×


  مام جلال ... حقائق و مواقف

  مام جلال وتثبيت دعائم الفيدرالية من كردستان إلى العراق



*لطيف نيرويي

 

في هذا العام وفي ذكرى رحيل الرئيس مام جلال، دفعني سببان رئيسان الى كتابة هذا الموضوع عن مام جلال وفكره العميق حول الفيدرالية.

أولا: صحيح أن مام جلال هو من وضع الأسس المتينة للعلاقات بين الإقليم وبغداد، وكان أحد أبرز المهندسين لتثبيت نظام الفيدرالية في الدستور العراقي الدائم، غير أن كثيرين لا يزالون يجهلون حقيقة هذا الدور الكبير الذي اضطلع به، ليس على مستوى الشارعين الكردستاني والعراقي فحسب، بل حتى في أوساط النخبة السياسية والفكرية أيضا.

حتى الآن، لا يدرك بعض المواطنين، بل وحتى عدد من الرفاق في الاتحاد الوطني، أين وكيف تبلورت فكرة الفيدرالية في رؤية وفكر الرئيس مام جلال، وما هي المنطلقات الفكرية والسياسية التي صاغ من خلالها هذا المشروع التاريخي.

ـ أين أعلن لأول مرة عن فكرته ورؤيته لمستقبل اقليم كوردستان بشكل رسمي؟

ـ ماذا كانت ردود الافعال الداخلية والاقليمية والدولية حول هذه الفكرة وهذا المقترح؟.

ـ ماذا كانت التحديات والعراقيل امام تنفيذ هذا المشروع؟

ـ كيف كانت اوضاع العراق عند اعلان هذه الفكرة؟

هنا سنحاول الإجابة عن هذه الأسئلة، وغيرها من التساؤلات المتعلقة بالفيدرالية ورؤية الرئيس مام جلال، من خلال قراءة تحليلية توضح مسار الفكرة وجذورها ومكانتها في مشروعه السياسي.

ثانيا: السبب الثاني لكتابة هذا الموضوع هو مصادفة خاصة بالذكرى السنوية لرحيل الرئيس مام جلال وذكرى اعلان النظام الفيدرالي من قبل برلمان كوردستان، وحيث تتوالى الذكريان تباعا، لأن يوم 3 اكتوبر هو الذكرى السنوية لرحيل الرئيس مام جلال ويوم 4 اكتوبر هو ذكرى اعلان الفيدرالية في اقليم كوردستان.

ثانيا: أما السبب الثاني لكتابة هذا الموضوع فيرتبط بمصادفة ذات دلالة رمزية عميقة، إذ تتقاطع في هذه الأيام ذكريان عزيزتان على شعب كردستان؛ فاليوم الثالث من تشرين الأول يصادف الذكرى السنوية لرحيل الرئيس مام جلال، واليوم الرابع من الشهر نفسه يوافق ذكرى إعلان النظام الفيدرالي من قبل برلمان إقليم كردستان، وكأن القدر أراد أن يجمع بينه والفكرة التي ناضل من أجلها طيلة حياته.

نعود الآن إلى الإجابة عن الأسئلة التي طرحناها في البداية، وللوصول إلى إجابات دقيقة ومنطقية، لا بد أن نلقي نظرة سريعة على الوثائق والمصادر التاريخية للاتحاد الوطني والثورة الجديدة، ولا سيما الأدبيات الأولى التي شكّلت الأساس الفكري للحزب.

ومن أبرز هذه الوثائق كراس الرئيس مام جلال الموسوم «الاتحاد الوطني الكوردستاني، لماذا؟» الذي كتبه في أواخر عام 1975، والذي يُعدّ مفتاحا لفهم رؤيته في تلك المرحلة تجاه سبل حل القضية الكردية ومشكلات العراق عموما.

