*علي شمدين
أجل! بعد أربعة عقود من الكفاح المسلح ضد الدولة التركية، وعلى بعد رمية (وردة) من مدينة السليمانية، تجري مراسيم إلقاء سلاح مقاتلي حزب العمال الكردستاني الذي أسسه زعيمه عبد الله أوجلان ومجموعة من الطلبة الكرد اليساريين في دياربكر بتاريخ (٢٧/١١/١٩٧٨)، وتأتي هذه المراسيم كخطوة رمزية في سياق الاستجابة للدعوة التي كان قد أطلقها أوجلان من سجنه الذي يمكث فيه منذ عام (١٩٩٩)، والذي دعا فيها مقاتلي حزبه إلى إلقاء السلاح والإعلان عن حل الحزب نهائيا، وقد صادق المؤتمر الثاني عشر والأخير لحزب العمال الكردستاني الذي انعقد في (١٢/٥/٢٠٢٥)، على هذه الدعوة المفصلية بالاجماع.
حقيقة لا يمكننا أن نبقى غير مبالين أمام حدث تاريخي كهذا تشهده مسيرة الكفاح المسلح الذي خاضه حزب العمال الكردستاني في شمال كردستان منذ عام (١٩٨٤)، ولا شك بأن الألم يعصر قلوبنا من الأعماق، والدموع تحتبس في أعيننا ونحن نتابع بصمت هؤلاء المقاتلين وهم يلقون أسلحتهم التي عشقوها بعمق، وظلت سباباتهم على زنادها من دون يأس أو ملل لأكثر من أربعة عقود، واهبين أرواحهم رخيصة من أجل حرية شعبهم.
الذين لم يترددوا يوما في مواجهة طغيان الحكومات التركية المتتالية التي لم توفر أي سلاح من أجل إبادة أيّ كردي حتى وإن كان على سطح كوكب (المريخ)، ولكن من دون جدوى، فقد فشلت تلك الحكومات التي ظلت تعمل تحت شعار: (سعيد من يقول أنا تركي!)، في تحقيق أهدافها أمام مقاومة هؤلاء المقاتلين، لا بل أرغموها في النتيجة إلى الحوار مع قائدهم المقيم في سجنه بجزيرة إيمرالي التركية، والإقرار معا بفشل الخيار العسكري لحل قضية شعب يتجاوز تعداده الثلاثين مليونا، وإطلاق هذه العملية السياسية الجارية لحل القضية الكردية سلميا، في وقت ظلت حكومة أردوغان، ولحفظ ماء وجهها، تسميها بعملية (تركيا خالية من الإرهاب).
لقد فتح الكرد السوريون أعينهم في أواخر السبعينات من القرن المنصرم، على توافد المئات من كوادر حزب العمال الكردستاني وعناصره من الجنسين (ذكورا وإناثا)، الفارين عبر الحدود من ملاحقة الآلة العسكرية التركية التي لم تكن تتردد في إحراق الأخضر واليابس في شمال كردستان، وانتشروا في مختلف المناطق الكردية في سوريا ، كانتشار النار في الهشيم، وبدأوا يملأون الفراغ الذي شكلته الحركة الكردية السورية داخل المجتمع الكردي، بسبب كسلها وانشغالها بخلافاتها العقيمة، ليصبح فيما بعد هذا المجتمع الخزان الرئيسي لتغذية صفوف مقاتلي حزب العمال الكردستاني من الشباب الكرد الذين جذبتهم أصوات الرصاص وأزيزه، الأمر الذي شكل ردة فعل سلبية لدى معظم أحزاب الحركة الكردية في سوريا، ودفع العلاقة بين الجانبين إلى دائرة مغلقة من التوتر والخلافات العميقة التي استغلتها الأجهزة الأمنية وصبت الزيت على نيرانها، والتي خلفت الكثير من الأخطاء المؤسفة والحوادث المحزنة التي لا مجال للخوض فيها في مثل هذا اليوم.
أجل لنكف قليلا في هذه اللحظات التاريخية المؤثرة عن متابعة أخطاء هذه الحركة المسلحة والتي كانت قاتلة في بعض الأحيان بكل تأكيد، ولندع تقييمها للتاريخ وللباحثين والمختصين في هذا المجال، ولنضع بدلا من ذلك أيدينا على ضمائرنا ونستذكر بإنصاف الصفحات الناصعة التي سطرها هؤلاء الجنود المجهولون الذين زهدوا في حياتهم، وبنوا بدمائهم حركة عسكرية أرعبت الحكومات التركية وحطمت غرور آلتها العسكرية، ودفعت بقضية الشعب الكردي في شمال كردستان إلى صلب المعادلات السياسية الجارية في المنطقة، وأيقظت المجتمع الكردي من سباته العميق بأصوات أسلحتها المدوية في جبال كردستان ووديانها، وأنقذته من عمليات التتريك التي كادت أن تنال منه وتنسيه حتى لغته الأم، وكانت لهذه الحركة المسلحة السبق في إشراك المرأة الكردية في النضال ضد الديكتاتورية والإرهاب، والتي أذهلت الرأي العام العالمي ببطولاتها، وجذبت أنظاره نحو قضيتها القومية..
وهنا لا يسعنا إلا أن نقول وداعا للسلاح الذي أثبتت الأحداث الميدانية بأنه لم يعد الطريق الوحيد لحل القضايا القومية، وإنما الكفاح السياسي والدبلوماسي هو الذي بات الأهم في هذا الاتجاه، ولعل التطورات العاصفة والمتغيرات الجذرية التي تجتاح منطقة الشرق الأوسط وتدفعها نحو بناء نظام أمني جديد تثبت هذه الحقيقة، ولا شك بأن الإعلان عن هذه الخطوة ضمن حدود محافظة السليمانية إنما يعد وفاء لدور مام جلال الذي وضع حجر الأساس لخيار حل القضية الكردية في تركيا بالطرق السلمية والديمقراطية مطلع التسعينيات من القرن المنصرم، عندما نجح في الأعلان عن أول هدنة بين الطرفين المتصارعين، ولا شك أن روحه تحلق الآن حول النيران التي تلتهم تلك الأسلحة التي لم يمتشقها الكرد إلا دفاعا عن النفس.
إذا، فلنقف بإجلال أمام ذكرى عشرات الآلاف من الشهداء والمشوهين والسجناء والمفقودين من خيرة شاباتنا وشبابنا الذين ضحوا بزهرة شبابهم من أجل قضية آمنوا بعدالتها، ووضعوا أرواحهم على أكفهم وقارعوا الطورانية بكل عزيمة وشجاعة، طامحين إلى نيل الحرية والكرامة والانعتاق من نير الظلم والقهر والاستبداد.