×


  بحوث و دراسات

  طريق ترامب الأوراسي.. لوحة إقليمية جديدة في طور التشكل



*محمد سيد رصاص

*المركز الكردي للدراسات

خلال أربعة أيام حصلت تطورات ملفتة في بيروت (5 آب/ أغسطس) باتخاذ الحكومة اللبنانية قرارا بحصر السلاح بيد الجيش اللبناني على كامل الأراضي اللبنانية في سقف زمني لا يتجاوز نهاية العام.

وفي فجر يوم الجمعة 8 آب/ أغسطس أخذت الحكومة الإسرائيلية قرارا بـ “فرض السيطرة على مدينة غزة والمخيمات المحيطة بها” وهو ما تجنبته تل أبيب منذ بدء الحرب على حركة حماس عقب هجوم 7 أكتوبر 2023.

ثم في مساء يوم الجمعة بتوقيت واشنطن عقدت اتفاقية في البيت الأبيض وبرعاية الرئيس دونالد ترامب لإنهاء الصراع المنتج لثلاثة حروب والبادئ منذ التسعينيات بين جمهوريتي أذربيجان وأرمينيا، ومن أجل بدء التطبيع بينهما بعد الاعتراف “بتكامل أراضي البلدين”، وإنشاء “طريق ترامب للازدهار والسلام الدوليين”، لمرور السلع والأشخاص بلا قيود، الذي يصل بين أذربيجان وجيب نختشوان الذي يفصله 32 كم من الأراضي الأرمنية عن أراضي أذربيجان وهو ملاصق حدوديا لتركيا، على أن تكون هناك رخصة إيجار للطريق يأخذه “كونسرتيوم” من الشركات الأميركية لتسعةٍ وتسعين عاما وتكون فيه أتوتسترادات وسكك حديد وأنابيب نفط وغاز (صحيفة الغارديان: “إيران وروسيا تخسران من صفقة أميركية مع أذربيجان وأرمينيا”، 9 آب2025).

في الحالات الثلاث المذكورة هناك عنوان رئيسي هو (ملء فراغ القوة الإيرانية)، بعد هزيمة ذراعي إيران في لبنان وغزة ثم هزيمة إيران في حرب حزيران/ يونيو 2025، من خلال نزع سلاح حزب الله بلبنان، وإكمال عملية القضاء على القوتين العسكرية والسلطوية لحماس، ثم إنشاء حاجز جغرافي أميركي بين إيران ومنطقة جنوب القفقاس يفصل طهران عن أرمينيا صديقتها الوحيدة بالمنطقة، إضافة للحليف الأذربيجاني للأميركيين الذي يؤرق بعلاقاته مع أميركا وإسرائيل وتركيا حكام طهران ويشكل حاجزا جغرافيا بين روسيا وإيران.

ولكن في أول نجاح لترامب بإنهاء الحروب، وليس إيقافها كما في الهند وباكستان مؤخرا، هناك ما هو أبعد من الضربة لإيران، حيث ما خاف منه رئيس الوزراء الأرميني نيكول باشينيان هو أن يكون إغلاقا لباب علاقات يريفان مع الغرب الأميركي – الأوروبي (عندما تردد ولم يقبل  بجعل القوات الروسية حافظة لأمن الكوريدور، الذي كان اسمه: زانكيزور، كحل وسط عرضه بوتين بين باكو ويريفان منذ إيقاف حرب 2020 وأيضا هو حلّ كان مرضيا لإيران) قد تم تجاوزه في اتفاق واشنطن، عندما ابتعدت أرمينيا من خلال ما جرى في البيت الأبيض عن حلف مع الكرملين، بدأ منذ استقلالها مع تفكك الاتحاد السوفياتي عام1991، وانتقلت للمدار الأميركي. أيضا في هذا النجاح الترامبي هناك بدء سيطرة أميركية على الطريق الأوراسي الذي يصل بين الصين والقارة الأوروبية، والذي كان قبل الحرب الأوكرانية يمر عبر روسيا – أوكرانيا، ثم اتجه لاستعمال (الكوريدور الوسيط) بعد الحرب الأوكرانية عام 2022 بطريق يمتد من الصين إلى  الساحل الكازاخستاني على بحر قزوين ثم بعبّارات تحمل قطارات وشاحنات للساحل الأذربيجاني ومن هناك عبر جيورجيا وتركيا، حيث يراد لهذا الكوريدور الوسيط أن يمر الآن  عبر (طريق ترامب) إلى تركيا ومن ثم إلى أوروبا.

