*أ. د. علي الدين هلال
*مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة
في عام 1986، صدر قانون إعادة تنظيم وزارة الدفاع الأمريكية، والذي ألزم رئيس البلاد برفع تقرير إلى الكونغرس يوضح استراتيجية الأمن القومي التي سوف تتبعها إدارته. وبالفعل، صدر أول تقرير يحمل هذا العنوان في عهد الرئيس الأسبق، رونالد ريغان، عام 1987. وتطورت هذه الممارسة بعد انتهاء الحرب الباردة عام 1991، من تقرير فني عن مسائل الدفاع والحرب إلى إعلان سياسي استراتيجي يوضح فيه الرئيس الأمريكي رؤيته للعالم، والمخاطر التي تواجه الأمن القومي الأمريكي، وتحديد الأولويات، وبعث رسائل للحلفاء والخصوم عن موقف واشنطن تجاه القضايا الدولية.
وفي هذا السياق، أعلن البيت الأبيض، في 4 ديسمبر 2025، عن وثيقة استراتيجية الأمن القومي الأمريكي الجديدة، والتي حددت المبادئ والأهداف التي تسعى الولايات المتحدة إلى تحقيقها، وطرق تنفيذها من خلال الوسائل العسكرية والاقتصادية والدبلوماسية وأدوات القوة الناعمة، وحددت بعد ذلك توجهاتها في مناطق العالم وكان ترتيب ورودها في الاستراتيجية: الأمريكتان، وآسيا، وأوروبا، والشرق الأوسط، وإفريقيا. وسوف يركز هذا المقال على مكانة منطقة الشرق الأوسط في تلك الاستراتيجية، والسياسة الأمريكية تجاه المنطقة في ظل إدارة الرئيس دونالد ترامب.
محاور الاستراتيجية:
لا يمكن تحليل الرؤية الأمريكية تجاه الشرق الأوسط دون فهم أوسع لمبادئ الأمن القومي الأمريكي وسبل تحقيقه. ويمكن تلخيص المبادئ التي وردت في الاستراتيجية الجديدة في خمس نقاط أساسية هي:
1- أولوية المصالح الوطنية الأمريكية قبل أي اعتبار آخر، والتي اعتبرت الاستراتيجية أن التعدي عليها يمثل تهديدا لأمن البلاد؛ بحيث تكون السياسة الخارجية في خدمة السياسات الاقتصادية والاجتماعية الداخلية، وتحقيقا لمبدأ "أمريكا أولا" في إطار "الواقعية المرنة" التي تجمع بين حماية السيادة الأمريكية والتعامل مع التهديدات المتغيرة، من منطلق قومي بحت. ولم يعد للعولمة مكان في هذه الاستراتيجية، والتي وصفتها بأنها "مفهوم أجوف" تم تصميمه لخدمة الشركات الكبرى متعددة الجنسيات وليس لحساب الدول والشعوب، وأن زمن العولمة قد انتهى لصالح الأمم والدول القومية.
2- احترام استقلال الدول وحقها في اختيار نظم الحكم النابعة من تاريخها وتقاليدها وثقافتها؛ ومن ثم ضرورة الالتزام بعدم التدخل لنشر مبادئ الليبرالية والديمقراطية في الدول الأخرى، والذي اتبعته إدارات أمريكية سابقة.
3- إعادة ترتيب العلاقات والتحالفات الدولية، وتحول دور الولايات المتحدة من قيادة نظام دولي ليبرالي متعدد الأطراف إلى إقامة تحالفات وفقا للمصالح الأمريكية الواقعية، مع التركيز على العلاقات الثنائية وتوقعات أكبر من الشركاء في أوروبا وآسيا بأن يتحملوا مزيدا من مسؤولياتهم الدفاعية.
4- ربط الأمن القومي بالأمن الاقتصادي والتكنولوجي، وذلك من خلال ضمان الهيمنة في مجال الطاقة، وحماية سلاسل التوريد الحيوية، وتقليل الاعتماد على الخصوم في الحصول على التكنولوجيات الحساسة.
5- السلام من خلال القوة؛ بمعنى تعزيز القوة الأمريكية كوسيلة لتحقيق السلام وضمان استمراره، ويشمل ذلك عناصر القوة العسكرية والاقتصادية والتكنولوجية؛ مما يؤدي إلى ردع التهديد وحماية السلام.
وبعيدا عن العبارات الدبلوماسية المنمقة، فإن قراءة الاستراتيجية لا تدع مجالا للشك بأن الهدف الأسمى لها هو الحفاظ على دور القيادة الأمريكية للعالم، عبر استمرارها الدولة الأكثر ثراء، والأسبق تكنولوجيا، والأقوى عسكريا؛ وهي الاستراتيجية التي وصفها بيان البيت الأبيض بمناسبة إطلاقها بأنها خارطة طريق لضمان بقاء الولايات المتحدة أعظم وأنجح دولة في التاريخ البشري.
