*د.عادل عبدالمهدي
*افتتاحيات من ارشيف الكاتب (2011)
دستوريا وواقعيا العراق دولة اتحادية.. وعند كتابة الدستور(2005)، اصر “الائتلاف العراقي الموحد” على تضمينه مواد الاجراءات التنفيذية لتشكيل الاقاليم، انسجاما مع “المبادىء والسياسات” الخاصة به، والموقع عليها من اطرافه “السبعة” لتشكيل اقليم الوسط والجنوب. وهو ما دفع اطرافا اجنبية لممارسة الضغوطات والممانعات.. التي اسفرت عن حل وسط عناصره قبول “الائتلاف” بصياغة المادة (119) لتشكيل الاقاليم، وتأجيل الاجراءات الى قانون يصدر لاحقا.. بضمانات مكتوبة من الطالباني والبرزاني بتأييده في البرلمان.. وتعهد الاطراف الاجنبية –كتابة- بعدم الضغط.
وفي 2008 وافق البرلمان على “قانون الاجراءات التنفيذية بتكوين الاقاليم” رقم (13).
يخطىء من يعتقد ان المركزية هي التي حفظت وحدة العراق تاريخيا.. الذي لم يحكم بهذا النمط الا استثناءا، خصوصا في فترة الحكم الوطني.. وكلما فرضت الفردية والمركزية نفسها كلما عانت وحدة البلد واشتد التعسف بمكوناته وسكانه.. بخلافه حافظنا لقرون طويلة على تعايش ووحدة بلاد الرافدين عبر النظم الادارية غير المركزية كالامارات والولايات وغيرها، فاللامركزية والفيدرالية قاعدة.. والمركزية استثناء.
لدينا نقاشات طويلة في التوقيتات وخارطة الاقاليم. ففي (كانون الاول 2008/ كانون الثاني 2009) مارست البصرة حقها الدستوري بتكوين اقليم.. وفشلت المحاولة ديمقراطيا رغم النقاشات المتباينة.
وهناك اليوم مطالبات اخرى. وهذا امر جيد يجري في اطار وحدة العراق والاجراءات الدستورية. وان تفكير زعامات مهمة من الانبار ونينوى وغيرهما بالحلول اللامركزية والفيدرالية هو تطور مهم لتنظيم الادارة عندنا. وما حصل لجنوب السودان واليمن والبوليساريو يجب ان يدفعنا نحو الاتجاهات التي نظمها الدستور، لئلا تفرض علينا الفوضى والاستبداد والحلول الانفصالية.
يجب ان نستمع بجد لكلام السنة العرب عن الحيف والتهميش.. ولو استمعنا بجد لكلام الشيعة والكرد والتركمان والمسيحيين وغيرهم عندما قالوا الشيء نفسه، لما مررنا بما نمر به اليوم.. ولاشك ان تجربة كردستان الناجحة هي دليل على ان العراق لا يحكم بنظام احادي مركزي.. وعلى نجاح ادارة المناطق لنفسها فيما يتعلق بشؤونها غير السيادية.
بالمقابل فان تجارب المحافظات والمركز الفاشلة، هي ايضا دليل اضافي على ان المسألة هي ليست مجرد قضايا قومية او مذهبية.. بل هي ايضا اختيار النظام الاداري الناجح المناسب لطبيعة البلاد.. بعد ان برهنت تلك التجارب، ان سيطرة المركز ستكون على حساب المناطق.. وان ضعف الاخيرة سيقود للانقسام اولا.. ولاضعاف المركز وانهياره لاحقا.
سيأتي يوم نتسابق فيه لتشكيل الاقاليم
رغم معارضات ما زالت مؤثرة لكن دعوات تشكيل اقليم جديد تزداد زخما وحجما.. وهذا تطور كبير ومهم. فالحل الاتحادي قد يفرضه الواقع، قبل ان تروجه الكتابات. فدويلات المدن قبل الاسلام.. والولايات بعده كانت النمط السائد لادارة العراق. وسواء اتت الادارة من مركز خارجي او داخلي، لكنها كانت بالضد من مركزية نظام العراق المعاصر الذي ساعد عليه الانكليز بعد الحرب الاولى. وكما ينادى السجناء بارقامهم لتذويب شخصيتهم، صرنا نسمي ولاية البصرة الجنوب، وكردستان او ولاية الموصل الشمال.
مما اثار الخلايا السلبية للتعصب والتعصب المضاد.. مهددين ما بناه التاريخ من تعدديات وتعايش طبيعي لوحدة العراق لالاف السنين.. وان قيام منطقة الحكم الذاتي منذ 1971.. واعلان الاقليم بعد 2003.. وتبني قوى سياسية كثيرة الفيدرالية ورفع لوائها.. وازدياد المطالبين اليوم هو دليل على قوة الواقع.
فاللامركزية والولايات هي النظام الذي اسسه التاريخ وواقع الجغرافيا والحياة والسكان والذي به ارتقى وتوحد العراق، وليس العكس. فالمسألة لها ضغوطات من اسفل.. والمركزية لها ضغوطات من اعلى.. فرضتها قوة السلاح والقمع.. فاسقطتها النتائج، قبل ان يسقطها الدستور.
