*مركز الامارات للسياسات/وحدة الدراسات العراقية
|
نقاط أساسية
-تحاول الحكومة العراقية عدم التورط في الحرب الإسرائيلية-الإيرانية من طريق الموازنة بين إدانة الهجوم الإسرائيلي على إيران والطلب من إيران عدم نقل الحرب إلى الساحة العراقية. ولا توجد خيارات لدى بغداد سوى انتظار نتائج المواجهة الحالية على أمل أن تنتهي بأقل الخسائر الممكنة.
-تتجنَّب المليشيات العراقية الموالية لإيران التورط في المعركة الإيرانية-الإسرائيلية حتى الآن، وهذا الموقف ينبع من رغبة إيران في عدم جرّ الولايات المتحدة إلى الحرب، كما يرتبط بالخشية من تبعات الحرب على نظام الحكم في العراق وهيمنة المكون الشيعي فيه.
-إذا تدخلت الولايات المتحدة مباشرة في الحرب، وشعرت إيران بأن ضعفها وصل إلى مرحلة حرجة وأن ثمة احتمالات جدية لسقوط النظام، فإنها ستطلب من الفصائل العراقية الانضمام إلى المعركة، وستقوم هذه الفصائل باستهداف إسرائيل والقواعد والمصالح الأمريكية في العراق والمنطقة.
-في حال توسَّعت الحرب بين إسرائيل وإيران، وانخرطت فيها الولايات المتحدة والفصائل العراقية، فإن من نتائجها المحتملة نزع سلاح الفصائل الشيعية وتقويض هيمنة الشيعة على النظام السياسي العراقي.
ما بين العراق الرسمي وعراق المليشيات
مع دخول المواجهة بين إيران وإسرائيل مرحلة الحرب المفتوحة، في إثر الهجوم الإسرائيلي على إيران في 13 يونيو 2025، أصبح العراق، وهو الشريك الأقرب لإيران، أمام اختبار حقيقي حول طريقة التعاطي مع هذه الحرب وارتداداتها، في ضوء توجهات رسمية تعبّر عنها الحكومة العراقية ترتكز على محاولة النأي بالنفس عن الحرب، وتوجهات المليشيات المسلحة وفصائل الحشد الشعبي التي يرتبط قرار اشتراكها المباشر في العمليات، سواء ضد إسرائيل أو ضد المصالح والقواعد الأمريكية في العراق والمنطقة، بطهران.
تحاول هذه الورقة استكشاف الانعكاسات المحتملة للمواجهة الحالية بين إسرائيل وإيران على العراق تبعا لمساراتها المتباينة، ومدى احتمالية تورط العراق في الحرب من عدمه:
مع إن إدانة الهجوم الإسرائيلي على إيران، والمطالبة بوقف المواجهة، حاضر في كل الخطابات الرسمية والحزبية العراقية، فإن موقف الحكومة الرسمي حاول الموازنة بين إسرائيل وإيران، عبر إعلان إدانة الهجوم الإسرائيلي على إيران، ورفض استخدام الأجواء العراقية لضرب إيران وتقديم شكوى إلى مجلس الأمن للمطالبة بوقف انتهاك إسرائيل الأجواء العراقية؛ وفي الوقت نفسه الطلب من إيران عدم استهداف المواقع والمصالح الأمريكية داخل العراق، وهو موقف سُرِّب إلى "وكالة فرانس برس" على لسان مسؤول عراقي أمني كبير من دون ذكر اسمه، ما يُشير إلى الاعتبارات الخاصة في التعاطي الرسمي العراقي مع إيران. ويمكن الإشارة هنا إلى فتح مضادات أرضية عراقية النار لمواجهة مسيرات إسرائيلية تعبر الأراضي العراقية، وهو إجراء لا يمكن بكل الأحوال أن يُطبق ضد المسيرات الإيرانية العابرة للأراضي العراقية.
