*الباحث كرم سعيد
توافق سياسي
*إنترريجونال للتحليلات الاستراتيجية
يواجه إقليم كردستان العراق تحديات محلية وإقليمية عدة، ترتبط باستمرار الملفات الخلافية بين إدارة الإقليم والحكومة المركزية في بغداد، بالإضافة إلى التوترات التي يشهدها الإقليم، وخاصةً تصاعد الحرب الإسرائيلية في قطاع غزة، وحالة السيولة الأمنية والسياسية في سوريا، وهو ما ينعكس على الإقليم ومصالح فرنسا في المنطقة، ناهيك عن حالة من الحراك والتغيرات في دور القوى الدولية ومدى تأثيرها، مع عودة ترامب إلى السلطة في الولايات المتحدة الأمريكية.
ووسط هذا الزخم، جاءت زيارة رئيس الإقليم نيجيرفان بارزاني، في 14 أبريل 2025، إلى فرنسا بناءً على دعوة وجهها إليه الرئيس إيمانويل ماكرون، لتأكيد استمرارية الشراكة الاستراتيجية التي تربط الطرفَين، كما أنها هدفت إلى التنسيق بشأن التطورات المتلاحقة في منطقة الشرق الأوسط، وجهود مكافحة الإرهاب، وغيرها.
مؤشرات دالة
يمكن رصد أبرز المؤشرات الدالة على وجود اهتمام فرنسي لافت بتطوير العلاقات مع إقليم كردستان العراق، وهو ما يمكن بيانه على النحو التالي:
1– زيارات متعددة بين مسؤولي فرنسا وإقليم كردستان العراق:
وفي مقدمتها الزيارة التي أجراها نيجيرفان بارزاني في 14 أبريل 2025، والتي التقى خلالها الرئيس الفرنسي في قصر الإليزيه، بيد أن هذه الزيارة لم تكن الأولى من نوعها؛ ففي 26 يوليو 2024 زار نيجيرفان باريس تلبيةً لدعوة رسمية. وتعهَّد ماكرون خلال لقاءاته مع بارزاني بدعم الإقليم في مواجهة التحديات الأمنية والاقتصادية، كما أن وزير الخارجية الفرنسي جان نويل بارو، التقى رئيس الإقليم في 23 يناير 2025 على هامش منتدى دافوس. وفي المقابل، قام وفد حكومي من إقليم كردستان في 24 مارس 2024 بزيارة الجمعية الوطنية الفرنسية، كما قام وزير الجيوش الفرنسية سيباستيان ليكورنو بزيارة الإقليم في يوليو 2023 لتعزيز وزيادة التنسيق بين قوات التحالف الدولي لمكافحة الإرهاب وقوات البشمركة التي تعد جزءاً من التحالف.
2– التوسع في مشاريع الطاقة داخل كردستان العراق:
أبدت الشركات الفرنسية اهتماماً واسعاً بتعزيز استثماراتها في قطاع الطاقة داخل الإقليم؛ فبالإضافة إلى التنقيب عن مكامن الطاقة، وقَّعت حكومة بغداد في عام 2022 مع مجموعة "توتال إينيرجيز" الفرنسية سلسلة من العقود للاستثمار في مجالات الغاز والنفط، وفي مجال استغلال الطاقة الشمسية في محافظات العراق وإقليم كردستان بقيمة 27 مليار دولار بهدف تقليص الاعتماد على الطاقة الأحفورية.
3– الدعم الفرنسي للحقوق الكردية في العراق وسوريا:
أبدت باريس اهتماماً لافتاً بدعم حقوق المكونات الكردية في الإقليم، وكان آخِر مظاهر ذلك تأكيد الرئيس الفرنسي، عشية استقباله نيجيرفان بارزاني في 14 أبريل 2025، ضرورة حماية حقوق الكُرد في العراق والمكوِّنات الأخرى في سوريا، والدفع نحو حل سلمي شامل للقضايا العالقة في المنطقة عبر الحوار والتفاهم.
4– تطابُق المواقف السياسية بشأن أزمات إقليم كردستان:
تجمع الإقليم وباريس مواقف سياسية متطابقة فيما يخص أزمات الإقليم؛ فبينما عارض الجانبان الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، أبدى الطرفان استعداداً لدعم السلطة الانتقالية في سوريا بقيادة أحمد الشرع شريطة الالتزام بانفتاحها على كافة المُكوِّنات القومية والطائفية في البلاد، وبناء نظام مدني ديمقراطي.
اعتبارات مختلفة
يمكن تفسير اهتمام باريس وأربيل بتطوير العلاقات المشتركة، وتوسيع نطاق العلاقات الثنائية انطلاقاً من اعتبارات عديدة، يتمثل أبرزها فيما يلي:
1– دعم فرص التعاون الاقتصادي بين باريس وأربيل:
تحاول باريس الاستفادة من الفرص الاقتصادية المتاحة في الإقليم؛ وذلك من خلال تلبية احتياجات الإقليم من السلع والخدمات، وهو ما يُفسِّر زيارة وفد من 30 شركة فرنسية إلى الإقليم في فبراير 2025، بالإضافة إلى زيارة وفد اقتصادي من أربيل إلى العاصمة الفرنسية باريس لتعزيز وتوسيع العلاقات التجارية والمصرفية والزراعية، كما تجدر الإشارة إلى توقيع الطرفين عدداً من مذكرات التفاهم التي تستهدف دعم التعاون بين الجانبين في مجال الزراعة والتدريب والتعليم البيطري والصحة النباتية والبحوث الزراعية.