فالولايات (الاقاليم) لم تكن الخطوة الاولى للتقسيم.. بل الخطوات الحاسمة للوحدة. فبقي العراق، او وادي الرافدين، بشخصيته وحضارته ودوره كوطن تاتيه الهجرات، فيعيد تكييفها مع واقع الارض والانسان والقيم.. دون ان يقطعها عن اصولها (اقرب للنموذج الامريكي من الاوروبي)، مما منحه الغنى والتعددية والمركز الاقليمي/ العالمي.. يتماوج بها (ومعها) فوق حركة الخرائط والاحداث.. ليبقى العراق عراقا، يضم بابل واشور، كما يضم ولايتي البصرة والموصل، كمثال لاختلاف التلاوين في الاطار الجامع.. وتبقى مكوناته متدافعة متجاذبة، وبالتالي فاعلة فيما بينها ومع فضاءاتها…
هنا قوة العراق وضعفه.. قوته عند الانسجام مع واقعه ودوره التاريخي.. فيكون عاصمة الدنيا، او تأتيه الدنيا ليكون عاصمتها.. وضعفه عند تحجيمه الى رقم وسجين ومركز سلطة، يوحده القمع واضعاف الاخر واليد الخارجية، ليتحول الى بلد المشاكل، لاهله وجيرانه.
فتنافس جمع على كرسي واحد.. وعلى سلطة مختلة معادلاتها، يتعذر تقاسمها -كما يحصل اليوم- سيفرض على عقلاء ارض الشرائع والحضارة التقدم لتجربة ناجحة تكون لكل منا، كما تكون لنا جميعا.. وسياتي يوم نتسابق فيه لتشكيل الاقاليم.. ليتحد العراق من جديد مع نفسه وفضاءاته.. وليعود عاصمة الدنيا.
الفيدرالية ليست لعبة للتمترس.. بل لضمان الحقوق ووحدة البلاد
في مفاوضات الدستور اظهر الائتلاف (التحالف الشيعي) حماسا شديدا للفيدرالية.. لكن “التوافق” (السنة العرب) اعترض واعتبرها بداية للتقسيم. مورست ضغوط امريكية وبريطانية لالغاء المواد المتعلقة بتشكيل الاقاليم.. اطراف “الائتلاف”، اي المجلس، وبدر، والدعوة بجناحيها، والفضيلة، ومستقلون تمسكوا بالمواد، بعد ان وقعوا جميعا وثيقة “مبادىء وسياسات” الائتلاف المتضمنة اقامة اقليم الوسط والجنوب، مع تحفظ “الصدريين” مهمشين “بعد انهاء الاحتلال”..
لعب “خليل زاده” دورا مكوكيا واقترح مع السفير البريطاني حذف المواد من الدستور مقابل تعهد مكتوب بعدم تدخل البلدين لمنع البرلمان اصدار القانون.. والذي تعهد الطالباني والبرزاني بتأييده كتابة.. وان ينص الدستور على استثناء القانون من موافقة “مجلس الرئاسة” وحق الفيتو (المادة 134/خامسا/أ).. وتم تسلم التعهدات اعلاه، واقر قانون الاجراءات التنفيذية لتشكيل الاقاليم في الجلسات الاولى للبرلمان.
واجهت اطروحة اقليم الوسط والجنوب هجوما قاسيا حتى ممن ايدوها سابقا من “الائتلاف”.. لهذا ربط البعض بين تراجع شعبية “المجلس” في انتخابات المحافظات والمطالبة بالاقليم…. ومع ازدياد تركز الحكم بيد جهة واحدة، نظمت “الفضيلة” استفتاء لتحويل البصرة الى اقليم.. وبدأت المحافظات الجنوبية والوسطى والغربية ونينوى بمطالبات مشابهة.. واخيرا، وامام حملة قوى “اربيل والنجف” بسحب الثقة، دعا محافظو “دولة القانون” لاقامة اقليم الوسط والجنوب.
في سبعينات القرن الفائت، اقرت بغداد الحكم الذاتي لكردستان.. الذي بدا كارتونيا انذاك.. لكن الفكرة يغذيها الواقع او يرفضها. وان استمرارها وتطورها يؤكد مع الاعترافات والمطالبات الجماعية اعلاه، ان الفيدرالية حل ونظام للحماية وتوزيع السلطات والقدرات والفك بين المشاحنات. فالمشكلة العراقية في جوهرها هي الدولة التي تتمركز سلطاتها وصلاحياتها وامكانياتها بيد واحدة.. مسببة الانفجارات المتلاحقة والشكوك.
المركز يدين ويتهم.. والاطراف –بغياب الفيدرالية المتكاملة- تسعى لحماية نفسها باجراءات صحيحة او متطرفة.
فالفيدرالية واقع سيفرض نفسه.. ولانها كذلك فلابد من تنظيمها بدل تركها للاهواء والظروف.. اما المناورة بها واستخدامها عند الحاجة، فسيزرع الشك والارتباك بقدرتها كنظام يخرجنا من التقسيم الواقعي واحتكار السلطة.. فهي ملائمة تماما لحسن ادارة البلاد، ويمكنها ان تستبطن حلولا للمشاكل القومية والمذهبية وغيرهما… خلاف المخاوف التي لا تصنع نظاما.. او تبرير منطق احتكار السلطة الذي قدمنا اغلى التضحيات للتخلص منه. والازمة الحالية بعض افرازات غياب الفيدرالية كنظام متكامل، نؤكد كنظام متكامل.