×

  المرصد الخليجي

  قراءة تحليلية في مضامين ونتائج زيارة الرئيس ترامب الخليجية



 

تريندز للاستشارات الاستراتيجية/إدارة البحوث

مثّلت زيارة الرئيس دونالد ترامب لكل من المملكة العربية السعودية ودولة قطر ودولة الإمارات في الفترة 13-16 مايو الجاري أول زيارة دولة له منذ تنصيبه في 20 يناير 2025. ومن الواضح أن هذه الزيارة تحمل دلالات عديدة ومهمة؛ كونها توصف بالتاريخية؛ لأنها جاءت قبل زيارة الرئيس الأمريكي لحلفاء بلاده التقليديين في أوروبا، أو دول جوارها القريب، أو حليفها الاستراتيجي في الشرق الأوسط، إسرائيل. تتعلق أولى هذه الدلالات بـ”مدى أهمية هذه الدول، اقتصاديًّا واستراتيجيًّا، بالنسبة للولايات المتحدة”، كما أكدت نائبة المبعوث الخاص للولايات المتحدة إلى الشرق الأوسط. فضلًا عن ذلك، لا يمكن إغفال التأثير الكبير للدول الخليجية في سوق الطاقة العالمية، إضافة بالطبع إلى الضرورات الاقتصادية الأمريكية الملحة في الداخل، والتطورات الجيوسياسية العالمية. كما أنّ الولايات المتحدة باتت تعوّل على الدور الخارجي المتنامي للدول الخليجية الثلاث، أو ما يُعرف بـ”لحظة الخليج”، في الإسهام في تحقيق الاستقرار الإقليمي والدولي.

وكان ترامب قد استبق زيارته إلى المملكة العربية السعودية بإعلانه اعتماد مسمى “الخليج العربي” أو “خليج العرب”، بدلًا من مسمى “الخليج الفارسي”؛ ما يعكس دعمًا “رمزيًّا” قويًّا لدول الخليج العربية.

وفيما تضمنت جولة ترامب الخليجية ملفات عدة، اقتصادية وسياسية واستراتيجية مهمة للطرفين، ومن أهمها الشراكة الاقتصادية الخليجية-الأمريكية، وسياسات الطاقة، والمفاوضات النووية الأمريكية-الإيرانية، والصفقات الدفاعية والضمانات الأمنية، وحرب غزة، والملف السوري، والاتفاقيات الإبراهيمية، وحرب أوكرانيا، وغيرها؛ فإن القمة الخليجية-الأمريكية الخامسة بين الولايات المتحدة ومجلس التعاون لدول الخليج العربية، التي عقدت في 14 مايو، في مدينة الرياض قد تداولت هذه الملفات أيضًا؛ ما أعطى دفعة قوية للشراكة الاستراتيجية بين الطرفين.

وبعد، فإن الدراسة الحالية تسعى، عبر محاورها الاقتصادية والسياسية، إلى أن تقرأ في مضامين ونتائج زيارة الرئيس ترامب الخليجية، مع الاهتمام بصورة خاصة بما أُعلن من صفقات استثمارية ورؤى مشتركة بين الولايات المتحدة من جانب والدول الخليجية الثلاث.

 

 

أهمية السياق الاقتصادي الدولي لزيارة ترامب للخليج:

هناك عناصر عدة ترسم السياق الدولي، وتحدد ملامح الواقع الاقتصادي العالمي المتزامن مع زيارة الرئيس ترامب للمنطقة الخليجية، وتُكسب هذه الزيارة أهمية استثنائية. فالحمائية التي وصلت لمستويات قياسية تعني تراجعًا مناظرًا في قواعد العولمة، وتترك آثارًا خاصة على أزمة الديون السيادية، واستمرار ضغوط التضخم في العالم.

 

 

شظايا الحمائية تهدد قواعد العولمة:

في ظل الهجوم، الذي تسببت فيه تعريفات ترامب الجمركية لحماية الوظائف والصناعات الأمريكية وتمويل تمديد التخفيضات الضريبية التي أقرها لعام 2017، فإن قواعد التجارة الحرة الدولية المعمول بها، منذ أربعينيات القرن العشرين، تشهد حاليًّا هزة عنيفة تعيد صياغة وتشكيل العلاقات التجارية العالمية، وباتت منظمة التجارة العالمية باتت في مهب الريح وفق بعض التقديرات، وسادت آفاق قاتمة حول التجارة العالمية بعد أن حققت نحو 33 تريليون دولار ازدهرت ونمت بمعدل 3.7% في عام 2024، مدفوعة بنمو قطاع الخدمات وجهود الاقتصادات النامية؛ لتعزيز تجارتها الخارجية وفقا لمنظمة “أونكتاد”.

لقد بدأ الأمر بفرض الرئيس الأمريكي ترامب تعريفات جمركية شاملة بنسبة 25% على السلع من المكسيك وكندا والصين، ثم قام بتعليقها على كندا والمكسيك، واستمرت على الصين، ثم فرضت الولايات المتحدة تعريفات جمركية بنسبة 25% على جميع واردات الصلب والألمنيوم بدءًا من 12 مارس 2025، بغض النظر عن بلد المنشأ. ولقد حل مطلع أبريل 2025 مقرونًا بصدمة مدوية في بيئة التجارة الدولية، بعد أن فرض التعريفات الجمركية المتبادلة على شركاء الولايات المتحدة التجاريين في جميع أنحاء العالم، بحسب موقف الميزان التجاري الأمريكي مع هؤلاء الشركاء.

ومع اندفاع دول جنوب شرق آسيا-الموطن الجديد للتصنيع العالمي-في البحث عن شركاء تجاريين بديلين وتقوية التكتلات الإقليمية، بالتوازي مع زيادة نفوذ الصين في المنطقة في ظل مساعي شركاتها لتعديل خططها الاستثمارية لتجنب الحمائية، يعاد تشكيل ممرات التجارة الدولية، سواء في العمق الآسيوي أو بين جنوب آسيا وأوروبا، مرورًا بموانئ إقليم الخليج العربي. ويلاحظ هنا أن ممر التجارة الهندية الأوروبية سيكتسب زخمًا خاصًّا، وسيعاد النظر في محدداتها، في عالم يعاني شظايا حمائية وتنافسًا محتدمًا بين أقطاب الاقتصاد العالمي.

إضافة إلى ما سبق، فإن ازدهار التفاعلات والتكتلات الاقتصادية بين دول الجنوب، بقيادة صينية واضحة، بما في ذلك تكتل “بريكس”، قد عقّد من التنافس بين الشرق والغرب، وأضاف بعدًا جديدًا للتنافس على الموارد والأسواق في خريطة العالم. إن كل ذلك يعني أن زيارة ترامب للخليج تأتي في وقت تشهد فيه العولمة المستقرة منذ أربعينيات القرن العشرين تراجعًا مطردًا في قواعدها وتنظيماتها، ومنظماتها كذلك.

 

تفاقم الديون السيادية واستمرار ضغوط التضخم:

إن استمرار المشكلات والتحديات التي تواجه الاقتصاد العالمي؛ من جرّاء أزمة الديون السيادية، لم يفرّق بين دول العالم وفق مستوى التقدم الاقتصادي؛ إذ باتت العديد منها تعاني ضغوطًا تضخمية، وعبءَ دَيْن داخلي وخارجي ضخمٍ، ومهددٍ بالتفاقم في ظل حرب التعريفات الجمركية؛ فالأخيرة تميل لأن تكون تضخمية؛ لأنها ترفع تكلفة السلع المستوردة، كما ترفع تكاليف الإنتاج عبر الصناعات التي تعتمد على المواد والمكونات الأجنبية.

وبالنظر إلى الاقتصاد الأمريكي مثلًا، سنرى كيف أن الدَّين الفيدرالي يتجه إلى مستويات قياسية، وعلى وشك أن يتجاوز ذروته في حقبة الحرب العالمية الثانية.

 وفي الاتجاه نفسه، يعاني الاتحاد الأوروبي بوادر أزمة مالية في ظل إفراط الحكومات في الاستدانة؛ ولاسيما في فرنسا، وإيطاليا، واليونان، وبلجيكا، وإسبانيا، والبرتغال لمعاناتها معدلات ديون أكبر من المتوسط الأوروبي، وتدخل أزمة العقارات في الصين مرحلة الخطر، كما تواجه الدول الأكثر فقرًا؛ ولاسيما في قارة إفريقيا، أزمة ديون متصاعدة.

وإلى جانب أزمة الديون التي تهدد السياق الاقتصادي العالمي حاليًّا، فإن تراجع التضخم من ذروته بعد أزمة الحرب الروسية-الأوكرانية قد يشهد انتكاسة بفعل الحمائية، لتستمر معدلات الفائدة على ماهي عليه لأمد زمني أطول مما كان متوقعًا كنتيجة لأزمات التجارة الدولية. وفيما تشير التوقعات بتراجع التضخم العالمي إلى 3.4% في عام 2025، فإن النتائج الفعلية قد تكون أكثر قتامة، وقد تظل السياسات النقدية العالمية أكثر تشددًا، اعتمادًا على مستقبل المفاوضات التجارية، وفرص حدوث صدمات جديدة في العرض و/أو صدمات مرتبطة بالمناخ.

