×

  تركيا و الملف الکردي

  العلاقات التركية-الأمريكية.. فرص التقارب وتحدياته ومكاسب متبادلة



*الباحث كرم سعيد

مركز تريندز للبحوث والاستشارات الستراتيجية

أسهم إعلان إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن، في 5 إبريل ، موافقتها بيع مقاتلات “16F” لتركيا؛ في تحول العلاقات بين الولايات المتحدة الأمريكية وتركيا، الشركاء الاستراتيجيين في حلف الناتو، بعد أن شهدت العلاقات بينهما جملة من التوترات خلال السنوات الماضية على خلفية شراء أنقرة منظومة الدفاع الصاروخي الروسية (إس-400)، وإخراج واشنطن للأخيرة من برنامج المقاتلة الأمريكية “F35″، والدعم الأمريكي لوحدات حماية الشعب الكردية في شمال شرق سوريا، التي تعتبرها تركيا تنظيماً إرهابياً. وقد ترجم ذلك التحول في مساعي إدارة بايدن لإقناع الكونجرس بأن حيازة تركيا “16F” سيكون متماشياً مع مصالح الأمن القومي الأمريكي وسيخدم أيضاً وحدة حلف شمال الأطلسي “الناتو” على المدى الطويل.

هذه الخطوة لم تكن الأولى من نوعها لكسر حدة التوتر بين البلدين، فقد سبقها، تأكيد تركيا استمرار تعزيزها التعاون العسكري مع واشنطن. كما أعلنت أنقرة وواشنطن في 4 إبريل 2022 تأسيس آلية استراتيجية، لتعزيز التعاون في مجالات مثل الاقتصاد والدفاع، وفقاً للتفاهم الذي تم التوصل إليه خلال الاجتماع بين الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ونظيره الأمريكي جو بايدن على هامش قمة مجموعة العشرين في روما في 31 أكتوبر الماضي، حيث أعربا عن رغبتهما المشتركة في تعزيز العلاقات الثنائية.

 وتسمح تلك الآلية، وفقاً لوكيلة وزارة الخارجية الأمريكية فيكتوريا نولاند، لمسؤولي البلدين بالتباحث في جميع القضايا الثنائية، من التجارة إلى حقوق الإنسان والمجتمع المدني، وكذلك مناقشة القضايا الإقليمية من سوريا إلى أوكرانيا.

في هذا السياق تسعى هذه الدراسة إلى الوقوف على التحول الذي تشهده السياسة الإقليمية والدولية لتركيا في الآونة الأخيرة، من محاولات إصلاح العلاقة مع أوروبا، وصولاً إلى الانفتاح والتفاهم مع محيطها الإقليمي، وهي مؤشرات توحي بأن هذا المسار سينسحب على العلاقات التركية-الأمريكية. كما أن التداعيات التي خلفتها الحرب الروسية-الأوكرانية، أسهمت في دفع العلاقات بين أنقرة وواشنطن قدماً، خاصة أن الموقف التركي تجاه الأزمة بدا متماهياً مع الرؤية الأمريكية، وهو الأمر الذي يكرس مساحات التقارب بين البلدين. كما تتطرق الدراسة إلى تأثير الملفات الخلافية على مستقبل العلاقة بين البلدين، غير أن التطورات الإقليمية والدولية المغايرة، وتصاعد حدة الأزمة الأوكرانية قد تدفع البلدين إلى قطع شوط على صعيد تسوية الملفات العالقة بينهما.