من خلال هذا الكراس يمكننا التعرف إلى كيفية سعي مام جلال لبناء علاقة ترابط وتفاعل بين ثورة شعب كردستان والقوى الديمقراطية والتقدمية والوطنية العربية، بهدف توحيد النضال من أجل ترسيخ حق تقرير المصير لشعب كردستان، وفي الوقت نفسه إقامة عراق ديمقراطي اتحادي.

وقد شكّل هذا التوجه جوهر شعار الاتحاد الوطني في بداياته، وكان منسجما مع روح تلك المرحلة التي شهدت ولادة فكرة الفيدرالية من رحم شعارات السلام والديمقراطية وحقوق الإنسان وحق تقرير المصير.

كل هذه الشعارات كانت تشكّل الأرضية المناسبة لترسيخ روح التعايش بين مكوّنات الشعب العراقي ضمن إطار عراق برلماني تعددي فيدرالي.

بمعنى آخر، ومنذ انطلاق الثورة الجديدة، كان مام جلال يؤمن بأن الفيدرالية تمثل السبيل الأمثل لحل القضية الكردية ومعالجة أزمات العراق البنيوية.

وقد تجلّى هذا الإيمان بشكل أوضح في عام 1987، عندما شارك الرئيس مام جلال في ندوة بإسبانيا خُصصت لمناقشة أوضاع العراق، وبخاصة القضية الكردية وسبل معالجتها. خلال تلك الندوة، طرح مام جلال نظام الفيدرالية بوصفه الخيار الأكثر واقعية وعدالة لحل مشكلات العراق والقضية الكردية معا، مؤكدا أن هذا النظام ليس فقط ضمانة لحقوق الكرد، بل أيضا أساس لاستقرار العراق ووحدته على المدى البعيد.

كانت فكرة الفيدرالية التي طرحها الرئيس مام جلال في ذلك الوقت، بحسب رأي المراقبين والمحللين السياسيين، أمرا شبه مستحيل التحقيق، إذ كان النظام الدكتاتوري حينها يمتلك جيشا مليونيا ويحظى بدعم إقليمي ودولي واسع.

ومع ذلك، لم تمضِ فترة طويلة حتى تحققت توقعات مام جلال الثاقبة، حين تنبأ بأن نظام صدام سيقدم على احتلال الكويت، وأن شعوب العراق ستنتفض في تظاهرات واسعة، لينال شعب كردستان بعدها قدرا من حريته وحقوقه.

وبالفعل، تحقق ذلك، وتم تحرير إقليم كردستان من قبضة النظام، فكرّس الرئيس مام جلال كل جهوده الدبلوماسية والسياسية لتثبيت نظام الفيدرالية كإطار دستوري لمستقبل الإقليم والعراق.

في البداية واجه هذا التوجه بعض العراقيل داخل إقليم كردستان، إذ كانت إحدى القوى الرئيسة ما تزال تتبنى شعار الحكم الذاتي، واستخدمت هذا الشعار في حملتها الانتخابية لانتخابات برلمان كردستان عام 1992.

لكن، وبعد مرور نحو خمسة أشهر على إجراء الانتخابات، نجح الرئيس مام جلال، بحكمته وحواره البنّاء، في إقناع هذا الطرف بالموافقة على مشروع الفيدرالية، لتتحول الفكرة إلى مطلب رسمي لشعب كردستان في 4 تشرين الأول 1992، وهو التاريخ الذي أصبح يوما تاريخيا لإعلان النظام الفيدرالي في إقليم كردستان.

تمت المصادقة على نظام الفيدرالية رسميا في برلمان كردستان، لتبدأ بعدها مرحلة جديدة من الجهود السياسية والدبلوماسية التي قادها الرئيس مام جلال باتجاه كسب دعم القوى والأطراف السياسية في المعارضة العراقية.

وبعد عمل دؤوب واتصالات مكثفة، تمكن خلال مؤتمرات المعارضة العراقية في واشنطن ولندن وصلاح الدين من إقناع معظم قواها بدعم ومساندة مشروع الفيدرالية كحلّ عادلٍ ودائمٍ لمشكلات العراق.