 

العقوبات الاقتصادية تعقّد المشهد عالميًّا:

وإذا كان السياق العالمي الحالي يشهد تقلبات على صعيد التجارة، وتحديات تخصم من الاستقرار المالي والنقدي، فإن هناك مكونًا آخر يُكسب السياق الدولي لزيارة ترامب الخليجية أهمية إضافية؛ فالعقوبات التي تفرضها الولايات المتحدة على اقتصادات عدة في الإقليم، والتأثيرات الأوسع للعقوبات الغربية المفروضة على الاقتصاد الروسي، والعقوبات المتنوعة التي تُفرض بصورة أحادية، تترك آثارًا متباينة على قوى العرض والطلب بسوق الطاقة العالمية، وتحفز بعض الأنشطة الاقتصادية وتقيّد أخرى؛ ما يزيد من تعقيد المشهد الاقتصادي عالميًّا.

ولا تكمن مشكلة العقوبات الاقتصادية في أنها تهدد حركة التجارة الحرة عبر خطوط التجارة العالمية في أسواق الطاقة والسلع الأساسية فحسب، لكن تباين اتجاهات وأهداف العقوبات الاقتصادية الأمريكية والأوروبية مثلًا، والأدوات التي يلجأ إليها كل منهما، يخلقان أيضًا مزيدًا من التعقيدات على عمل الشركات العابرة للجنسيات، لتزداد في النهاية اضطرابات سلاسل التوريد التي تعاني أصلًا اضطرابات تفاقم الحمائية.

إن ما يُظهر هذه الحقيقة بجلاء أنه في حين تركز العقوبات الأمريكية على تقييد تجارة النفط أو المنتجات البتروكيماوية الإيرانية المنقولة بحرًا، ولاسيما من جانب المشترين في الصين، فإن الاتحاد الأوروبي يمارس سياسة أكثر تشددًا-رغم ما تكبده من خسائر اقتصادية-تجاه النفط والغاز الروسيًّين، اللذين كانا يُنقلان عبر الأنابيب وتحولا للاعتماد على أساطيل الظل. وفيما تتباين الرؤى والأهداف لكل من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي في قضية العقوبات، فلا شك في أن ذلك سيضيف سببًا جديدًا من أسباب التفتت والانفصال بين شاطئي الأطلسي والعالم من ورائهما.

 

تنامي الإنفاق العسكري عالميًّا:

مع دخول العالم حقبة جديدة من التنافس الاقتصادي، لم تقتصر تداعيات ذلك على تعقد العلاقات بين دول وتكتلات العالم، تجارةً واستثمارًا، فحسب، بل واكب ذلك نموٌ متسارعٌ في الإنفاق العسكري عالميًّا. يشهد على ذلك أن عدم اليقين الدولي دفع حلف شمال الأطلسي (الناتو) لمناقشة] أكبر زيادة في إنفاقه العسكري منذ الحرب الباردة؛ حيث تتجه دول الحلف نحو إنفاق 5% من ناتجها المحلي الإجمالي على الدفاع بحلول عام 2032.

وتتوافق هذه الزيادة القياسية في الإنفاق العسكري مع بيانات حديثة لمعهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام؛ إذ تبرز هذه البيانات ارتفاع واردات الأسلحة الأوروبية إجمالًا بنسبة 155% خلال الفترة من 2020 إلى 2024، كنتيجة مباشرة للحرب الروسية-الأوكرانية، وعدم اليقين بشأن مستقبل السياسة الخارجية الأمريكية. كما تشير البيانات نفسها إلى أن الولايات المتحدة زادت حصتها من صادرات الأسلحة العالمية إلى 43%، فيما انخفضت صادرات روسيا بنسبة 64%.