 

 

أولاً: السياقات التسع المحفزة للعلاقات بين البلدين

يأتي التقارب التركي-الأمريكي في هذا التوقيت اللافت وسط ظروف إقليمية ودولية مغايرة، ويتزامن أيضاً مع رغبة أمريكية في احتواء القضايا الخلافية مع أنقرة. ويمكن استعراض ملامح ذلك من خلال ما يلي:

 

1-موافقة إدارة بايدن على منح تركيا “F16“:

 تبذل إدارة بايدن جهوداً حثيثة لتمرير صفقة بيع مقاتلات “16F” لتركيا برغم الخلافات المحتدمة بين البلدين، في محاولة لمكافأة تركيا عن جهودها في الأزمة الأوكرانية، وفي إطار محاولة خفض سقف التوتر بينهما. وأبلغت إدارة بايدن في 5 إبريل 2022 الكونجرس عزمها بيع مقاتلات لتركيا. وتعتقد الإدارة الأمريكية أن البيع المحتمل لهذا النوع من المقاتلات إلى تركيا سيكون متماشياً مع مصالح الأمن القومي الأمريكي، ويخدم “الناتو” على المدى الطويل.

وبرغم أن رسالة إدارة بايدن للكونجرس لا تقدم أي ضمان أو جدول زمني لتوريد مقاتلات “F16” لتركيا؛ فإنها تشير في جوهرها إلى أن ثمة توجه أمريكي مغاير نحو إعادة النظر في الإجراءات العقابية التي اتخذتها واشنطن ضد أنقرة بعد حصولها على منظومة الدفاع الروسية “400S”.

 

 

2- تثمين واشنطن الوساطة التركية في الأزمة الأوكرانية:

وفرت الأزمة الأوكرانية فرصة ثمينة لتحقيق اختراق في القضايا الخلافية بين واشنطن وأنقرة خاصةً بعد تسجيل الثانية، في 28 فبراير 2022، موقفاً نادراً، بمنع السفن الحربية للدول المشاطئة وغير مشاطئة للبحر الأسود من عبور مضيقَي البوسفور والدردنيل، إضافةً إلى إدانة أنقرة، في 26 فبراير 2022، الهجومَ الروسي على أوكرانيا، وَوَصْفِهِ بأنه “حالة حرب”. ويضاف إلى ذلك إعلان أنقرة، في 22 فبراير 2022، معارضتها لاعتراف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين باستقلال منطقتي دونيتسك ولوجانسك شرق أوكرانيا، ناهيك عن الاستمرار في التزام توريد المُسيَّرات التركية للحكومة الأوكرانية، وفقاً للعقود المبرمة بينهما، وهي جميعها خطوات نظرت إليها الإدارة الأمريكية بإيجابية، وفتحت الباب أمام إمكانية التوصل إلى حلول فاعلة بشأن الملفات الخلافية بين أنقرة وواشنطن.

في المقابل، اتجهت أنقرة إلى تعزيز وساطتها بين موسكو وكييف، وممارسة ضغوط متباينة على الرئيس الروسي بوتين؛ بهدف وقف الصراع العسكري بين روسيا وأوكرانيا. ويتسق هذا الدور مع السياسة الخارجية الأمريكية القائمة في الأساس على إنهاء التدخل الروسي في أوكرانيا، وفي الملفات الإقليمية المختلفة؛ بهدف محاصرة النفوذ الروسي. كما أنه بفعل الأزمة الأوكرانية، والتحديات السياسية والعسكرية والاقتصادية التي أفرزتها الحرب، فضلت معظم دول الناتو والاتحاد الأوروبي تحييد خلافاتها مع تركيا والتركيز على التعاون مع أنقرة لمواجهة هذه التحديات، وتأكيد مكانة تركيا الجيوسياسية والاستراتيجية في الناتو إلى جانب محوريتها في خطة أوروبا لإيجاد بدائل للغاز الروسي عبر مد خط لنقل غاز شرق المتوسط لأوروبا مروراً بالأراضي التركية.

 

3- استمرار رغبة أنقرة في تعزيز التعاون الدفاعي:

 وقعت إدارة بايدن في 27 ديسمبر 2021 مشروع قانون للدفاع يسمح للحكومة الأمريكية بتتبع الآثار المترتبة على الأمن القومي الأمريكي وتقييمها فيما يتعلق بتوسّع برنامج الطائرات المسيَّرة في تركيا. كما عارضت واشنطن إدخال تركيا لمنظومة إس-400 الخدمة الفعلية.

وبرغم ذلك أبدت تركيا حرصاً لافتاً على تعزيز تعاونها الدفاعي مع الولايات المتحدة، فعلى سبيل المثال أكدت تركيا أنها منفتحة ومستعدة لاقتناء منظومة باتريوت الدفاعية الأمريكية إلى جانب منظومة إس-400 الروسية في سياق سعيها إلى تحقيق تنوع مهم في أنظمتها الدفاعية. كما أعلن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، في 24 مارس 2022، تقدم محادثات بلاده مع واشنطن بشأن بحث إمكانية بيع الإدارة الأمريكية إلى تركيا طائرات إف-16 الحربية مقابل الأموال التي دفعتها تركيا في إطار برنامج طائرات إف-35، وأضاف في تصريحات له: “إن وزير الدفاع خلوصي أكار، يُجري محادثات مع الجانب الأمريكي بخصوص شراء وتحديث مقاتلات من طراز (F–16)، وإن المحادثات تشهد مرحلة إيجابية”، وتابع: “قال لي الرئيس الأمريكي بايدن: سأعرض مقاربتي الإيجابية على الكونجرس بشأن هذا الموضوع وسأتابعه”.

 

4-كثافة الاتصالات بين مسؤولي البلدين:

تشهد الفترة الراهنة كثافة في التواصل بين أنقرة وواشنطن، وزادت وتيرة الاتصالات، والمحادثات بين مسؤولي البلدين بعد تصاعد حدة الأزمة الأوكرانية، فقد هاتف الرئيس الأمريكي جو بايدن نظيره التركي في 10 مارس الماضي، إلى جانب زيارة نائبة وزير الخارجية الأمريكي “ويندي شيرمان” لأنقرة لبحث سبل التعامل مع الأزمة الأوكرانية، وتعزيز صلابة التحالف الغربي الذي تقوده واشنطن ضد التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا. كما اتفق البلدان على اتخاذ خطوات ملموسة لتنفيذ آلية الحوار الاستراتيجي المشترك، وكشف عن ذلك تصريحات “فيكتوريا نولاند” نائبة وزير الخارجية الأمريكي، التي قالت عشية زيارتها لتركيا، واجتماعها مع مسؤولي وزارة الخارجية والرئاسة التركية، في 4 إبريل 2022، بأن “هناك طاقة جديدة في العلاقات”.

بالتوازي مع ما سبق، زارت وفود اقتصادية تركية، في 14 مارس 2022، العاصمة الأمريكية وعدداً من الولايات الرئيسية، في إطار فعاليات “الدبلوماسية التجارية” بين أنقرة وواشنطن، التي تستهدف الوصول بحجم المبادلات التجارية بين البلدين إلى 100 مليار دولار.

 

5- تعيين سفير أمريكي جديد:

تزامنت جهود تحسين العلاقات بين أنقرة وواشنطن، مع تعيين الثانية سفيراً جديداً لها لدي تركيا، حيث صادق مجلس الشيوخ الأمريكي في 27 أكتوبر 2021 على تعيين “جيف فليك” سفيراً للولايات المتحدة لدى تركيا بعد أن رشحه الرئيس الأمريكي جو بايدن. وتشير العديد من التقديرات إلى أن تعيين جيف فليك السيناتور الجمهوري المعتدل خطوة على طريق معالجة الملفات الخلافية بين أنقرة وواشنطن، فقد أطلق عشية تعيينه تصريحات قال فيها أنه سيحاول إظهار التوازن بين الحاجة إلى تركيا وبين الرغبة في تصويب سياسات حكومتها.

 

6- تنامي الاستثمارات الأمريكية في السوق التركية:

 أبدت العديد من الشركات الأمريكية التي خرجت من السوق الروسية عقب العقوبات الغربية على موسكو؛ بسبب تدخلها العسكري في أوكرانيا اهتماماً لافتاً بالانتقال نحو السوق التركي، وكشف عن ذلك زيارة مساعد رئيس الغرفة التجارية الأمريكية “ميرون بريليانت” لتركيا في مارس الماضي بصحبة رجال أعمال أمريكيين لإجراء لقاءات ومباحثات مع المسؤولين الأتراك لبحث التسهيلات التي يمكن أن تمنحها تركيا للشركات الأمريكية التي تستعد للخروج من السوق الروسية والانتقال للسوق التركية. كما أن السفير الأمريكي في أنقرة “جيف فليك” طلب من أكثر من 1100 شركة أمريكية غادرت السوق الروسية، بحث فرص نقل مشاريعها إلى تركيا بالنظر إلى جودة  الفرص الاستثمارية وأسعار الطاقة وأسعار النقل الدولية والقوى العاملة. يشار إلى أن الاستثمارات الأمريكية تمثل  أولوية مهمة للاقتصاد التركي؛ فقد بلغ صافي تدفق رأس المال إلى تركيا 174 مليار دولار بنهاية عام 2021، منها 14 ملياراً لشركات أمريكية؛ أي ما يعادل 8.1% من إجمالي الاستثمارات، وهو ما يجعل الولايات المتحدة صاحبة ثاني أكبر استثمارات خارجية في تركيا بعد هولندا التي تحتل المرتبة الأولى بقرابة 27 مليار دولار، كما بلغ عدد الشركات الأجنبية العاملة في تركيا مع نهاية عام 2021 نحو 77 ألف شركة، منها 2030 شركة أمريكية.

 

7- تجميد “إيست ميد”:

صعّدت الولايات المتحدة من ضغوطها على مشروع “أيست ميد” لنقل الغاز الإسرائيلي إلى أوروبا عبر أنبوب يبدأ من سواحل إسرائيل مروراً بقبرص ثم جزيرة كريت اليونانية. وأعلنت إدارة الرئيس جو بايدن في 10 يناير 2022 أنها لن تدعم المشروع سياسياً ومالياً، بالتوازي مع تأكيدها أنه بخلاف العوامل الاقتصادية والتجارية، فإن مشروع خط الأنابيب يعتبر مصدر توتر في شرق المتوسط. وبحسب مراقبين، فإن التحفظات الأمريكية على المشروع تمثل فرصة كبيرة لتركيا لاستعادة حضورها، وتعظيم نفوذها، وإعادة صياغة خريطة التحالفات في صراع شرق المتوسط لمصلحتها. كما يُشار في هذا الصدد إلى دعوة الولايات المتحدة إلى ضرورة إعطاء أولوية لربط شبكات الكهرباء بين دول شرق المتوسط بما فيها تركيا.

 

8- التقارب التركي-الإسرائيلي:

 وفر التقارب التركي-الإسرائيلي في الفترة الأخيرة، فرصة ثمينة لتحسين العلاقات التركية-الأمريكية، وظهر ذلك في ترحيب السفارة الأمريكية لدى تركيا بزيارة الرئيس الإسرائيلي لتركيا في 9 مارس الماضي، والتي كانت الأولى من نوعها منذ نحو 18 عاماً. وقالت السفارة في تغريدة لها على “تويتر”: “سعداء باللقاء الأخير بين أردوغان وهرتسوغ. إن تحسين العلاقات بين إسرائيل وتركيا يخدم مصلحة البلدين والشعبين”. وبحسب مراقبين، فإن إصلاح العلاقة مع إسرائيل منح تركيا مدخلاً إضافياً لاستعادة حضورها، وتعظيم نفوذها لدى واشنطن.

 

9- اتفاق وجهات النظر داخل تركيا للتقارب مع واشنطن:

 كشفت توجهات المعارضة التركية، وقطاع معتبر داخل حزب العدالة والتنمية على رفض السياسة التي يتبعها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إزاء الولايات المتحدة، حيث يفتقر الرئيس وحزبه إلى رؤية مستنيرة للقفز على الملفات الخلافية مع واشنطن، والإصرار على توظيف التوتر مع واشنطن لتعزيز حضور الرئيس أردوغان وسط القواعد التقليدية المحافظة في الداخل التركي. وقد مزجت مقاربة الداخل التركي بشأن العلاقة مع واشنطن بين انتقادات لسياسات الرئيس أردوغان، وفي الوقت ذاته تأكيد محورية أنقرة في الاستراتيجية الأمريكية، ومن ثم أهمية ضرورة حل الخلافات العالقة، واتخاذ خطوات جدية للتوصل إلى صيغ توافقية حيال القضايا الخلافية بين البلدين.

في هذا السياق، ومع اقتراب الاستحقاق الانتخابي في منتصف 2023 يسعى الرئيس التركي إلى تحييد ضغوط معارضيه في ملف العلاقات التركية-الأمريكية من خلال أخذ زمام المبادرة لإصلاح العلاقة مع واشنطن، والتحايل على الانتقادات التي يوجهها الخصوم لإدارة ملف السياسة الخارجية التركية، وبخاصة مع القوى الدولية، وفي الصدارة منها واشنطن.

 

ثانياً، تحديات ضاغطة لمسار العلاقات بين البلدين:

تتواصل جهود أنقرة وواشنطن منذ تصاعد حدة الأزمة في أوكرانيا لتعزيز التفاهمات السياسية والتعاون المشتركة في عدد واسع من المجالات؛ إلا أن ثمة تحديات تقف حجر عثرة في مسار العلاقة بين البلدين، يمكن بيانها على النحو التالي:

 

(1) تصاعد ضغوط الكونجرس للتشدد ضد تركيا:

 تصاعدت دعوات المجالس التشريعية الأمريكية، وبخاصة الكونجرس لإدارة بايدن إلى تبني نهج أكثر تشدداً تجاه تركيا. وعلى سبيل المثال، أكد رئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ الأمريكي السيناتور “بوب مينينديز” في فبراير الماضي، أن بلاده ستواصل الجهود في محاربة التراجع الديمقراطي في تركيا.

لم تقتصر مواقف الكونجرس ضد تركيا على ما سبق، فقد طالب في وقت سابق عدد واسع من النواب الأمريكيين بضرورة تدخل الإدارة الأمريكية لمراقبة ومحاصرة برامج تركيا العسكرية، وبخاصة الطائرات المسيَّرة، حيث أبدى 27 نائباً من أعضاء الكونجرس في أغسطس 2021، مخاوفهم من برنامج الطائرات المسيَّرة التركية، وطالب الأعضاء وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن بتعليق تصاريح التصدير العسكري لتركيا إلى حين التأكد من أن برنامج الطائرات المسيَّرة التركية خالي من أي تكنولوجيا أمريكية. وفي سياق مواز، قدم رئيس لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ الأمريكي “بوب منينديز” في نوفمبر 2021، مشروع قانون من أجل مراقبة برنامج المسيَّرات التركية المسلحة عن كثب.

 

(2) معارضة صفقةS-400 :

 برغم الجهود الإيجابية التي انعكست على حالة التقارب بين أنقرة وواشنطن؛ فإن استمرار رفض المشرِّعين الأمريكيين بيع أسلحة أمريكية إلى تركيا، يمثل تحدياً للعلاقة بين البلدين، حيث يعارض عدد واسع من أعضاء الكونجرس إتمام صفقات التسليح مع تركيا طالما لم تتخلَ عن منظومة الدفاع الروسية إس-400. كما يعتقد الكونجرس أن أية موافقة على صفقات تسليحية مع أنقرة تتعارض مع مصالح واشنطن الأمنية والسياسية، بالنظر إلى توجه تركيا شرقاً، وتوثيق علاقاتها مع موسكو وبكين. ويمكن فهم إرسال 11 عضواً بمجلس النواب الأمريكي، في 25 أكتوبر 2021، رسالة إلى إدارة بايدن أعربوا فيها عن “شعورهم بالقلق العميق” بشأن شراء تركيا 40 طائرة من طراز F16  وتحديث 80 طائرة أخرى، لاسيَّما وأن تركيا تتصرف كخصم للولايات المتحدة الأمريكية بشرائها منظومة S-400 الروسية..

 

(3) دعم واشنطن الهياكل الكردية:

 تعتبر تركيا حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي السوري امتدادًا لمنظمة العمال الكردستانية التي تصنفها تركيا كياناً “إرهابيَّاً”، لكن ثمة مواقف مغايرة للرئيس الأمريكي جو بايدن، والذي يُصنف على أنّه من أكثر السياسيين الأمريكيين الداعمين للقضية الكردية. وتجلت مظاهر الدعم في خطابه الشهير عام 2002 في برلمان كردستان العراق خلال زيارته للإقليم، فقد عبر من خلاله عن تعاطفه مع القضية الكردية وتعهد بدعمه لها، ووصف كردستان العراق ببولندا الشرق الأوسط. ثم قال للشعب الكردي: “لن تكون الجبال صديقتكم الوحيدة”.

إضافة إلى ذلك كان لــ”بايدن” مواقف متعاطفة مع الكرد في سوريا، حيث عارض العمليات العسكرية التي أطلقتها تركيا ضد وحدات حماية الشعب الكردية في أغسطس 2016 ويناير 2018. كما وصف بايدن في وقت سابق قرار الرئيس السابق “ترامب” بسحب القوات الأمريكية من سوريا قبيل عملية “نبع السلام” التي أطلقتها تركيا في أكتوبر 2019 بأنّه خيانة للكرد، ولقوات سوريا الديمقراطية، التي يشكل الكرد الأغلبية العظمى فيها. بل إنّه رفض وصف تركيا للقوات الكردية في سوريا بالجماعة الإرهابية، واعتبرها قوات صديقة أسهمت مع التحالف الدولي في القضاء على تنظيم “داعش” في مدينة الرقة السورية. في هذا السياق، فإن الملف الكردي لا يزال أحد القضايا الخلافية بين أنقرة وواشنطن، فبينما تدعم الثانية إقامة “حكم ذاتي” للوحدات الكردية شمال سوريا، تعارض الأولى الكيانات الكردية وتصنفها بالإرهابية.

 

(4) انتقاد السياسات الداخلية:

خلافًا لـ”ترامب” الذي أبدى إعجابه بالرئيس التركي “أردوغان” الذي كان يصفه بأنه “صديق”، فقد وبَّخ “بايدن” الممارسات السلطوية للرئيس “أردوغان” في الداخل التركي، وانتقد سعيه لتأميم المجال العام وتقييد الحريات. وفي المقابل وجه تقرير حقوق الإنسان السنوي الصادر في إبريل الجاري عن الخارجية الأمريكية لعام 2021 انتقادات لاذعة لأوضاع حقوق الإنسان في الداخل التركي. وبحسب التقرير، فإن الحكومة التركية بموجب قانون “مكافحة الإرهاب” الذي دخل حيز التنفيذ في العام 2018، واصلت تقييد الحريات الأساسية، وعرّضت سيادة القانون للخطر، بعد إقدامها منذ محاولة الانقلاب في عام 2016 على عمليات الطرد والفصل الجماعية. كما أشارت الخارجية الأمريكية في تقريرها الخاص بتركيا إلى محنة السجناء السياسيين، بمن فيهم المسؤولين المنتخبين، إضافة إلى عمليات الخطف والإعادة للأعضاء المزعومين في حركة غولن، دون اتباع الإجراءات القانونية.

لم تقتصر الانتقادات لأوضاع الداخل التركي على ما سبق، ففي 26 فبراير 2021 وقع 170 عضواً بمجلس النواب الأمريكي من الحزبين الجمهوري والديمقراطي خطاباً أُرسل إلى وزير الخارجية أنتوني بلينكن يطالبون فيه إدارة الرئيس بايدن بالتصدي لقضايا حقوق الإنسان “المقلقة”  في تركيا.

  وكذلك يرفض “بايدن” تسليم الداعية التركي “فتح الله غولن” الذي يتهمه “أردوغان” بتدبير الانقلاب الفاشل في صيف 2016.

على صعيد ذي شأن، أدرجت الولايات المتحدة تركيا في القائمة الأمريكية للدول المتورطة في تجنيد الأطفال، وذلك في ظل علاقات السلطات التركية مع فصيل “فرقة السلطان مراد” المسلح الناشط في سوريا.  ونشرت وزارة الخارجية الأمريكية، في يوليو 2021 تقريراً معنوناً باسم “الاتجار بالبشر عام 2021” أفادت فيه بإدراجها تركيا في قائمة الدول المتورطة في استخدام الجنود الأطفال.

 

ثالثاً، مكاسب متبادلة للتقارب المحتمل:

تطرح مؤشرات التقارب الراهنة بين أنقرة وواشنطن العديد من التداعيات الإيجابية على مسارات العلاقة بين البلدين، يمكن بيانها على النحو التالي:

 

أ. تحييد الخلافات:

 على الرغم من استمرار القضايا الخلافية بين تركيا والولايات المتحدة؛ فإن جهود التقارب الراهنة، وتعزيز التنسيق حيال الأزمة الأوكرانية، يدفعهما نحو تحييد الخلافات، وتبني النهج البراغماتي، ناهيك عن عدم تصعيد حدة الخلاف إلى درجة غير مسبوقة، والعودة إلى موازنة المصالح بالنظر إلى المصالح المشتركة بين البلدين. كما أن زيادة الاحتقان قد تدفع البلدين إلى تبني خيارات لا تتوافق مع حساباتهما، لاسيَّما في ظل الانخراط المكثف لهما في قضايا إقليمية تحظى بأولوية من جانبهما. ومن هنا، قد تستمر جهود ترطيب العلاقات من خلال توفير خيارات متعددة، وإنتاج بدائل توفر هامشاً لحرية الحركة والمناورة لكلا البلدين.

 

ب. تأمين المصالح:

على الرغم من حالة الجدل حول مستقبل العلاقة بين أنقرة وواشنطن، والتي عززتها الفشل في التحايل على القضايا الخلافية؛ فإن ثمة اعتبارات تدفع نحو تعزيز مساحات الحوار والتعاون، أولها: حاجة الولايات المتحدة إلى بناء تحالف دولي مناهض للتدخلات الروسية في أوكرانيا، وتمثل أنقرة حجر الزاوية في هذا التحالف بالنظر إلى موقعها الجيوسياسي في الأزمة الأوكرانية. ثانيها: أن واشنطن باتت تعي أن الاستمرار في تضييق الخناق على أنقرة قد يدفعها إلى تعزيز توجهها شرقًا نحو روسيا والصين. وتدرك إدارة بايدن أن أنقرة تمثل في التوقيت الراهن “موازناً استراتيجيَّاً” لمواجهة الدور المتزايد لموسكو في مناطق ذات حساسية للمصالح الأمريكية. ثالثها: أن أنقرة تمتلك موقعاً جيوسياسيَّاً، يمنحها قدرة على تمديد نفوذها وتأثيراتها داخل أغلب الساحات المهمة بالشرق الأوسط، والبلقان، والقوقاز، والبحر الأسود، وآسيا الوسطى، وبالتالي لا يمكن إغفال تركيا في إدارة المصالح الأمريكية في هذه المناطق.

 

ج. استعادة مركزية أنقرة في الاستراتيجية الأمريكية:

 توجهت الإدارة الأمريكية نحو فتح قنوات حوار متنوعة مع الحكومة التركية خلال المرحلة الراهنة، وذلك بهدف زيادة مساحات التنسيق المشتركة بشأن الأزمة الأوكرانية، وتعزيز الاصطفاف التركي إلى جانب الناتو والقوى الغربية في إدانة التحركات الروسية في أوكرانيا.

الأرجح أن التحركات الأمريكية الأخيرة تجاه تركيا مثلت فرصة لاستعادة أنقرة جانب من نفوذها لدى مؤسسات صنع القرار في الولايات المتحدة، وهو ما يعني زيادة نفوذ تركيا في واشنطن والدوائر الإقليمية والدولية المرتبطة بالمصالح الأمريكية، ومنها حلف الناتو. كما يتوقع زيادة دور أنقرة لدى الولايات المتحدة مستقبلاً مع غياب حسم الأزمة الأوكرانية، وإصرار موسكو على الاستمرار في عسكرة الأزمة فضلاً عن قدراتها على مواجهة العقوبات الغربية، وتحويل جانب منها إلى مكاسب روسية. وهنا، فإن إدارة بايدن تعي أن استمرار الخلاف مع تركيا قد يحولها إلى رئة اقتصادية لموسكو في المرحلة المقبلة.

 

د. خفض التصعيد مع أوروبا:

 يوفر التقارب الحادث في العلاقة بين أنقرة وواشنطن بيئة خصبة لدفع العلاقات التركية-الأوروبية قدماً، من خلال إقناع الأوروبيين بأهمية التخلي عن الإجراءات العقابية ضد تركيا، وهو ما ظهر في التقارب الحاصل في الآونة الأخيرة بين أنقرة وباريس، وكشف عنه لقاء جمع الرئيس التركي ونظيره الفرنسي في 24 مارس الماضي على هامش القمة الطارئة لزعماء حلف شمال الأطلسي “الناتو”، وقد اتفقت أنقرة وباريس على تنحية خلافاتهما، ومواصلة التعاون الوثيق بين بلديهما.  وعلى هذا الأساس، فإن كسر حدة التوتر بين أنقرة وواشنطن يسمح ببناء مواقف أوروبية إيجابية تجاه تركيا، خاصة أن الولايات المتحدة أكدت أهمية إعادة صياغة العلاقة مع تركيا خلال هذه المرحلة، كما دعت إلى ضرورة تبني مقاربة غربية موحدة تجاه روسيا بعد تدخلها في أوكرانيا تأخذ في الاعتبار مصالح الحلفاء، وبخاصة تركيا.

 

ختاماً

 يمكن القول إنه بالرغم من استمرار القضايا الشائكة بين أنقرة وواشنطن؛ فإن فرص التقارب بين البلدين وكسر حالة التوتر تبقى هي الأوفر خلال المرحلة الراهنة، خاصةً بعد تصاعد حدة الأزمة في أوكرانيا، وحاجة واشنطن إلى مضاعفة الضغوط الإقليمية والدولية على موسكو.  كما تدرك واشنطن أن تركيا العضو في حلف الناتو تبقى ورقة رابحة لحماية المصالح الأمريكية في مناطق نفوذها، خاصة مع تمدد النفوذ الروسي والصيني في مساحات إقليمية ودولية تمثل أولوية لواشنطن، وتتقاطع فيها المصالح مع تركيا، وبخاصة في منطقة الشرق الأوسط والقوقاز والبلقان فضلاً عن منطقة القرن الأفريقي.

في المقابل، فإن جهود التقارب بين البلدين ربما يتزايد تأثيرها مع اتجاه تركيا نحو تصفير المشاكل مع محيطها الإقليمي والدولي. كما أن براغماتية الرئيس الأمريكي ونظيره التركي قد تدفعهما إلى انتهاج مرونة لاحتواء الخلافات العالقة بينهما، وضبط حدود التوتر بالنظر إلى المصالح المعقدة والمتشابكة في عدد معتبر من القضايا الحيوية.   

*باحث متخصص في شؤون تركيا والمغرب العربي - مصر


28/05/2022