تراجع الشرق الأوسط:
انتقدت استراتيجية الأمن القومي الأمريكي الجديدة سابقاتها لأنها اهتمت بكل القضايا والصراعات في كل مناطق العالم، وهذا ما وصفته بأنه "غير واقعي". وأكدت أهمية تحديد الأولويات؛ موضحة أن هدف السياسة الخارجية هو حماية المصالح الحيوية أو الجوهرية للدولة، وليس إدارة كل قضايا العالم. وفي الجزء الخاص بمنطقة الشرق الأوسط تحت عنوان "نقل الأعباء وبناء السلام"، أشارت الاستراتيجية إلى تراجع أولوية الشرق الأوسط في المنظور الأمريكي، وأن الهيمنة اليومية للمنطقة على جدول أعمال السياسة الأمريكية "انتهت إلى غير رجعة"؛ حيث لم تعد المنطقة تحتل نفس الأهمية التي كانت لها في الفترات الماضية نتيجة لتغير الظروف، فهي لم تعد مصدرا لتهديد مباشر للأمن القومي الأمريكي، وأصبحت ساحة للشراكات التجارية والاستثمارية بين الولايات المتحدة ودول المنطقة.
وتعد الاستراتيجية أن الأسباب التاريخية التي دفعت واشنطن إلى التركيز على منطقة الشرق الأوسط، لم تعد قائمة. فعلى سبيل المثال، انتهى الاعتماد الأمريكي على نفط المنطقة، ولم تعد مسرحا للتنافس الرئيسي بين القوى العظمى، كما لم تعد مجالا لصراعات تهدد بالاتساع عالميا "حتى الوصول إلينا". وفي المقابل، ازدادت فرص التعاون والشراكة التجارية والتكنولوجية، والتي تشمل الاستثمار في الطاقة النووية، والذكاء الاصطناعي، وتقنيات الدفاع، وتأمين سلاسل الإمداد، وغيرها.
وحسب الوثيقة، فقد دعم هذا التراجع تحول الاهتمامات الأمريكية تجاه قضايا أخرى، أبرزها المنافسة مع الصين، ومكافحة "الكارتلات" وعصابات التهريب والمخدرات في منطقة الأمريكيتين؛ والتي أعطتها الوثيقة الأولوية في الترتيب قبل أوروبا.
وتؤكد الاستراتيجية القبول الأمريكي بالأوضاع السياسية لدول المنطقة، وأشارت صراحة إلى تخلي الولايات المتحدة عن "المحاولات الفاشلة" لتغيير النظم السياسية من الخارج؛ معتبرة أن مفتاح العلاقة الناجحة "قبول المنطقة وقادتها وشعوبها كما هي مع التركيز على المصالح المشتركة".
وفي المقابل، أشارت الاستراتيجية إلى العمل مع هذه الدول على تنمية المصالح المشتركة في مجالات التجارة والاستثمار. ولفتت أيضا إلى التزام واشنطن بالعمل لضمان حرية الملاحة في مضيق هرمز والبحر الأحمر؛ وهو ما يعد جزءا من استقرار سلاسل الإمداد العالمية، وألا تكون المنطقة حاضنة أو مصدرا للإرهاب ضد المصالح أو الأراضي الأمريكية، وكذلك حماية أمن إسرائيل، وتوسيع الاتفاقات الإبراهيمية لتشمل دولا عربية وإسلامية أخرى. وفي نفس الوقت، أوضحت الوثيقة الالتزام الأمريكي بالعمل دون سيطرة أي قوة أخرى على المنطقة، ولكن دون التورط في عمليات عسكرية طويلة أو مكلفة.
وطبقا للاستراتيجية، ما زالت الولايات المتحدة تتمتع بالمكانة الأقوى في المنطقة، مدعومة بنجاح الرئيس ترامب في إعادة إحياء التحالفات في الخليج ومع شركاء عرب آخرين ومع إسرائيل. ومع وجود صراعات في المنطقة، وأنها تمثل سمة غالبة فيها؛ إلا أنها أصبحت "أقل خطورة بكثير مما تعكسه عناوين الصحف"، فإيران وهي القوة الأكثر قدرة على زعزعة الأمن الإقليمي قد تم إضعافها بشكل كبير بسبب العمليات العسكرية ضدها عام 2025، وفقا لتقييم الاستراتيجية. وعلى الرغم من أن الصراع الفلسطيني الإسرائيلي "ما زال ملفا معقدا"؛ فإنه بفضل "وقف إطلاق النار وإطلاق سراح الرهائن الذي تفاوض عليه الرئيس ترامب، تم إحراز تقدم نحو سلام أكثر استدامة". أما بالنسبة لسوريا، فكان تقييم الاستراتيجية أنها "مشكلة محتملة"؛ لكنها "قد تستقر وتستعيد مكانتها الطبيعية كفاعل إيجابي وأساسي في المنطقة، بدعم أمريكي وعربي وإسرائيلي وتركي". كما يزداد تعاون دول المنطقة في مجال مكافحة التطرف بتشجيع من واشنطن.