إن عالمـًا يعاني الحمائية المفرطة، وتتهدد فيه قواعد العولمة المستقرة، وتعاني دوله ضغوطًا تضخمية وديونًا متفاقمة، وتتباين فيه أهداف وتوجهات العقوبات الاقتصادية، ويتنامى فيه الإنفاق العسكري بمعدلات متسارعة، هو عالمٌ يحتاج إلى إحياء روح التعاون وينتظر دفعة قوية من الصفقات التي يمكن أن تعيده مرة أخرى لمسار النمو. وهنا، تكمن الأهمية التي تكتسبها زيارة ترامب للمنطقة الخليجية. فماذا عن أبرز الصفقات التي تم إعلانها؟

 

الصفقات الخليجية-الأمريكية وأهدافها الاقتصادية:

كان وقع الصفقات الاقتصادية الضخمة التي أُعلنت، قبل زيارة الرئيس الأمريكي ترامب للدول الخليجية الثلاث وفي أثنائها، يتوقف كثيرًا على ما دونها من أبعاد استراتيجية ومهمة لهذه الزيارة؛ إذ بينما يمكن وصف هذه الصفقات بالتاريخية من حيث قيمتها، فإن تركيز جزء مهم منها؛ ولاسيما الصفقات الإماراتية والسعودية، على التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي والاستثمارات الخليجية في قطاعات المستقبل في السوق الأمريكية، يؤكد عمق الروابط الخليجية-الأمريكية من جهة، ويؤكد التطلعات التنموية للدول الخليجية من وراء هذه الصفقات، من جهة أخرى.

ولعله من المفيد هنا أن نلقي نظرة كلية على أهم الصفقات الاقتصادية التي أُعلنت بين الجانبين الخليجي والأمريكي:

 

أبرز الصفقات السعودية-الأمريكية:

ضمن خطط أوسع لاستثمارات سعودية بقيمة 600 مليار دولار في الصناعات التحويلية والمنتجات والخدمات الأميركية أُعلنت في يناير 2025، كانت أهم الصفقات الاقتصادية التي وُقّعت في أثناء زيارة ترامب للسعودية، إلى جانب صفقات عسكرية نعرضها في موضع تالٍ، متمثلة في:

أبرمت شركة إنفيديا صفقة لتوريد شرائح الذكاء الاصطناعي الخاصة بها.

عقدت شركة AMD شراكة مماثلة بقيمة 10 مليارات دولار مع شركة سعودية، وتبنت أمازون “منطقة للذكاء الاصطناعي” بخطة تتجاوز قيمتها 5 مليارات دولار.

تدعم شركة جوجل صندوقًا جديدًا للذكاء الاصطناعي بقيمة 100 مليون دولار، إضافة إلى صفقة بيانات بقيمة 20 مليار دولار مع شركة سوبرمايكرو الأمريكية.

 

أبرز الصفقات القطرية-الأمريكية:

ومع إعلان دولة قطر تعهدًا استثماريًّا بقيمة 1.2 تريليون دولار، أُبرمت خلال زيارة ترامب لقطر صفقات بقيمة إجمالية تزيد على 243.5 مليار دولار، وفق الآتي:

وقعت الخطوط الجوية القطرية صفقة بقيمة 96 مليار دولار لشراء ما يصل إلى 210 طائرات من شركة بوينج الأمريكية، فيما يعد أكبر طلب شراء لطائرات عريضة البدن على الإطلاق، والأكبر على الإطلاق لطائرات 787.

يخطط جهاز قطر للاستثمار لاستثمار 500 مليار دولار إضافية في الولايات المتحدة خلال العقد المقبل في قطاعات الذكاء الاصطناعي ومراكز البيانات والرعاية الصحية التي تتوافق مع أجندة إعادة التصنيع في الولايات المتحدة.

 

الصفقات الإماراتية-الأمريكية:

إلى جانب الإعلان الإماراتي تعهداتٍ استثمارية تبلغ 1.4 تريليون دولار في سوق الولايات المتحدة خلال السنوات العشر المقبلة، اشتملت زيارة الرئيس ترامب لدولة الإمارات على توقيع صفقات مباشرة بقيمة 200 مليار دولار في قطاعات اقتصادية رائدة عدة، من بينها:

التزام بقيمة 14.5 مليار دولار من الاتحاد للطيرانللاستثمار في 28 طائرة من شركة بوينج.

خطط بين شركة أدنوك وشركات أمريكية رائدة في قطاع النفط لتوسيع إنتاج النفط والغاز الطبيعي بقيمة 60 مليار دولار.

مشروع مصهر الألمنيوم الأولي بقيمة 4 مليارات دولار أمريكي، الذي ستطوره شركة الإمارات العالمية للألمنيوم في أوكلاهوما، إضافة إلى استثمار الشركة ومجلس التوازن الاقتصادي الإماراتي في مشروع الجاليوم لدعم إمدادات المعادن الحيوية في الولايات المتحدة.

وفي مجال التكنولوجيا، أُعلنت خطط شركة كوالكومالأمريكية للمساعدة في تطوير “مركز هندسي عالمي” جديد في أبوظبي يركز على الذكاء الاصطناعي ومراكز البيانات.

أُعلن مجمع جديد للذكاء الاصطناعي ستُشيّده شركة G42الإماراتية بالشراكة مع شركات أمريكية عدة؛ سيضمّ 5 جيجاواط من سعة مراكز بيانات الذكاء الاصطناعي، ما يُوفّر منصةً إقليميةً لمُقدّمي خدمات الحوسبة السحابية، أو الحوسبة على نطاقٍ واسع.

من المقرر أن تتعاون شركة أمازون ويب سيرفيسز مع شركة e&الإماراتية للاتصالات ومجلس الأمن السيبراني لدولة الإمارات لتعزيز خدمات السحابة العامة الإماراتية.

وفي حين تسلط الصفقات السابقة الضوء على القطاعات محل الاهتمام الخليجي، فإن السؤال الآن هو: كيف يمكن لهذه الصفقات أن تعزز مسيرة التنمية عبر دعم محركات النمو الخليجي؟

إن الإجابة المباشرة على هذا السؤال تتمثل في أن مظلة التعاون الاقتصادي الخليجي-الأمريكي عندما تترسخ وتتسع ستتمكن عبر مجهودات إضافية متخصصة من معالجة قضايا التجارة العالقة بين الطرفين والتي أنشأتها سياسة التعرفات الجمركية لترامب. كما أن تسريع صفقات الاستثمار الخليجية في الأسواق الأمريكية تراهن على ارتفاع معدلات العائد على هذه الاستثمارات، التي ستستفيد منها اقتصادات الخليج مجددًا عند حدوثها، لكون هذه الاستثمارات تستهدف قطاعات اقتصادية سريعة النمو، وعلى صلة وثيقة بالتحولات التكنولوجية في الاقتصاد العالمي. كما يُتوقع أن يمتخض عن هذه الزيارة توافق في الرؤى داخل أسواق الطاقة الأحفورية بين المنتجين والمستهلكين، وتسريع التحول للطاقة المتجددة، ويُنتظر أيضًا تقديم جهود إضافية أمريكية لتخفيض مخاطر قطاع اللوجستيات في الإقليم لتسريع الازدهار التجاري.

ولا يجوز إغفال أهمية هذه الزيارة والاستثمارات المعلنة في دعم القدرات التكنولوجية خليجيًّا، سواء في توسيع ما تملكه هذه الدول؛ ولاسيما دولة الإمارات، من قدرات لمراكز البيانات والحوسبة السحابية، أو تعزيز حضورها في سلاسل الإمداد والقيمة للتكنولوجيا الرقمية، مع طموح لتوطين جزء من سلاسل الإنتاج والتشغيل والتصدير داخل هذه الاقتصادات. وما يؤكد أهمية هذه الزيارة في ترسيخ التقنية خليجيًّا، أن الولايات المتحدة تدرس حاليًّا السماح لدولة الإمارات بامتلاك أكثر من مليون شريحة رائدة من شركة إنفيديا، ما يعني أن تصبح الدولة صاحبة المكانة الأبرز عالميًّا في هذا النوع من التكنولوجيا الرقمية.

 

المضامين السياسية والاستراتيجية لزيارة ترامب الخليجية:

وبرغم أهمية الأبعاد الاقتصادية في زيارة الرئيس ترامب على النحو الموضح سابقًا، تظل هناك العديد من المضامين السياسة والاستراتيجية لهذه الزيارة. فمن المفاوضات النووية الأمريكية-الإيرانية إلى الصفقات الدفاعية والضمانات الأمنية؛ ومن حرب غزة إلى الاتفاقيات الإبراهيمية، ومن الملف السوري إلى العامل الصيني، تكتسب هذه الزيارة أهمية إضافية، ويتوقع أن تترك تأثيرات متنوعة على هذه الملفات. والنقاط الآتية تبرز ذلك:

 

المفاوضات النووية الأمريكية-الإيرانية:

ناقش الرئيس ترامب مع قادة دول مجلس التعاون مدى التقدم في المفاوضات الأمريكية-الإيرانية “غير المباشرة” منذ 12 أبريل المنصرم باتجاه التوصل إلى اتفاقٍ جديد بخصوص البرنامج النووي الإيراني، واستمع لوجهات نظرهم في هذا الشأن. وعلى عكس مفاوضات 2015 التي أفضت إلى خطة العمل الشاملة المشتركة، تتقاطع رغبة الرئيس الأمريكي مع رغبة دول الخليج في إنجاح المفاوضات والتوصل إلى اتفاقٍ نووي جديد يقي المنطقة مزيدًا من الاضطراب وعدم الاستقرار من جراء المواجهة الخطِرة المحتملة بين إيران (وحلفائها) من ناحية، والولايات المتحدة وإسرائيل من ناحية أخرى. فإضافة إلى المساعي الحميدة التي تبذلها سلطنة عُمان بين الولايات المتحدة وإيران، هناك دور إماراتي وسعودي في تسهيل تبادل الرسائل والاتصالات وتهدئة بعض المواقف بين الطرفين.

وفي هذا الخصوص، أكد وزير الخارجية السعودي، على هامش القمة الخليجية-الأمريكية الخامسة، دعم بلاده الكامل للمفاوضات النووية الأمريكية-الإيرانية، وتطلعها إلى أن “تُفضي هذه المحادثات إلى نتائج إيجابية تسهم في تعزيز الاستقرار الإقليمي”.

وخلال زيارته للمنطقة، أشارت تقارير إعلامية متواترة إلى أن الولايات المتحدة قدمت اقتراحًا باتفاق نووي جديد إلى إيران، خلال جولة المفاوضات الرابعة في مسقط (11 مايو 2025). ومن الدوحة (15 مايو)، أعلن الرئيس ترامب أنّ إيران وافقت إلى حدٍ بعيد على بنود المقترح الأمريكي، وبشّر بقرب التوصل إلى اتفاق.

 

الصفقات الدفاعية والضمانات الأمنية:

تصدرت المعدات والخدمات العسكرية المتطورة – بما في ذلك طائرات الجيل الجديد المقاتلة، وأنظمة الدفاع الجوي، والطائرات المسيرة والقدرات الفضائية وأنظمة المعلومات والاتصالات – قائمة طلبات دول الخليج إلى الولايات المتحدة. وفي هذا الخصوص، وُقّعت أكبر اتفاقية دفاعية سعودية-أمريكية في التاريخ، بقيمة نحو 142 مليار دولار. يُذكر أنّه في 2 مايو الجاري، وافقت الولايات المتحدة على صفقة بيع صواريخ للسعودية بـ 3.5 مليارات دولار، تشمل ألف صاروخ جو-جو متوسط المدى من طراز “آي آي أم-120”.

وفي قطر، التي تُعد ثاني أكبر شريك أجنبي للولايات المتحدة في مجال المبيعات العسكرية، وُقّع اتفاقان بقيمة 3 مليارات دولار لتزويدها بنظام الطائرات المسيرة عن بُعد MQ-9B، وهي من أحدث أنظمة الطيران المسيّر المتعددة المهام، وبأنظمة أمريكية متقدمة لمكافحة الطائرات المسيّرة من نوع (FS-LIDS)، لتصبح قطر أول مشترٍ دولي لهذا النظام الدفاعي، من دون الحديث عن توقيع قطر والولايات المتحدة بيان نوايا لتعزيز شراكتهما الأمنية، بقيمة تربو على 38 مليار دولار، تشمل استثمارات مشتركة في قاعدة العديد الجوية، ودعم قدرات الدفاع الجوي والأمن البحري القطرية.

وقبيل زيارة ترامب للمنطقة، أعلنت وزارة الخارجية الأمريكية الموافقة على صفقة دفاعية لدولة الإمارات، التي تُعد شريكًا دفاعيًا رئيسيًّا للولايات المتحدة، بقيمة 1.4 مليار دولار، تتضمن معدات وأسلحة حديثة، وخاصة للقوات الجوية.

ولا شك أنّ هذه الاتفاقيات الدفاعية بين الولايات المتحدة ودول مجلس التعاون الثلاث تُجدد الالتزام الأمريكي بأمن الخليج، وهو الأمر الذي أثيرت حوله الشكوك خلال الإدارات الأمريكية السابقة، وتُعيد منطقة الخليج العربي إلى صدارة الاهتمامات الجيوسياسية العالمية للولايات المتحدة، بعد أنْ تراجعت لفترة.

 وحملت زيارة الرئيس ترامب لقاعدة العديد الجوية في قطر، وهي أكبر القواعد العسكرية الأمريكية في المنطقة دلالة رمزية على تجديد الالتزام الأمريكي بالأمن والاستقرار في منطقة الخليج. وقد عبر ترامب نفسه عن هذه المضامين جميعًا، حينما خاطب القوات الأمريكية في العديد، بقوله: “كدنا نخسر الشرق الأوسط بسبب سياسات إدارة جو بايدن”، ثم تأكيده أن بلاده ستستمر في توفير الأمن المشترك، أو بتعبيره “سنحمي الشرق الأوسط”.

 

حرب غزة:

نوقشت أهمية وقف إطلاق النار في قطاع غزة، والإفراج عن الأسرى الإسرائيليين لدى حركة حماس، وإمداد القطاع، الذي يشهد أسوأ أزمة إنسانية في التاريخ المعاصر، بالمساعدات الغذائية والطبية والإنسانية جميعًا، عن طريق طرح آلية جديدة لإدخال المساعدات تسيطر عليها أو تُديرها الولايات المتحدة.

تداول القادة الخليجيون والرئيس الأمريكي في قمتهم بالرياض ضرورة الانسحاب الإسرائيلي الكامل على مراحل من غزة، وتأمين الحصول على دعم مالي لإعادة إعمار القطاع الذي دمرته الحرب. وفي هذا الشأن، أشار وزير الخارجية السعودي إلى أن السعودية والولايات المتحدة توصلتا إلى اتفاق بشأن إنهاء الحرب في غزة، يتضمن وقف العمليات العسكرية وإطلاق سراح جميع الأسرى الإسرائيليين.

وبرغم أن الرئيس ترامب، خلال القمة الخليجية-الأمريكية، لم يُثر قضية تهجير سكان غزة التي تعارضها دول مجلس التعاون بشدة، أو تأسيس إدارة أمريكية “مؤقتة” أو “انتقالية” لغزة بعد الحرب، فإنه عاد ليجدد رغبته، خلال اجتماع أعمال في الدوحة في 15 مايو، في “تملك” الولايات المتحدة لقطاع غزة، وتحويله إلى “منطقة حرة”. وكان ترامب قال في وقت سابق بأنه يريد تحويل غزة إلى “ريفييرا الشرق الأوسط” بعد إخراج سكانها منها، وسوف تظل هذه القضية محور خلاف بين دول مجلس التعاون، التي تؤيد الخطة العربية لإعادة إعمار قطاع غزة من دون تهجير سكانه، والولايات المتحدة.

 

الاتفاقيات الإبراهيمية:

كانت الاتفاقيات الإبراهيمية بندًا آخر على جدول أعمال جولة ترامب الخليجية. وقد حث ترامب السعودية على الانضمام إلى الاتفاقيات الإبراهيمية، بينما حث الإمارات على تجديد التزاماتها الحالية. ولكن كانت المفاجأة أنّ ترامب أشار إلى أن سوريا ستنضم في نهاية المطاف إلى الاتفاقيات، وهي إحدى القضايا الرئيسية التي طرحها ترامب خلال لقائه بالرئيس السوري، أحمد الشرع، في الرياض، على هامش القمة الخليجية-الأمريكية.

 

الملف السوري:

كانت مسألة إعادة إدماج سوريا في ظل حكم الرئيس الشرع في النسقين الإقليمي والدولي، والتي تقودها دول الخليج، وخاصةً السعودية، وإعادة تطبيع العلاقات الأمريكية-السورية على جدول أعمال زيارة ترامب إلى الرياض. وربما كان الإعلان الـ “كبير جدًّا جدًّا”، الذي وعد ترامب بالإفصاح عنه في السعودية، يتعلق برفع العقوبات عن سوريا، ولقائه الرئيس السوري، وهو اللقاء الذّي شارك فيه ولي العهد السعودي، والرئيس التركي رجب طيب أردوغان (عبر تقنية الفيديو). وفي لقائه بالشرع، وعد ترامب بتطبيع علاقات بلاده مع سوريا، وبحث معه قضايا عدة، على رأسها مكافحة “الإرهاب”؛ ولاسيما ما يتعلق بتنظيم داعش، وقضية المقاتلين الأجانب في سوريا (مغادرتهم سوريا)، وترحيل عناصر المقاومة الفلسطينية، وضمان أمن الأكراد. وطبقًا لوكالة رويترز، فإنّ إعلان الرئيس دونالد ترامب رفع جميع العقوبات عن سوريا فاجأ بعض الأعضاء في إدارته.

والواقع أنّ حضور الرئيس أردوغان لقاء ترامب-الشرع يدل على أنّ تركيا (إلى جانب السعودية) قامت بدورٍ في الانفتاح الأمريكي على الإدارة السورية الجديدة. وربما يكون للانفتاح الأمريكي تجاه سوريا انعكاسات تتعلق بتغير السلوك الإسرائيلي “العدواني” تجاه سوريا.