وهذا الكوريدور الوسيط هو أقصر من الطريق الصيني – الروسي الحدودي بألفي كيلومتر، والأخير لم يعد ممكنا استمراره بعد الحرب الأوكرانية، وزادت أهمية (الكوريدور الوسيط) للصين بعد اضطراب طريق البحر الأحمر بعد هجمات الحوثيين على السفن بالشهر التالي لـ 7 أكتوبر، بالإضافة لكونه أسرع من الطريق البحري وأقل تكلفة وأكثر أمانا.

الآن وبعد اتفاقية 8/8/2025 أصبحت واشنطن متحكمة بهذا الطريق الأوراسي، ويبدو أن من هندس هذه الاتفاقية مقتنع بما قاله زبغنيو بريجنسكي عام 1997بأن “أوراسيا هي رقعة الشطرنج التي تدور عليها المعركة المستمرة من أجل الحصول على الزعامة السياسية العالمية.. أوراسيا هي مركز العالم وأن من يسيطر على أوراسيا يسيطر على العالم.. ولكن من المهم في الوقت نفسه أن لا يظهر أي متحدّ أوراسي قادر على السيطرة على أوراسيا وبالتالي يكون قادرا على تحدي الولايات المتحدة” (“رقعة الشطرنج الكبرى”، الأهلية للنشر والتوزيع، الأردن، عمان، 1999، ص12-13).

واشنطن بهذه الاتفاقية، وبعد أن مات الطريق الأوراسي القديم الصيني – الروسي إثر نشوب الحرب الأوكرانية، أصبحت متحكمة بطريق الصين إلى أوروبا، وحاجزة  لروسيا عن إيران، وماحية للطريق الذي كان لمشروع (الحزام والطريق) الصيني عام2013 عبر باكستان – إيران – تركيا – أوروبا، إضافة للطريق الصيني – الروسي – الأوكراني – الأوروبي. و يجب هنا التفكير كثيرا في السردية الروسية التي تقول بأن واشنطن هي التي افتعلت اضطراب أوكرانيا بعام 2014، وذلك بعد سنة واحدة من طرح الصين لمشروع (الحزام والطريق).

 و يجب من ثم التفكير بربط (الحزام والطريق) بالإصرار الأميركي على سد الطريق الشرق أوسطي لهذا المشروع الصيني عبر الحاجز الإيراني من خلال اتفاق أوباما – خامنئي عام 2015 حول الملف النووي الإيراني. ثم التفكير بما ظهر أنه حصيلة صفرية لخطط أوباما مع خامنئي، لما حدث العكس عندما تبلور التقارب الإيراني مع روسيا والصين في فترة 2018-2023، كما ازداد التقارب بين موسكو وبكين بفترة قبيل وما بعد حرب 2022 الأوكرانية.

إذا فككنا كود اتفاقية واشنطن الأذربيجانية – الأرمينية فهي من خلال (طريق ترامب)، الذي لا يتجاوز طوله الـ 32 كيلومترا، يوصل بريا العالم التركي الذي “يمتد من بحر إيجة إلى تركستان الصينية” وفق تعبير الرئيس التركي توركوت أوزال عام 1993، والذي يتوافق مع رؤية الطورانيين القوميين الأتراك. وليس صدفة أن من بادر في خريف 2024، ومع بدء ملامح غروب القوة الإقليمية الإيرانية، نحو إنشاء “تركيا الجديدة” هو زعيم حزب الحركة القومية ذات الاتجاه الطوراني في مبادرة نحو زعيم حزب العمال الكردستاني عبدالله أوجلان ، وبرضا أردوغان.

ثم رأينا التعاون الأميركي مع تركيا في إسقاط بشار الأسد، في ضربة مزدوجة لإيران وروسيا. ثم نرى الآن تعاونا أميركيا – تركيا على قيام العالم التركي من خلال تجاوز تجزؤه عبر وصله بـ (طريق ترامب). والأرجح، ولهذا السبب، هناك إلحاح أميركي على تسوية بين أردوغان – بهجلي – أوجلان، وأيضا اتفاقية موازية بين قسد والسلطة السورية الجديدة، فالعالم التركي عند الأميركيين، الضروري عندهم ضد الصين وروسيا وإيران، لا يتم من دون حل القضية الكردية في تركيا، وفي جوارها السوري، ومن دون قيام تركيا الجديدة.

ولكن هذه المكانة الجغرا – سياسية للعالم التركي ستقود لمكانة مركزية لتركيا الجديدة في لوحة الإقليم الشرق أوسطي، وعلى الأرجح أن الصراع الإسرائيلي – التركي، وأيضا السعودي – التركي، على (وفي) سوريا ما بعد 8 كانون الأول 2024، يهدفان عند تل أبيب والرياض إلى الحد من القوة التركية المتنامية بفعل الرعاية الأميركية للسياسة التركية في القفقاس وآسيا الوسطى، وإلى حد كبير بفعل تفاهمات ترامب – أردوغان تجاه سوريا ما بعد بشار الأسد، وهو ما أنشأ تقاربا أميركيا – تركيا كان غائبا منذ عام 2013، والأغلب أن واشنطن ستأخذ بعين الاعتبار مصالح حلفائها الثلاثة في أنقرة وتل أبيب والرياض في سوريا الجديدة، ويمكن أن يكون الاهتمام الإسرائيلي المستجد بالجنوب السوري ناتجا عن ميول أميركية – تركية لأن يمر مشروع (الكوريدور الهندي) عبر الطريق السوري – التركي إلى أوروبا، بدلا من أن يكون، كما كان عند توقيعه عام 2023 وقبيل شهر من يوم 7 أكتوبر، مارا بحريا بين الساحلين الهندي والعماني، ومن هناك عبر الإمارات والسعودية والأردن نحو الساحل الإسرائيلي، ومن هناك تمر تحت البحر أنابيب النفط والغاز، وأيضا بالسفن من حيفا نحو أوروبا تنقل البضائع الآتية بنفس الطريق العماني ـ الإماراتي ـ السعودي ـ الأردني ـ الإسرائيلي عبر الأتوسترادات والسكك الحديد، والعكس.

 

كتكثيف: نلاحظ الآن كيف سيكون بوتين ضعيفا أمام ترامب في قمة ولاية ألاسكا القادمة بعد ضربة 8 كانون الأول 2024 السورية للروس وضربة 8/8/2025 الأميركية للروس عبر الاتفاقية الأذربيجانية – الأرمينية. أيضا، إن وضع خامنئي الآن، مع خساراته المتوالية في غزة ولبنان وجنوب القفقاس وتلك المتوقعة في العراق واليمن، يشبه حالة الخسارات الإقليمية للرئيس المصري جمال عبدالناصر بعد هزيمة حزيران 1967عندما سقط  حليفه عبد الله السلال في صنعاء ولم يستطع حليفه في عدن عبدالله الأصنج أن يخلف البريطانيين في ما بعد انسحابهم من الجنوب اليمني، فيما تولى ذلك الماركسيون في الفرع المحلي لحركة القوميين العرب، ثم سقط عام 1968 حليفه العراقي عبدالرحمن عارف وأتى منافسوه البعثيون.

*متخصص في الشؤون السياسية المحلية والإقليمية والدولية


14/08/2025