"علاقات قوية ومنافع مشتركة"
*مركز الجزيرة للدراسات
افتتحت في العاصمة القطرية الدوحة، يومالسبت، 10 مايو/أيار 2025، أعمال الدورة الرابعة لمؤتمر الحوار العربي-الإيراني، تحت شعار "علاقات قوية ومنافع مشتركة". ينظم المؤتمر مركز الجزيرة للدراسات والمجلس الاستراتيجي للعلاقات الخارجية بالجمهورية الإسلامية الإيرانية، ويشارك فيه نخبة من المسؤولين والخبراء والباحثين المتخصصين في الشؤون الإقليمية والدولية.
يُذكر أن مؤتمر الحوار العربي-الإيراني رسّخ حضوره منذ انطلاق دورته الأولى في الدوحة عام 2022، ويهدف إلى تعزيز قنوات الحوار بين العالم العربي وإيران، واستكشاف سبل إقامة شراكة استراتيجية مستدامة قادرة على مواجهة التحديات الإقليمية والدولية.
الحوار العربي-الإيراني منصة لتعميق التفاهم وتعزيز الاستقرار الإقليمي
في مستهل المؤتمر، ألقى الشيخ حمد بن ثامر آل ثاني، رئيس مجلس إدارة شبكة الجزيرة الإعلامية، كلمة رحّب فيها بالحضور، مؤكدًا أهمية الحوار العربي-الإيراني في سياق إقليمي معقّد يتطلب نقاشًا فكريًّا معمقًا واستراتيجيات واضحة لتجاوز التحديات الراهنة. واعتبر أن هذا الحوار لا يقتصر على البعد الجغرافي، بل ينطلق من تاريخ طويل من التفاعل الحضاري والمصالح المشتركة، ما يستدعي بحثًا معمقًا لفهم أبعاد العلاقة بشكل أعمق، واستشراف آفاق تعاون مثمر ومستدام.
وأكد الشيخ حمد بن ثامر في كلمته أن دورة هذا العام، المنعقدة تحت شعار "علاقات قوية ومنافع مشتركة"، تجسد أهمية استمرارية الحوار وتعميقه، معربًا عن أمله في أن تسهم النقاشات في إيجاد مقاربات جديدة لدراسة آليات تسوية النزاعات وتعزيز الاستقرار الإقليمي. كما رحب بالمفاوضات الإيرانية-الامريكية التي تستضيفها سلطنة عمان، معربًا عن أمله في أن تتوج بنتائج إيجابية تخدم مصالح جميع الأطراف، وتنهي حالة القلق الإقليمي، وتساهم في تعزيز الاستقرار العالمي.
عباس عراقجي: إيران تدعم التفاهم والتعاون الإقليمي وتعزيز الاستقرار
عقب كلمة الشيخ حمد بن ثامر، ألقى وزير خارجية إيران، عباس عراقجي، كلمته في المؤتمر، معبرًا عن سروره بالمشاركة في الدورة الرابعة لمؤتمر الحوار الإيراني العربي، مؤكدًا على أهمية تعزيز التفاهم والتفاعل بين إيران والعالم العربي. ووجه الشكر لمجلس العلاقات الخارجية ومركز الجزيرة للدراسات في قطر على تنظيم هذا الملتقى، مستذكرًا وزير الخارجية الراحل حسين أمير عبد اللهيان، الذي كان المتحدث في الملتقى السابق في طهران.
وأشار عراقجي إلى أن العلاقات الطيبة بين إيران والعالم العربي على مر التاريخ في إطار الحضارة الإسلامية العظيمة، قد ساهمت في تحقيق إنجازات قيمة للعالم الإسلامي، وأن المنطقة، التي كانت مهدًا للحضارات العريقة، تحتاج اليوم إلى تعزيز التفاهم والتعاون أكثر من أي وقت مضى.
وأكد عراقجي أن الجمهورية الإسلامية الإيرانية، بنظرتها الحضارية إلى محيطها، تدعم خطاب التفاهم والوحدة الإقليمية، مشددًا على أهمية تحقيق الوفاق الإقليمي وتعزيز الاستقرار، مشيرًا إلى أن ما يجمع دول المنطقة من قواسم مشتركة يفوق بكثير ما يفرقها، وأن أغلب نقاط الخلاف فرضت من الخارج بشكل مصطنع.
وفيما يتعلق بفلسطين، شدد عراقجي على أن "الكيان الصهيوني" يمثل التهديد الأكبر للسلام في المنطقة. واعتبر أن فكرة حل الدولتين التي كانت تُستخدم لسنوات طويلة لإضاعة الحقوق الفلسطينية، ألغيت رسميًّا من قبل "الكيان الصهيوني"، الذي يسعى لإبادة الشعب الفلسطيني وتهجيره القسري.
وأعرب عن ضرورة مواجهة هذا التهديد عبر تعزيز التضامن الإقليمي وتوحيد الجهود الدبلوماسية، مشددًا على أن التصدي لهذه الممارسات هو واجب قانوني وأخلاقي يقع على عاتق دول المنطقة.
وفي سياق العلاقات الإيرانية-الخليجية، رحَّب عراقجي بالتطورات الإيجابية التي شهدتها المنطقة خلال العام الماضي، مشيرًا إلى الاجتماع المشترك بين إيران ودول مجلس التعاون الخليجي، الذي عُقد لأول مرة منذ أربعة عقود، واصفًا إياه بأنه "خطوة مهمة على طريق بناء الثقة والشراكة الإقليمية". ودعا إلى تعزيز التعاون الاقتصادي والتجاري بين دول المنطقة، لاسيما في مجالات الطاقة والنقل والتكنولوجيا، مؤكدًا انفتاح إيران على أي مبادرة تؤدي إلى بناء اقتصاد تكاملي إقليمي قائم على المنافع المشتركة.
كما شدَّد على أهمية تفعيل أدوات الدبلوماسية الثقافية والعلمية، لما لها من دور في ترسيخ التفاهم الحقيقي بين الشعوب، معتبرًا أن التقارب الحضاري يشكِّل قاعدة راسخة لأي شراكة سياسية أو اقتصادية طويلة الأمد.
وفي ختام كلمته، جدَّد عراقجي دعوة بلاده إلى العمل الجماعي من أجل استقرار المنطقة، مؤكدًا أن "إيران تمد يدها لجميع الأطراف لبناء مستقبل مشترك"، وداعيًا إلى أن يكون الجميع "شركاء في السلام لا خصومًا في النزاعات"، لأن الحوار والتفاهم، كما قال، هما السبيل الوحيد لتحقيق الأمن والتنمية المستدامة.
و تناول عراقجي موضوع المحادثات غير المباشرة بين إيران والولايات المتحدة، مؤكدًا أن إيران تعتبر الحصول على الأسلحة النووية واستخدامها أمرًا محرمًا، لكنها في الوقت نفسه تصر على حقها في الاستخدام السلمي للطاقة النووية، مشيرًا إلى أن طهران لن تتنازل عن حقوق شعبها في هذا الصدد.
كمال خرازي: ضرورة إرساء آلية مؤسسية للحوار الإقليمي
اختتم الجلسة الافتتاحية رئيس المجلس الاستراتيجي للعلاقات الخارجية بالجمهورية الإسلامية الإيرانية، كمال خرازي، بكلمة دعا فيها إلى إرساء آلية مؤسسية لاستمرار الحوار وتعزيز قنوات التواصل بين النخب الفكرية في المنطقة. وأشاد بتنظيم قطر للمؤتمر، مشيرًا إلى ضرورة التزام دول المنطقة بمبدأ الاحترام المتبادل وتكافؤ السيادة والشعور بالمسؤولية المشتركة لتحقيق السلام والاستقرار.
وأكد خرازي أن الأمن الجماعي لا يُستورد، بل يجب أن يُبنى من الداخل دون تدخل خارجي، مضيفًا أن الجمهورية الإسلامية الإيرانية تدعم إيجاد بيئة تحقق الأمن والتنمية المستدامة بين دول المنطقة، وأن بلاده تعمل على تعزيز الدبلوماسية النشطة لتسوية الخلافات بطرق سلمية.
في المجال الاقتصادي، شدد خرازي على أهمية التعاون الجماعي والتنمية المشتركة، مشيرًا إلى أن منطقة الشرق الأوسط، الغنية بالموارد الطبيعية، تمتلك إمكانات كبيرة يمكن أن تُستغل في تحقيق التنمية المستدامة، مؤكدًا على ضرورة تعزيز الاقتصاديات المكملة في المنطقة بدلاً من التنافسية.
وفي الجانب الاقتصادي، دعا خرازي إلى توجيه الجهود نحو التعاون الجماعي والتنمية المشتركة، مشيرًا إلى أن منطقة الشرق الأوسط تزخر بموارد طبيعية هائلة؛ مما يستدعي توظيف هذه الإمكانات في بناء اقتصادات تكاملية بدلًا من الاستمرار في التنافس الإقليمي غير المجدي. كما أبدى استعداد بلاده لتقاسم خبراتها في مجالات العلوم والتكنولوجيا، وتعزيز التعاون الأكاديمي من خلال إنشاء مراكز أبحاث وجامعات مشتركة.
وفي الشأن السياسي، عبَّر خرازي عن قلقه إزاء تصاعد النزاعات، لاسيما استمرار العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، داعيًا إلى تفعيل الأدوات القانونية والدبلوماسية لردع الانتهاكات ودعم القضية الفلسطينية.
واختتم كلمته بالدعوة إلى إنشاء آلية إقليمية شاملة للتعاون الأمني والاقتصادي، تعكس الإرادة المشتركة لدول المنطقة في بناء مستقبل مستقر قائم على الشراكة والتكامل، مؤكدًا أن إيران منفتحة على كل المبادرات التي تسهم في ترسيخ السلام والازدهار الإقليمي.
ودعا خرازي إلى تعزيز التعاون العلمي والتكنولوجي، مؤكدًا استعداد إيران لتقاسم تجاربها، وتعزيز التعاون بين الجامعات وإنشاء مراكز أبحاث مشتركة لتعزيز التفاهم الإقليمي.
أجندة المؤتمر والمحاور الرئيسية
وتناول أجندة الدورة الرابعة من مؤتمر الحوار العربي-الإيراني عددًا من الملفات المهمة، من بينها التحديات الكبرى التي تواجه منطقة الشرق الأوسط، وتأثيرات التصعيد والتهدئة على موازين القوى الإقليمية، فضلًا عن مناقشة الأوضاع في لبنان، ومستقبل "حزب الله" عقب الضربات الإسرائيلية، والعلاقات الإيرانية-السورية في مرحلة ما بعد سقوط نظام بشار الأسد، والملف اليمني بتركيز على مسار الحوار اليمني-اليمني.
كما خصص الدورة الحالية مساحة واسعة للقضية الفلسطينية، لمناقشة تداعيات عملية "طوفان الأقصى" على مسار المشروع الوطني الفلسطيني، والتصورات العربية والإيرانية لمستقبل هذا المشروع في ظل المتغيرات السياسية.
هذا وانتهت في الدوحة أعمال مؤتمر الحوار العربي-الإيراني، الذي انعقد خلال الفترة من 10 إلى 12 مايو/أيار 2025، بتنظيم مشترك بين مركز الجزيرة للدراسات والمجلس الإستراتيجي للعلاقات الخارجية في إيران.
رؤى بحثية ومقاربات فكرية لملفات شائكة
بعد انتهاء الجلسة الافتتاحية العلنية، عقدت مجموعة من الباحثين والخبراء سلسلة من الجلسات المغلقة على مدار يومين، خُصصت لبحث عدد من القضايا المفصلية، وفي مقدمتها الملف الفلسطيني. وقد انصبت النقاشات على مراجعة المشروع الوطني الفلسطيني من حيث رؤيته وأولوياته وأدواته، والجهات المسؤولة عن بلورته وصياغته في ضوء التحولات الإقليمية والدولية المتسارعة.
وتوقفت المداولات عند الأدوار التي يُفترض أن تنهض بها المؤسسات الفلسطينية في هذا السياق، لاسيما المجلس الوطني الفلسطيني، ومنظمة التحرير الفلسطينية، وفلسطينيو الخارج، بوصفها أطرافًا أساسية في إعادة بناء مشروع وطني جامع، يستند إلى إرادة شعبية ويستجيب لتحديات المرحلة ومتطلباتها.
كما تناولت الجلسات الملف اللبناني في سياق المتغيرات السياسية الأخيرة، ولا سيّما تراجع النفوذ النسبي لحزب الله، وانتخاب رئيس للجمهورية، واختيار رئيس للوزراء. وتركزت النقاشات على تحليل التوازنات الداخلية الدقيقة، والتقاطعات العربية والإيرانية في المشهد اللبناني، وسبل بلورة مقاربة واقعية تسهم في تقليص التوترات وتدفع باتجاه استقرار سياسي مستدام يعكس التوافق الإقليمي ويستجيب لتطلعات اللبنانيين.
كما خصصت إحدى الجلسات المغلقة لمناقشة تطورات الوضع في اليمن، في ظل استمرار سيطرة جماعة أنصار الله على العاصمة، صنعاء. وجرى خلال النقاش استعراض رؤية الجماعة إزاء المشهد السياسي الراهن، وموقفها من مسارات التسوية المحتملة. كما تم التطرق إلى مواقف الأطراف اليمنية الأخرى غير المنضوية تحت أنصار الله، وتقديراتها للوضع القائم، بالإضافة إلى قراءة مواقف القوى الإقليمية الفاعلة، ولاسيما إيران والسعودية، من الصراع في اليمن، وحدود تقاطع المصالح أو تضاربها فيما يتعلق بمستقبل هذا البلد.
وأولت الجلسات المغلقة اهتمامًا واسعًا للملف السوري، في ضوء التحولات الجوهرية التي أعقبت سقوط نظام بشار الأسد على يد فصائل المعارضة المسلحة، وما ترتب على ذلك من تغييرات عميقة في المعادلات الداخلية والإقليمية. وقد تركزت المناقشات على تراجع النفوذ الإيراني في سوريا، وانعكاسات هذا التراجع على التوازنات الإقليمية، إلى جانب الحاجة الملحَّة لإرساء الأمن والاستقرار في البلاد، بوصفه شرطًا ضروريًّا لاستقرار المنطقة ككل.
كما تناولت الجلسات تباينات المواقف والرؤى بين الفاعلين الإقليميين، ولاسيما إيران والدول العربية، حيال مستقبل سوريا، ومسارات إعادة البناء السياسي والأمني، وآفاق التوافق الممكنة حول مقاربة مشتركة تُسهم في إنهاء الصراع وتعزيز الاستقرار الإقليمي.
هذا واختتمت الجلسات أعمالها بمناقشة آفاق التعاون الاقتصادي بين إيران والدول العربية، ولاسيما دول الخليج المجاورة. وقد ركز المشاركون على أهمية تفعيل الشراكات الاقتصادية من خلال استثمار الميزات النسبية التي يتمتع بها كل طرف، مثل الموارد المالية، والقوى البشرية، والموقع الجغرافي الإستراتيجي، واحتياطيات النفط والغاز، إلى جانب الأسواق الواسعة والمشروعات القابلة للتنفيذ والتي من شأنها أن تحقق منافع متبادلة.
كما تناولت النقاشات أبرز العوائق التي تعترض هذا التعاون، سواء كانت سياسية أو أمنية أو مؤسسية، وبحثت في سبل تجاوزها من خلال بناء الثقة، وتوسيع مجالات التفاهم، وتعزيز الإطار القانوني والمؤسسي للتعاون الاقتصادي، بما يفضي إلى شراكة إقليمية مستدامة تعود بالنفع على جميع الأطراف.
عن مؤتمر الحوار العربي–الإيراني
تجدر الإشارة إلى أن مؤتمر الحوار العربي–الإيراني رسَّخ حضوره خلال السنوات الأخيرة بوصفه منصة فكرية وسياسية حيوية، تهدف إلى تعزيز قنوات الحوار بين العالم العربي وإيران، واستكشاف سبل إقامة شراكة إستراتيجية مستدامة قادرة على التصدي للتحديات الإقليمية والدولية. وقد انطلقت أولى دوراته في الدوحة، عام 2022، وتوالت انعقاداته على النحو التالي:
الدورة الأولى: الدوحة، 21–23 مايو/أيار 2022، تحت عنوان "العرب وإيران: حوار حول أزمات المنطقة".
الدورة الثانية: الدوحة، 27–29 مايو/أيار 2023، تحت عنوان "الأمن والاقتصاد والأزمات: مقاربات وحلول".
الدورة الثالثة: طهران، 12–15 مايو/أيار 2024، تحت عنوان "إيران والعرب: حوار من أجل التعاون والتفاعل".
وقد واصل المؤتمر في دورته الرابعة هذا العام تعزيز تقليد الحوار البنَّاء، في ظل بيئة إقليمية شديدة التعقيد، واضعًا في صلب أولوياته بناء تفاهمات واقعية تدفع باتجاه الاستقرار والتكامل الإقليمي.