إلا أنه، وبعد سقوط النظام البعثي عام 2003، وحين أصبحت مسألة النظام الفيدرالي مطروحة عمليا على طاولة النقاش في مرحلة صياغة الدستور الجديد، تراجع بعض أطراف المعارضة السابقة عن مواقفهم ووعودهم السابقة، وظهرت آراء متباينة حيال شكل الدولة ونظامها، بين من يرى في الفيدرالية ضمانة للوحدة، ومن يخشاها كتهديد لمركزية السلطة التقليدية في بغداد.

-على المستوى الشعبي والسياسي والإعلامي العربي، لم يكن هناك تفهم كافٍ لنظام الفيدرالية، بل ساد تخوف من أن يؤدي هذا النظام إلى آثار سلبية على استقرار الدول العربية المجاورة.

- وكانت الدول الإقليمية نفسها تحمل مخاوف مشابهة من تطبيق الفيدرالية في العراق، خشية أن تشكّل سابقة قد تؤثر على مصالحها الإقليمية.

- أما التحالف الدولي، فلم يقدم دعما مباشرا لمشروع الفيدرالية في العراق، بل اعتقد بعض أعضائه أن النظام الفيدرالي قد لا ينجح في ظل الظروف العراقية المعقدة، وكانت هناك وجهات نظر متباينة حول إمكانية تحقيقه على أرض الواقع.

- وعند تشكيل مجلس الحكم، ظهرت من جديد آراء مختلفة ومتباينة حول الفيدرالية، ما عكس حجم التحديات السياسية والدستورية التي كانت تواجه تثبيت هذا النظام كإطار دائم لإدارة العراق.

ورغم كل هذه العراقيل والتحديات والمخاطر الداخلية والإقليمية والدولية، انبرى الرئيس مام جلال بإرادة فولاذية وثقة كبيرة، ليكون الشخصية الرئيسة والمدافع الرصين عن مشروع الفيدرالية. بدعم من القوى والأطراف السياسية الأخرى في كردستان وأصدقاء الشعب الكردي، عمل بشكل مخطط ومدروس، وسخر جهوده الدبلوماسية لتذليل العقبات وإزالة التخوفات والشكوك العربية والإقليمية والدولية.

بدأ جولة دبلوماسية واسعة شملت الدول العربية والإقليمية، ونجح في توضيح حقيقة النظام الفيدرالي، مبينا أنه يمكن أن يعيد روح التعايش والوحدة والاستقرار إلى العراق، وأنه لا يشكل أي تهديد لتلك الدول. كما اقترح مشروع الحوار الكردي–العربي، وخلال الحوار الذي انعقد في العاصمة المصرية القاهرة، تمكن من الحصول على دعم النخبة السياسية والثقافية، مما أسهم في تعزيز شرعية المشروع وتوسيع قاعدة تأييده على المستويين الإقليمي والدولي.

- ومن أجل تحقيق هذا الهدف، أجرى الرئيس مام جلال عدة لقاءات على القنوات الفضائية العربية، ونشر العديد من المقالات باللغة العربية في الصحف العربية، لتعزيز فهم الرأي العام العربي لطبيعة النظام الفيدرالي في العراق.

- كما نجح في كسب دعم الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وعدد من الدول الأخرى، مؤكدا أن الفيدرالية تمثل أفضل حل للعراق بعد سقوط نظام صدام.

- وبفضل إرادته القوية، وحكمته السياسية، ومهارته الدبلوماسية، وبمساندة الأطراف السياسية في كردستان وأصدقاء الشعب الكردي، تمكن الرئيس مام جلال من تثبيت هذا المشروع الاستراتيجي والمصيري في الدستور العراقي الدائم.

- وبهذا، دخلت القضية الكردية مرحلة جديدة على المستويين السياسي والدبلوماسي، ليس فقط في كردستان والعراق، بل على المستوى الدولي أيضا، مؤكدة على مكانة الفيدرالية كخيار عادل ومستدام.


05/10/2025