 

العامل الصيني:

كان العامل الصيني على أجندة زيارة ترامب للمنطقة. وسعى الأخير إلى الضغط على دول الخليج، ليس الإمارات وقطر والسعودية فقط، بل جميع دول مجلس التعاون الخليجي الست، لإبعاد نفسها عن بكين.

ومن دون الحديث عن الصفقات الدفاعية المتطورة والكبيرة الحجم، فإن توقيع اتفاقات بليونية بين الولايات المتحدة والسعودية والإمارات وإطلاق استثمارات خليجية كبيرة في مجال الذكاء الاصطناعي، وإعلان بناء أكبر مجمع إماراتي-أمريكي للذكاء الاصطناعي، بقدرة 5 غيغاوات في أبوظبي، خارج الولايات المتحدة، وتأسيس “شراكة تسريع الذكاء الاصطناعي بين الإمارات والولايات المتحدة”… يهدف كله إلى جذب دول الخليج بعيدًا عن الصين.

 

حرب أوكرانيا:

وفي زيارته للسعودية وقطر والإمارات، جاهد ترامب في استثمار فعّالية الدبلوماسية الخليجية للوساطة لإنهاء الحرب الروسية-الأوكرانية، أو على الأقل بذل مساعٍ حميدة لحث الطرفين الروسي والأوكراني على وقف إطلاق النار ومتابعة الانخراط في مفاوضاتٍ مباشرة لتسوية الصراع بينهما، خاصةً في ضوء تعثُّر الجهود الأمريكية حتى الآن لوقف إطلاق النار، فضلًا عن إنهاء الحرب. ومع نفاد الوقت، يرى ترامب أنّ دول الخليج – وخاصةً السعودية – قناةً مفيدةً للتواصل مع موسكو. وقد استضافت السعودية بالفعل محادثاتٍ سريةً بين الولايات المتحدة وروسيا، معززةً بذلك مكانتها بصفتها وسيطًا محايدًا.

 كما قامت دولة الإمارات بالوساطة في 15 صفقة لتبادل الأسرى بين روسيا وأوكرانيا حتى مايو 2025، كان أولها في يناير 2024. ووصل العدد الإجمالي للأسرى الذين تم تبادلهم بين البلدين عبر الوساطة الإماراتية 4181 أسيرًا. ويأتي نجاح الوساطة الإماراتية تجسيدًا لعلاقات الصداقة والشراكة التي تجمع دولة الإمارات بالبلدين، واعتبارها وسيطًا موثوقًا به لدى الطرفين. وقد توجهت وزارة الخارجية بالشكر إلى حكومتي كل من روسيا الاتحادية وأوكرانيا على تعاونهما، الأمر الذي أدى إلى نجاح جهود دولة الإمارات. وتجدر الإشارة إلى أن دولة الإمارات نجحت في ديسمبر 2022 في تبادل مسجونَين اثنين بين الولايات المتحدة وروسيا الاتحادية.

 وفي كلمته أمام القمة الخليجية-الأمريكية، أكد ولي العهد السعودي استعداد المملكة لمواصلة مساعيها الرامية للوصول إلى حل سياسي لإنهاء الأزمة الأوكرانية. وفي زيارته إلى قطر، وجه الرئيس الأمريكي حديثه إلى أمير قطر قائلًا: “أنتم تساعدوننا بإحلال السلام في مناطق عدة مثل روسيا وأوكرانيا وسنرى تطورًا في هذا الملف”.

 

خاتمة:

في ظل النتائج الأولية للزيارة؛ ولاسيما تركيزها على الصفقات التي تحقق منافع مشتركة للطرفين، وتعزيز الوصول للأسواق البينية، ومناقشة سبل التغلب على عقبات الحمائية التجارية وتسهيل الإجراءات الجمركية؛ وانطلاقًا من رسوخ العلاقات الاقتصادية الخليجية-الأمريكية على امتداد العقود الماضية، فمن المؤكد أن هذه الزيارة ستمثل دفعة جديدة على مسار الشراكة الاقتصادية الشاملة بين دول الخليج الثلاث والولايات المتحدة. وعلى هذا الأساس، وانطلاقًا من وصف هذه الزيارة بالتاريخية، فإن العمل على تطوير شراكة استراتيجية خليجية-أمريكية تراعي المصالح المشتركة وترسخ المكانة التكنولوجية للدول الخليجية في عالم تسوده الرقمنة، ستكون محصلته ليس اقتناص لحظة الخليج فقط، ولكن إعادة التوازن للدبلوماسية الأمريكية عالميًّا أيضًا، وفوق ذلك، نشر التنمية والاستقرار في وجهات العالم المختلفة.


18/05/2025