في المقابل، كان موقف المليشيات المسلحة، وخصوصا الأكثر قربا من إيران وهي "كتائب حزب الله" و"النجباء" و"عصائب أهل الحق" و"سيد الشهداء" وغيرها، أقل حدة وتهورا مما كان متوقعا مع بدء الحرب الحالية، على عكس مواقفها السابقة، فقد صدرت منها بيانات تكتفي بإدانة الهجمات الإسرائيلية مع التأكيد على عدم حاجة إيران إلى دعم الفصائل في هذه المرحلة. لكن البيان الأكثر وضوحا جاء من الأمين العام لـ "كتائب حزب الله" أبو حسين الحميداوي، الذي ربط بين تدخل الفصائل في القتال ومشاركة القوات الأمريكية في الحرب ضد إيران، إذ قال: "إذا ما أقدمت الولايات المتحدة على التدخل في الحرب، فسنعمل بشكل مباشر على استهداف مصالحها وقواعدها المنتشرة في المنطقة دون تردد"، داعيا الحكومة وقوى "الإطار التنسيقي" إلى إغلاق السفارة الأمريكية في بغداد وطرد القوات الأمريكية من العراق.
يأتي هذا الموقف في إثر معلومات عن تلقي الفصائل العراقية التابعة لإيران قبل شهور عدة، صواريخ باليستية وطائرات مسيرة خُزِّنَت في منشآت تحت الأرض في البصرة والأنبار والموصل. ومن الواضح أن استخدام هذه الأسلحة في المواجهة الحالية مرتبط بالدرجة الأساس بقرار إيراني. فثمة إقرار بأن من الصعب على الجهات الرسمية منع الفصائل في حال قررت الاشتراك في الحرب، سواء بضرب منشآت أمريكية أو إسرائيلية أو حتى مهاجمة دول الجوار العراقي تحت بند "مهاجمة المصالح والقواعد الأمريكية في المنطقة"، وهو ما حذّرت منه السفارة الأمريكية في بغداد التي نفّذت عملية تقليص وإجلاء لكوادرها غير الأساسيين وأُسَرهم من العراق قبل بدء الهجوم الإسرائيلي.
وما يقيّد قرار الفصائل حتى الآن يرتبط أيضا بقراءة معظم قوى "الإطار التنسيقي" وحتى الشخصيات الشيعية المؤثرة، مثل زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر والمرجع الشيعي الأعلى علي السيستاني، للأحداث الحالية والمخاطر الداخلية المترتبة عنها، ومن بينها زعزعة النظام السياسي العراقي -الذي يهمن عليه الشيعة- في حال أدت الحرب إلى إضعاف النظام في إيران. وعلى مستوى آخر، أعلنت القوى والأحزاب والشخصيات السياسية الكردية والسنية إدانتها لإسرائيل ودعمها لإيران، غير أن منصات إعلامية مقربة من تلك القوى تحركت منذ اليوم الأول للحرب للتبشير بعهد جديد في العراق ليس لإيران نفوذ فيه.
أجواء عراقية مضطربة
فور اندلاع المواجهة الإسرائيلية-الإيرانية بادرت الحكومة العراقية إلى اتخاذ إجراءات أمنية خاصة، منها إعلان حالة الإنذار القصوى للقوى الأمنية وإغلاق المنطقة الخضراء، حيث يقع القصر الحكومي والسفارة الأمريكية. لكن الأجواء المضطربة فرضت إجراءات أكثر اتساعا، فقد صدرت تعليمات مشددة إلى وسائل الإعلام والمدونين بدعم الموقف الإيراني، كما هددت منصات مرتبطة بالمليشيات وسائل الإعلام والشخصيات التي لا تتعاطف مع الموقف الإيراني بهجمات مباشرة. وتفيد المعلومات أن قيادات الفصائل المسلحة غيّرت في خلال الأيام الأخيرة مواقعها بشكل دائم تحت هاجس الاستهداف، وأنه تم نقل بعض الأسلحة والمعدات، والوحدات خصوصا في الحشد الشعبي، إلى مواقع مختلفة.
ويبدو أن الأطراف المليشياوية والسياسية والحكومية العراقية تخشى من سيناريوهات تستثمر فيها إسرائيل والولايات المتحدة الوضع الحالي لدفع "عملاء" داخل العراق من أجل إحداث اضطرابات أو اغتيالات تهدف إلى زعزعة النظام السياسي العراقي، وربما هذا ما يسوغ توجه معظم الإجراءات الأمنية إلى الداخل العراقي، وزيادة الرقابة والحراسات في الأحياء، وتقليص التحركات للشخصيات السياسية الرئيسة. ومع ذلك فان الإجراءات لم تمنع انطلاق مظاهرات قرب بوابة المنطقة الخضراء، جُل المشاركين فيها من عناصر "الحشد الشعبي"، موجهة إلى السفارة الأمريكية.
هذه الأجواء انعكست بدورها على الشارع، حيث ساهمت عملية شراء متواصل للدولار الأمريكي في ارتفاع سعره في السوق الموازية، كما بدأت عمليات شراء مخزونات غذائية تحسبا للطوارئ. ومن الانعكاسات المباشرة لمهاجمة إسرائيل منصات غاز إيرانية انقطاع الغاز الإيراني المتوقع عن العراق الذي يعتمد في معظم إنتاج الطاقة لديه على إيران، وسبق أن حصل على وعود إيرانية باستمرار تزويد الغاز في خلال موسم الصيف، على رغم رفض الجانب الأمريكي تجديد الاستثناء السابق للعراق بهذا الشأن.
مسارات وسيناريوهات مُمكِنة
مع عدم وضوح اتجاهات وحدود المواجهة الإسرائيلية-الإيرانية حتى الآن، فإن العراق سيواجه انعكاسات تختلف باختلاف مسارات الصراع، وفق ما يأتي.
المسار الأول: توسيع نطاق الحرب
في حال استمرت المواجهة الإسرائيلية-الإيرانية لأسابيع، مع تصاعُد الخسائر التي يتلقاها النظام الإيراني وتراجع قدراته وإمكاناته العسكرية، أو مع انخراط الولايات المتحدة في الحرب بشكل مباشر إلى جانب إسرائيل، فإن من المرجح أن تنضم الفصائل العراقية الموالية لإيران إلى الحرب، على رغم كونه ليس خيارا مرحبا به من قبل القيادات السياسية الشيعية عموما. ويمكن قراءة تصريح وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي بأن "إيران لا تريد توسيع نطاق المعركة إلا إذا أُجبرت على ذلك"، باعتباره إشارة ضمنية إلى احتمال لجوء إيران إلى إدماج وكلائها في العراق، وفي مقدمتهم الفصائل العراقية، ضمن استراتيجيتها لإدارة المعركة.
لكن انضمام الفصائل العراقية إلى المعركة، سيكون خاضعا لسيناريوهين: الأول، سيناريو مهاجمة إسرائيل والمصالح والقواعد الأمريكية في العراق بشكل مباشر، وهو سيناريو لن يكون مؤثرا في استراتيجية توسيع نطاق المعركة. والسيناريو الثاني الجمع بين مهاجمة إسرائيل والقواعد الأمريكية في العراق ومهاجمة القواعد الأمريكية في المنطقة إلى جانب استهداف دول الجوار العراقي والملاحة في الخليج العربي. وانخراط الفصائل العراقية في الحرب سيدفع إسرائيل والولايات المتحدة إلى محاولة القضاء على هذه الفصائل بشكل كامل من طريق استهداف قادتها وتدمير قدراتها العسكرية، بما في ذلك الحشد الشعبي، للتخلص من هذه المشكلة بشكل نهائي. وقد يُفضي هذا إلى اتجاه قوى شيعية، مثل التيار الصدري، إلى ملء الفراغ الناشئ من ضرب الفصائل والقوى الموالية لإيران، إلى جانب ما يمثله هذا من فرصة للقوى السُّنية والكردية لإعادة التوازن إلى النظام السياسي العراقي.
المسار الثاني: وقف الحرب
يتوقف مسار عدم إطالة أمد الحرب بين إسرائيل وإيران ووقفها في خلال الفترة المقبلة (من أسبوع إلى ثلاثة أسابيع على الأرجح)، على ثلاثة سيناريوهات محتملة كما تأتي:
السيناريو الأول،
يفترض حصول توافق بين إيران والولايات المتحدة يرتكز على قبول إيران العودة إلى طاولة المفاوضات مع تقديمها تنازلات فيما يخص برنامجها النووي، في مقابل وقف إسرائيل الحرب على إيران. هذا السيناريو يُنقِذ إيران من تبعات الحرب، وبخاصة في حال انضمت الولايات المتحدة إليها بشكل مباشر، مع ما يعنيه ذلك من احتمال تفكُّك النظام الإيراني. ومع أن هذا السيناريو يُظهر إيران بموقف أنها خضعت للشروط الأمريكية والإسرائيلية، فإنها على الأقل تنقذ نفسها من دمار واسع كما أن النظام الإيراني يكون نجح في البقاء، وهو ما يمثل في الوقت نفسه مصلحة للفصائل الشيعية في العراق، إذ إن ذلك يعني احتفاظ هذه الفصائل بوزنها السياسي والاقتصادي وتجنُّب الدخول في معركة غير محسومة النتائج.
السيناريو الثاني،
سقوط النظام الإيراني نتيجة للضربات الإسرائيلية الواسعة والمؤثرة، وربما مقتل المرشد الأعلى علي خامنئي، ما يدفع بصعود أطراف إيرانية كانت مهمشة (تنتمي للتيارين الإصلاحي والتكنوقراطي) تعمل على التوصل إلى اتفاق شامل مع الولايات المتحدة لإنهاء الحرب وتغيير بنية النظام الإيراني وتوجهاته الاستراتيجية. وعلى رغم استبعاد هذا السيناريو فإنه مازال مطروحا في ضوء تطورات المعركة. ومن أبرز سمات هذا السيناريو، الذي يتضمن عدم تحرك المليشيات العراقية لدخول المعركة، هو انكفاء النفوذ الإيراني عن العراق، ما سيؤثر في نفوذ الفصائل الشيعية في العراق واحتمال نزع سلاح الميليشيات، الأمر الذي سينعكس بالتالي على المشهد الشيعي في العراق، وعلى إعادة بناء النظام السياسي العراقي.
الاستنتاجات
إن تجنُّب دخول المليشيات و"الحشد الشعبي" الموالية لإيران في المعركة الإيرانية-الإسرائيلية حتى الآن، يرتبط بحسابات يبدو أن معظمها لا يصب في صالح تلك المليشيات ولا في صالح الغطاء السياسي الذي يمثلها "الإطار التنسيقي"، ناهيك عن كونه لا يخدم رغبة إيران في عدم جرّ الولايات المتحدة إلى معركة مباشرة.
لكن كل تلك الحسابات قد لا تغدو أساسية في حال طلبت طهران تدخل المليشيات والحشد الشعبي في المعركة، من أجل توسيع نطاق المعركة، سواء ضد إسرائيل أو ضد المصالح والقواعد الأمريكية أو حتى ضد بعض دول الإقليم وحركة الملاحة في الخليج العربي، وهذا الأمر مرتبط باللحظة التي تشعر فيها إيران بأن ضعفها وصل إلى مرحلة حرجة وأن ثمة احتمالات جدية لسقوط النظام.
إن اقتراب موقف المليشيات من موقف القوى السياسية الشيعية، ومن موقف الحكومة في هذه المرحلة ليس مرده فقط تفاهمات عميقة أو نجاح للحكومة في كبح المليشيات كما يجري الترويج، بل إن سببه الأساسي وجود إحساس شيعي عام بالخطر، وهذا الإحساس لا يشمل فقط قوى الإطار التنسيقي والمليشيات والحكومة بل أيضا المرجعية الشيعية العليا والتيار الصدري وحتى المرجعيات ورجال الدين الأقل نفوذا. ومستوى الخطر الذي تطرحه مسارات الصراع الحالي لا يتعلق فقط بفرضية الحاكمية الشيعية وهيمنة الشيعة على نظام الحكم في العراق بل يتعدى ذلك إلى الخوف من طبيعة المخططات الإسرائيلية للعراق لمرحلة ما بعد الحرب على إيران، ومستوى الاختراقات الإسرائيلية والأمريكية للبنية الاجتماعية العراقية عموما، والبنية الاجتماعية الشيعية على وجه الخصوص، على غرار اختراقاتها العميقة للبنية الاجتماعية الإيرانية، وقبل ذلك لحزب الله اللبناني، وما يترتب على ذلك من ضرب المكون الشيعي في العراق من الداخل. وهذه المخاوف تفرض نفسها على الفاعل السياسي في العراق، وتقود في الغالب خياراته الحالية، وهي خيارات محدودة تتضمن انتظار نتائج المواجهة الحالية على أمل أن تنتهي بأقل الخسائر الممكنة.