*جمال ئاريز
*الترجمة والتحرير:نرمين عثمان محمد
في الشهر الماضي، طغت أخبار الحرب الإعلامية والسياسية والجوّية والصاروخية بين إيران من جهة، وإسرائيل وأمريكا من جهة أخرى، على مجمل المشهد، وغطّت بظلّها العنيف على جميع الحروب والتوترات والأوضاع السياسية والعسكرية والاقتصادية والبيئية المتدهورة في العالم. ولذلك، لم تقتصر التغطية الإعلامية للقضايا الأخرى على وسائل الإعلام الكردية فقط، بل تجاهلت معظم وسائل الإعلام العالمية الأخبار والوقائع الأخرى أو تناولتها باعتبارها أحداثًا ثانوية لا تهم الرأي العام كثيرًا.
ازدواجية وتشتت
منذ سنوات طويلة، خاصة بعد أحداث "الربيع العربي"، أصبحت الأوضاع في العالم شديدة الاضطراب والتعقيد، وباتت المصالح الإقليمية والدولية تتداخل في تفاصيل البُنى الهيكلية للدول المنهارة، مما أدى إلى بروز أزمات سياسية وإدارية عميقة. وبدلاً من أن تتولى هذه الدول معالجة أزماتها داخليًا، تدخلت القوى المؤثرة في محيطها لرسم حلول تُناسب مصالحها السياسية والاقتصادية والأمنية، بل وسعت في كثير من الأحيان إلى تشكيل حكومات وإدارات تابعة لها، وزرع وكلاءها في المواقع الحساسة في تلك الدول.
وبحسب الوقائع المتتالية، نجد أن جميع الدول التي شهدت انهيارًا لنظامها الحاكم لم تستقر بعد، بل انخرطت في دوامة مستمرة من المؤتمرات والوساطات والمشاريع المتضاربة، وسط انقسام تلك الدول إلى أقاليم و"كانتونات" على أسس إثنية أو دينية أو مذهبية أو ولائية، محوّلة الدولة الواحدة إلى كيان مفكك منهار داخليًا، إلى أن تصل في النهاية إلى مرحلة الحرب الأهلية بين جماعات مسلحة راديكالية وأخرى مدنية متقدمة تدّعي تمثيل التغيير والحرية، مما يؤدي إلى حالة من الإحباط واليأس القاتل لدى شعوب هذه الدول.
من "جيش وطني" إلى ميليشيات بلا مبدأ
رغم أن العديد من الدول المنهارة كانت تمتلك ما يُسمى "الجيش الوطني"، إلا أن هذه الجيوش، وخاصة قادتها، كانوا في جوهرهم جزءًا من النظام الحاكم وليسوا جيشًا للوطن، وكانوا يحمون النظام لا المواطنين. ولذلك، كانت الجيوش تنفذ أوامر السلطة السياسية والعسكرية، وتقف في مواجهة شعوبها عند كل أزمة داخلية، مما أفقدها مصداقيتها. ومع انهيار الأنظمة، اختفى كبار القادة من الساحة، وتُرك الجنود العاديون لمصيرهم، وفُقدت الدولة التي من المفترض أن يدافعوا عنها.
وبسبب غياب الوعي والقيادة، انخرط عدد كبير من هؤلاء القادة في العمل السياسي وأصبحوا أدوات لتكوين ميليشيات بلا مبدأ، تخدم مصالح جماعات سياسية أو مذهبية أو دينية، وتخضع لأجندات خارجية وإقليمية دون أن يدركوا ذلك.
أمثلة حية
كما أشرنا في البداية، على الرغم من أن حرب الـ12 يومًا بين إيران وإسرائيل وأمريكا غطّت على الكثير من الأحداث، إلا أنه منذ عام 2011، وبعد انهيار معظم الأنظمة (باستثناء مصر وتونس جزئيًا)، لم تنجُ أي من الدول الأخرى من الأزمات الداخلية والإقليمية والدولية المتشابكة. الدولتان المذكورتان تمكنتا من السيطرة بشكل نسبي على الوضع الأمني والحدودي بفضل جيوشهما التي أعلنت حيادها، لكن في المقابل، تحولت دول مثل ليبيا وسوريا واليمن والسودان إلى كانتونات وأقاليم متفرقة، لكل منها جيشها الخاص وأجندتها السياسية، وسط عجز إقليمي ودولي عن إعادة الأمور إلى نصابها.
وأخطر ما في هذا الانهيار، هو الانقسام الطائفي والإثني الحاد الذي جعل حتى رفاق النضال السابق ضد الأنظمة الاستبدادية ينقسمون اليوم إلى معسكرات متحاربة، وكل ذلك قضى تمامًا على صورة الدولة وهيبتها، التي باتت مجرد وهم.
الخيبة الكبرى
الأسوأ من كل ذلك هو شعور المواطنين في تلك الدول بالإحباط من قوى المعارضة التي كانوا يعوّلون عليها لتحقيق التغيير، إذ لم تُظهر الأنظمة الجديدة التي جاءت بعد "الربيع العربي" نموذجًا أفضل من الأنظمة السابقة، سواء من ناحية تقديم الخدمات، أو احترام حقوق الإنسان، أو الحفاظ على السلم الأهلي، الذي تآكل بفعل الصراعات الطائفية والإثنية.
في ظل تفشي الفساد، والانهيار الاقتصادي، وارتفاع معدلات البطالة، وانفجار الأسعار، برزت ظواهر جديدة من الفساد المنظم بقيادة ميليشيات لا تملك لا مبدأ ولا انتماء، بل تنهب باسم الثورة أو المقاومة، في مشهد هو أقرب إلى مافيا منظمة، لا علاقة لها بالدولة أو بالمواطن.
*نشر المقال في صحيفة"كوردستاني نوي"