*د. أرسلان بايز
*ترجمة : نرمين عثمان محمد
ما زال الشعور القومي والعمل الحزبي في تلك المرحلة غير معلنين كما ينبغي. حتى تلك السنوات كان النشاط سريّا، وفي أحيان متباعدة، كان بعض كوادر الحزب يزورون القرى بشكل فردي. كان عدد الأعضاء يُعدّ على أصابع اليد، لكنهم كانوا مخلصين ومتفانين في عملهم. حتى إنْ كانوا فقراء، كانوا يدفعون اشتراكاتهم الشهرية ويحرصون على حضور الاجتماعات. وأحيانا، عند انكشاف هوية بعض الكوادر والأعضاء، كانت سيارات الشرطة المسلّحة تحاول اعتقالهم.
كنت حينها في الثانية عشرة أو الرابعة عشرة من عمري، وقد رأيت بأم عيني أكثر من مرة في ناحية "دیبەگە" محاولات الشرطة لاعتقال أحمد محمود، الذي كان مسؤول الحزب في المنطقة، لكنه كان ينجو في كل مرة.
كان عدد أعضاء ومؤيدي الحزب الديمقراطي الكردستاني أقل بكثير من أعضاء الحزب الشيوعي. مقر الحزب الديمقراطي الكردستاني في دیبەگە كان شبه مهجور، بينما مقر الحزب الشيوعي يعجّ بالناس. ورغم أنني كنت صغيرا، إلا أنني بحكم القرابة كنت أزور مقرالحزب الديمقراطي أحيانا، من غير أن أعرف شيئا عن برامجه أو نشاطه أو مستقبله. كل ما كنا نسمعه هو قولهم: "سوف ننتزع حقوق الشعب الكردي".
وذات يوم، جاءت إلى دیبەگەعدة سيارات من قوات الشرطة الخاصة لاعتقال مجموعة من أعضاء الحزبالديمقراطي الكردستاني الذين كانوا يشعرون بالريبة تركوا البلدة واختبأوا في التلال والصخور المحيطة. كان أحدهم معلّم اللغة الكردية لدينا. نحن الأطفال والتلاميذ، حين سمعنا باعتقال معلمنا، خرجنا نبحث عنه في تلك التلال. وبعد أن وجدناه جالسامع مجموعة من الفلاحين والموظفين تحت ظلال إحدى الصخور، جلسنا معهم.
وحين رآنا اقترب منا وسأل: لماذا جئتم؟ عمّن تبحثون؟
فأجبنا: جئنا للقاء حضرتكم لأننا نحبكم.
ففرح كثيرا بكلامنا. ثم جلسنا معه.
لاحظنا أنه يحمل كيسا بلاستيكيّا. فسألناه: ما هذا الكيس الذي تمسكه وكأنك تحرص عليه كثيرا؟
قال: ملقد هربنا خوفا من هذه الصور.
وعندما نظرنا فيها، رأينا صورا لسياسيين وپێشمەرگە، إحدى الصور كانت لمقاتل بملابس ترابية، يضع حزاما عريضا، ويحمل بندقية على كتفه، ويرتدي "بشكيرا" مطرّزا وعمامة ملفوفة بطريقة مميزة (کلێتە). كان المشهد جذابا بالنسبة لنا نحن أبناء گەرمیان الذين لم نرَ من قبل مثل ذلك البشكير أو تلك العمامة.
من بين كل تلك الصور سألته: من هذا؟
قال: هذا اسمه "مام جلال"، وهو أحد قادةالپێشمەرگە.
منذ ذلك اليوم، أصبحت عمامة مام جلال رمزا محفورا في قلبي، وصارت علامة مميزة في ذاكرتي. وبعد أن كبرت، حين فهمت خطّه السياسي،وجعلت دربه طريق حياتي.
ألف سلام ِعلى روح ذلك الرجل، الذي لن يتكرر مثله أبدا، والذي لا يمكن أن يجود الزمان بآخر بعظمته وقدرته.