وتجدر الإشارة إلى وجود أكثر من 35 شركة فرنسية تعمل في إقليم كردستان في الوقت الحالي، وهي شركات كبيرة ومتوسطة، وهناك شركات تعمل بشكل مباشر وأخرى عبر شركائها في المنطقة، كما أن إقليم كردستان يعد بوابةً استراتيجية للتبادل التجاري في العراق؛ لذا يتم التبادل التجاري بنسبة 50% بين العراق وفرنسا عبر إقليم كردستان.
2– تعزيز النفوذ الدولي لإقليم كردستان العراق:
يرى "نيجيرفان بارزاني" أن التطورات التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط، توفر بيئة خصبة للإقليم لتعزيز حضوره على الساحة الدولية، خصوصاً في ظل ابتعاده عن التجاذبات الإقليمية، واحتفاظه بعلاقات متوازنة مع العديد من الأطراف الإقليمية. وعلى ضوء ذلك، فإن تطوير العلاقة مع باريس، يمكن البناء عليها لتثبيت موقع الإقليم في المعادلة السياسية الدولية، من خلال تسويق الإقليم كقيادة عابرة للحدود، وقدرته على لعب دور معتبر في تأمين مصالح القوى الدولية، ومنها الفرنسية، في المنطقة.
3– مكافحة التنظيمات الإرهابية في الشرق الأوسط:
لا ينفصل التقارب بين باريس وأربيل عن رغبة الأولى في تحييد النشاط العملياتي للتنظيمات الإرهابية في المنطقة، وخاصةً شمال شرق سوريا، خصوصاً بعد التغيرات السياسية الأخيرة التي شهدتها سوريا، والتي انتهت في ديسمبر 2024 بسقوط نظام الأسد؛ ما أثار مخاوف فرنسية من احتمال استغلال التنظيمات الإرهابية حالة الفوضى هذه لإعادة تموضعها على الساحة السورية، ومن ثم تحويلها إلى منصة استراتيجية لعملياتها الإرهابية التي يمكن أن تنعكس على مصالح باريس وأربيل.
ولذلك أكد ماكرون خلال لقائه بارزاني أن "المعركة ضد الإرهاب تظل على رأس أولويات فرنسا، خاصةً في مواجهة عودة ظهور تنظيم داعش في شمال شرق سوريا"، وأضاف: "ستواصل فرنسا دعم قوات سوريا الديمقراطية التي تقود هذه المعركة، مع الاحترام الكامل للسيادة السورية. وستنقل فرنسا هذه الرسائل المختلفة إلى شركائها الإقليميين والدوليين". وتجدر الإشارة إلى أن فرنسا كانت قد وجهت في 31 ديسمبر 2024، ضربات جوية ضد مواقع تابعة لتنظيم "داعش" في سوريا، وهي العملية الأولى من نوعها التي تقوم فرنسا بشنها منذ عامين.
4– تكريس النفوذ الفرنسي في الإقليم:
ثمة تفسيرات بأن توجيه "ماكرون" دعوة رسمية لرئيس إقليم كردستان العراق لزيارة باريس جاءت في إطار مساعي الطرفين إلى ترتيب حالة السيولة السياسية التي تشهدها المنطقة، وخاصةً الساحة السورية التي تمثل أولوية استراتيجية في السياسة الخارجية الفرنسية. وأدى التراجع الواضح في دور باريس، فيما يخص العديد من الملفات الإقليمية، إلى تعاظم دور قوى إقليمية، مثل تركيا. وفي هذا السياق، فإن توجه باريس لدعم العلاقة مع أربيل يأتي في سياق حرص ماكرون على تكريس وجود بلاده في منطقة الشرق الأوسط من خلال دعم العلاقات الفرنسية مع إقليم كردستان العراق، لا سيما مع تأثير الإقليم بحكم موقعه الجيوسياسي، وعلاقاته المتوازنة مع عدد من القوى الإقليمية والدولية في الملفات المهمة بالمنطقة.
5– موازنة الحضور التركي في كردستان العراق:
ثمة مخاوف فرنسية من التمدد التركي في الإقليم، وخاصةً على الساحتين السورية والعراقية، لا سيما بعد صعود هيئة تحرير الشام الموالية لتركيا إلى صدارة المشهد السوري، فضلاً عن نجاحات أنقرة في تمديد نفوذها في الداخل العراقي، وهو ما ظهر في دفع بغداد نحو تصنيف حزب العمال الكردستاني منظمة إرهابية. وفي إطار مساعي فرنسا لحشد حلفائها الإقليميين لدعم مصالحها في المنطقة، كان من أبرز أهداف استقبال "نيجيرفان بارزاني" في الإليزيه هو ضمان دعم الأخيرة للتحركات الفرنسية في المنطقة، فضلاً عن توفير بيئة خصبة لتعزيز حضور باريس في إقليم كردستان العراق، بما يسمح لفرنسا بتحييد النشاط التركي المنافس لباريس أو على الأقل موازنة التحركات التركية في إقليم كردستان والعراق.
ختاماً،
يمكن القول إن ثمة حرصاً لدى باريس وأربيل على دعم وتطوير العلاقات الثنائية في المجالات المختلفة؛ وذلك في إطار رغبة الطرفين في توسيع نطاق دورها في عملية إعادة صياغة الترتيبات الأمنية والسياسية التي يشهدها الإقليم، وخاصةً في سوريا، بالإضافة إلى رغبة بارزاني في الاستعانة بالدور الفرنسي لتحييد الضغوط المحلية على الإقليم من الحكومة المركزية في بغداد.