن والبوارج الأمريكية، وستواجه عواقب وخيمة، وأنه يجب على طهران التوقف عن دعم المتمردين وهجماتهم على السفن في البحر الأحمر. وجاء ذلك عقب بدء الولايات المتحدة (مع بريطانيا)، في منتصف مارس الجاري، شن هجمات على مواقع الحوثيين في اليمن، في إطار حملة صاروخية "لا هوادة فيها"، كما توعّد وزير الدفاع الأمريكي، بيت هيغسيث، ورد الحوثيون بالهجوم على حاملة طائرات أمريكية في البحر الأحمر.
في ضوء هذه المواقف الأمريكية التي تتجه إلى ممارسة أقصى الضغوط، يبدو خيارا المفاوضات والحرب بالنسبة لطهران أصعب من بعضهما، ولاسيما في حال اقترن سيناريو المفاوضات بالشروط الأمريكية المسبقة التي تجرد طهران من كل ما تعتبره عناصر قوتها ورمز سيادتها.
التفاوض من أجل صفقة جديدة:
لتجنب سيناريو المواجهة العسكرية، ولاسيما في هذه المرحلة من الانكشاف والضعف الاستراتيجي، من المُتوقع أن تتجه إيران إلى العودة إلى طاولة المفاوضات من جديد. وبالرغم من أن خامنئي أكد أن التهديدات الأمريكية لبلاده "لن تجدي نفعاً، وأنه يتعين على الأمريكيين وعلى الآخرين أن يعرفوا أنهم سيتلقون صفعة قوية إذا قاموا بأي تحرك يضر بالأمة الإيرانية"؛ فإن طهران لم ولن تغلق الباب تماماً أمام سيناريو التفاوض بهدف تجنب البديل الآخر. وهذا ما اتضح من تصريحات وزير الخارجية الإيراني، عباس عراقجي، التي قال فيها إن بلاده ستدرس "الفرص" وأيضاً "التهديدات" الواردة في رسالة ترامب، مشيراً إلى أن إيران أخذت في الاعتبار التهديدات والفرص، وتعهدت بأنها لن تتفاوض تحت الضغط والتهديدات أو زيادة العقوبات. كما أكد أن المفاوضات يجب أن تتم على قدم المساواة.
وتتسم السياسة الإيرانية بالبراغماتية إلى حد كبير، كما أن لدى طهران خبرة طويلة في إدارة المفاوضات النووية مع الغرب بشكل عام، وهي تدرك أن الوضع الراهن في غاية الصعوبة بالنسبة لها، خاصةً وأن الحليف الروسي لن يخاطر هو الآخر بخسارة ترامب الذي يتبنى مواقف في الأزمة الأوكرانية تميل إلى موسكو نوعاً ما.
وفي ضوء ذلك، يُتوقع أن تتحرك طهران في ملف المفاوضات مع واشنطن وفق ما يلي:
1- إعلان القبول من حيث المبدأ بالدخول في المفاوضات، مع رفض فكرة الشروط المسبقة أو الإملاءات الأمريكية كما يسميها الإيرانيون، والتشديد في الوقت نفسه على استعداد طهران للخيارات البديلة بما فيها الخيار العسكري.
2- محاولة إشراك أطراف ثالثة ولاسيما روسيا ودول الخليج العربي للتدخل لدى الأمريكيين لتخفيف حدة الضغوط وإتاحة المجال للوصول إلى تفاهمات مُحتملة. وكانت وكالة "بلومبرغ" قد ذكرت في تقرير لها يوم 4 مارس الجاري أن الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، وافق على الوساطة في محادثات بين الولايات المتحدة وإيران، بعد طلب من ترامب، نقلاً عن أشخاص مطلعين على الوضع. كما ذكر المتحدث باسم الكرملين، دميتري بيسكوف، أن المسؤولين الروس والأمريكيين ناقشوا البرنامج النووي الإيراني خلال اجتماعهم في السعودية الشهر الماضي.
3- تبني نهج النفس الطويل في المفاوضات، وإيران متمرسة بالفعل في هذا الأمر، فالدخول في مفاوضات لا يعني أنه سيتم التوصل إلى تفاهمات فورية، بل قد يستغرق الأمر سنوات طويلة، مثلما حدث في الصفقة الأولى. ويتوافق هذا النهج مع ما يُعرف بسياسة "الصبر الاستراتيجي" التي تنتهجها طهران؛ والتي تعني شراء الوقت وانتظار تغيّر الأوضاع في واشنطن، ولكن الأمر قد يبدو مختلفاً مع إدارة ترامب التي لا يُتوقع أن تقبل بسياسة التسويف والمماطلة والمفاوضات الممتدة. وهناك تقارير سُربت بالفعل في الصحف تُظهر أن الدول الأوروبية (فرنسا وألمانيا وبريطانيا) أعطت إيران مهلة حتى شهر يونيو المقبل للتوصل إلى صفقة، وإلا فستواجه عقوبات دولية، وربما ضربات عسكرية أمريكية وإسرائيلية.
سيناريو العمل العسكري:
توضح كثير من المؤشرات أن سيناريو العمل العسكري الأمريكي ضد إيران ليس مستبعداً، بل قد يكون وارداً في ضوء ما يلي:
1- حالة الانكشاف الاستراتيجي غير المسبوقة التي تبدو عليها إيران بعد الضربات الإسرائيلية لها ولحلفائها في المنطقة، والتي يُنظر إليها على أنها تمثل فرصة أمام الولايات المتحدة وإسرائيل لإزالة التهديد الإيراني من جذوره. فوفقاً للكثير من التحليلات العسكرية، ألحق الهجوم الجوي الإسرائيلي في أكتوبر 2024 أضراراً بالغة بأنظمة الدفاع الجوي الإيرانية؛ ما قد يجعلها غير فعالة في حال وقوع ضربات عسكرية أمريكية وإسرائيلية واسعة النطاق، كما أنه أضعف قدرة صناعة الصواريخ البالستية الإيرانية. إضافة إلى ذلك، تمنح القدرات التكنولوجية العسكرية الفائقة لدى الولايات المتحدة وإسرائيل، والتي ظهرت بعض ملامحها خلال حربي لبنان وغزة، تفوقاً عسكرياً واضحاً في مواجهة طهران؛ ما قد يشجع الصقور في الإدارتين الأمريكية والإسرائيلية على الضغط باتجاه تنفيذ العمل العسكري من أجل استغلال اللحظة الراهنة لاقتلاع الخطر الإيراني من جذوره، وتحقيق هدف التفكيك الكامل للبرنامج النووي الإيراني، كما ذكر مستشار الأمن القومي الأمريكي.
وبطبيعة الحال يعزز حالة الانكشاف والضعف الاستراتيجي الإيرانية نجاح الحرب الإسرائيلية في إضعاف قوة وتأثير حلفاء إيران وأذرعها في لبنان (حزب الله)، فضلاً عن سقوط حليفها الرئيسي المُتمثل في نظام حكم بشار الأسد في سوريا، فيما تتعرض جماعة الحوثيين لضربات قوية أمريكية وإسرائيلية وبريطانية تضعها على المحك. وتُمثل الحملة العسكرية الأمريكية القوية الحالية على الحوثيين، وتهديدات ترامب الحاسمة بالقضاء على التهديد الحوثي، بل وتهديده لإيران نفسها بأنها ستتحمل المسؤولية عن أي هجمات أخرى من جانب الحوثيين على السفن والبوارج الأمريكية؛ رسالة ردع واضحة باستعداد واشنطن لاستخدام القوة العسكرية.
2- سيطرة الصقور المناوئين لإيران على عملية صنع القرار داخل الإدارة الأمريكية الحالية، فضلاً عن مواقف ترامب نفسه المؤيدة لإسرائيل والمناهضة لطهران. فمنذ عودته إلى البيت الأبيض في 20 يناير 2025، واصل ترامب اتباع سياسة "الضغوط القصوى" على طهران، بفرض عقوبات على صادراتها النفطية بهدف تقليصها إلى الصفر؛ ومن ثم إجبار القيادة الإيرانية على التفاوض على صفقة نووية جديدة. وقد فرضت الولايات المتحدة أربع جولات من العقوبات على مبيعات النفط الإيرانية منذ بدء الولاية الثانية لترامب.
3- تصاعد أزمة إيران الاقتصادية، حيث تمر إيران بأزمة اقتصادية مركبة منذ سنوات، وسوف تتصاعد حدتها مع سياسة "الضغوط القصوى" الأمريكية. فقد بلغ معدل التضخم السنوي في إيران نحو 35% في فبراير 2025، فيما واصلت قيمة العملة المحلية الانخفاض لتبلغ مستوى قياسياً مؤخراً. ويعاني أكثر من ثُلث الشعب الإيراني من الفقر، وهو ما يترجم إلى نحو 32 مليون إيراني يعيشون في ظروف معيشية صعبة.
4- تواتر التقارير الدولية التي تفيد بأن إيران اقتربت من أو تجاوزت العتبة النووية، فقد أعربت الوكالة الدولية للطاقة الذرية عن قلقها بهذا الشأن، وأشارت في تقرير سري مؤرخ في 8 فبراير 2025 إلى أن احتياطيات إيران من اليورانيوم المخصب بنسبة 60% ارتفعت بشكل كبير، لتبلغ 274.8 كيلوغرام مقارنة بنحو 182.3 كيلوغرام في نوفمبر الماضي، ما يمثل زيادة قدرها 51% خلال ثلاثة أشهر فقط.
مع كل هذه العوامل ربما لا تستبعد احتمالية اللجوء إلى خيار العمل العسكري، ولاسيما إذا رفضت طهران دعوة ترامب للتفاوض بشكل نهائي. ومع ذلك، فإن سيناريو العمل العسكري نفسه يخضع للمناقشات؛ بمعنى هل يكون العمل العسكري الأمريكي شاملاً ومؤثراً بحيث يقضي على البرنامج النووي؟ أم أنه سيكون جزئياً بهدف الضغط على طهران وإثبات الجدية؟ وفي حالة خيار التحرك العسكري المحدود أو الجزئي، سيكون من غير المُتوقع أن ترد إيران بصورة تدفع للتصعيد، وربما يتكرر سيناريو الرد على الهجوم الإسرائيلي أو بصورة أقل حدة.
أما في حالة سيناريو الرد العسكري القوي، فإن التداعيات قد تكون كبيرة. وقد ذكر وزير الخارجية الأمريكي، ماركو روبيو، حين تم سؤاله حول مدى امتلاك بلاده لقدرات تُمكنها من تدمير مواقع برنامج إيران النووي، أنه "واثق بما فيه الكفاية للقول إنه إذا اتخذ الرئيس ترامب قراراً بأننا بحاجة إلى إجراءات لمنع إيران من امتلاك قدرة نووية، فلدينا القدرة على القيام بذلك، والذهاب إلى أبعد من ذلك وربما حتى تهديد النظام نفسه". ومن ثم فإن الخطر سيكون في حالة هذا السيناريو الأخير، الذي ستحاول طهران تجنبه.
خلاصة الأمر
أن الخيارات أمام إيران تبدو صعبة للغاية، وعملياً لا يوجد سوى خيار التفاوض في مواجهة تحالف أمريكي إسرائيلي يريد إنهاء التهديد النووي الإيراني، ومع ذلك فإن المشهد سيظل مفتوحاً على كل السيناريوهات المُحتملة.
*كاتبة إماراتية