ماذا نفهم من الاستراتيجية؟
ما يمكن فهمه من استراتيجية الأمن القومي الأمريكي الجديدة أن الولايات المتحدة تعطي الأولوية للعلاقات التجارية والاستثمارية في علاقاتها مع دول المنطقة، وأنه مع حرصها على حل نزاعات المنطقة فإنها ليست مستعدة لتدخل عسكري. ومؤدى هذا، إعطاء الأولوية للعمل السياسي والدبلوماسي.
وتتبلور معالم النظرة الأمريكية إلى منطقة الشرق الأوسط بوصفها منطقة مهمة، ولكنها "لم تعد مصدر إزعاج دائم وكارثة محتملة"؛ وذلك بسبب نجاح الدبلوماسية الأمريكية في ظل إدارة ترامب الثانية في إضعاف "الخصوم" وتخفيض التهديدات النابعة من المنطقة لمصالحها. وترتب على ذلك أنه لم يعد للشرق الأوسط الأولوية السابقة في مركز الاهتمام الأمريكي الاستراتيجي، فقد أصبح التركيز على المنافسة الكبرى مع الصين وفي منطقة الإندوباسيفيك، وكذلك على التهديدات الأقرب جغرافيا في نصف الكرة الغربي مثل الهجرة غير الشرعية والتهريب والمخدرات؛ حيث دعت الاستراتيجية إلى سياسة نشطة شبهتها بمبدأ الرئيس الأسبق، جيمس مونرو، الذي تولى الحكم خلال الفترة (1817-1825).
وحسب نص الاستراتيجية، فقد انتهت الحقبة التي هيمن الشرق الأوسط فيها على السياسة الخارجية الأمريكية سواء في التخطيط طويل الأمد أم في التنفيذ اليومي، فالشرق الأوسط كما تراه الاستراتيجية ليس ساحة صراع تتطلب تدخلا دائما؛ ولكنه فرصة للشراكة والاستثمار. وتتطلع الاستراتيجية إلى أن تكون بعض دول الشرق الأوسط مصدرا للاستثمار في الولايات المتحدة في مجالات الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيات العسكرية المتقدمة.
قد تبدو الصورة التي رسمتها الاستراتيجية منطقية ومتناسقة؛ لكن تطورات الأمور في الواقع بتشابكاته وتعقيداته قد تجعل هذه الصورة غير ممكنة، فإيران لم تعلن قبولها للتصورات والترتيبات الأمريكية في المنطقة. وما زال أمام الصراع الفلسطيني الإسرائيلي طريق طويل قبل الاطمئنان إلى استدامة وقف إطلاق النار "الهش" والذي تنتهكه إسرائيل بشكل دوري، وتنفيذ المرحلة الثانية من خطة ترامب في غزة. وما لم يتم القبول بحق تقرير المصير للفلسطينيين؛ فإن الحديث عن استقرار مستدام في المنطقة قد يكون سابقا لأوانه. كما لا تزال الصراعات والأزمات في دول أخرى مثل ليبيا والسودان واليمن تمثل مصدرا لعدم الاستقرار.
وهناك الصمت الأمريكي عن الانتهاكات العسكرية الإسرائيلية لاتفاق منع الأعمال العدائية في لبنان، والخروقات اليومية لسيادة سوريا باقتحام أراضيها وإقامة حواجز مرور فيها وتفتيش المنازل والتحقيق مع السوريين واعتقال بعضهم والعودة بهم إلى داخل إسرائيل.
وثمة عامل آخر، وهو أن قرارات الرئيس ترامب قد تؤدي إلى عكس أهداف الاستراتيجية، فتركيزه على العلاقات الثنائية مع دول المنطقة، والتي تعطي الأولوية للصفقات؛ قد يكون من شأنه عدم استقرار التحالفات طويلة الأجل، وربما تحقيق عكس ما تهدف إليه الاستراتيجية.
ختاما، يمكن القول إنه من حق الولايات المتحدة أن تتبع سياسة تعظيم مصالحها الوطنية وأمنها القومي، ومن حقها أيضا أن توظف أدوات قوتها الصلبة والناعمة والذكية لتحقيق هذه الأهداف؛ ولكن من حق وواجب الدول العربية أن تدرس كيفية تطبيق استراتيجية الأمن القومي الأمريكي في الواقع، وأن تسعى هي أيضا لتحقيق مصالحها الوطنية، التي قد تكون في تنويع وتطوير علاقاتها مع قوى أخرى مثل الصين والاتحاد الأوروبي وروسيا؛ وهو ما لن ترضى عنه الولايات المتحدة.
أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة