*محمد حسن الساعدي
بعد الاحداث التي رافقت عام 2003 لم تكن المشكلة في غياب عقلية إدارة النظام السياسي فحسب، بل في من يديرون هذا النظام، فبينما كانت البلاد بحاجة إلى رجال دولة يحملون مشروعا وطنيا، برزت نخب سياسية تتعامل مع الدولة بوصفها غنيمة، لا مسؤولية.
العقلية السياسية العراقية تتسم بالتردد والانقسام وغياب الرؤية الاستراتيجية، فبدلا من أن تنطلق السياسة الخارجية من مبدأ المصلحة الوطنية العليا، غالبا ما تدار وفقا لحسابات داخلية ضيقة، تتعلق بتوازنات القوى بين الأحزاب، أو بمصالح فئوية وطائفية. هذا الانقسام الداخلي ينعكس على الموقف الخارجي، فيبدو العراق في كثير من الأحيان عاجزا عن اتخاذ مواقف واضحة، أو مترددا في الانخراط في ملفات إقليمية حساسة، حتى تلك التي تمس أمنه القومي بشكل مباشر.
السائد منطق الغنيمة لا منطق الدولة، فمنذ اللحظة الأولى لتشكيل الحكومات المتعاقبة، ساد منطق المحاصصة الطائفية والعرقية، الذي حول المناصب إلى حصص حزبية، لا أدوات خدمة عامة، وهذا المنطق لم ينتج سوى مؤسسات مشلولة، وفساد مستشري، وغياب شبه تام للكفاءة.
السياسي العراقي يتقن فن الخطابة، لكنه يفشل في ترجمة الشعارات إلى أفعال، فكم من مرة سمعنا عن "محاربة الفساد" و"الإصلاح"، دون أن نرى فاسدا واحدا يحاسب أو مؤسسة تصلح؟ هذه الازدواجية عمقت فجوة الثقة بين المواطن والدولة.
كما أن العقلية السياسية العراقية، التي تميل إلى الحذر المفرط والحياد السلبي، جعلت العراق يغيب عن كثير من المبادرات الإقليمية، أو يشارك فيها بشكل رمزي لا يعكس ثقله التاريخي والجغرافي. فبدلا من أن يكون العراق وسيطا نزيها بين الأطراف المتصارعة في المنطقة، أصبح في بعض الأحيان ساحة لتصفية الحسابات، أو ممرا لصراعات الآخرين.
معظم القوى السياسية لاتمتلك رؤية واضحة لمستقبل العراق، فالتخطيط غائب، والقرارات تتخذ كردود أفعال، لا ضمن استراتيجية وطنية، والنتيجة بلد غني بالموارد، فقير في الإدارة، مرتهن للتجاذبات الإقليمية والدولية.
عقلية السياسي العراقي لا تزال أسيرة ثقافة الزعيم والطائفة، لا ثقافة الدولة والمواطنة، فالمواطن يعامل كرقم انتخابي، لا كصاحب حق. وهذا ما يفسر ضعف المشاركة السياسية الواعية، وتنامي مشاعر الإحباط واليأس، وأي محاولة لإصلاح حقيقي تقابل بـ مقاومة شرسة من داخل النظام نفسه. فالتغيير يهدد مصالح راسخة، ويربك معادلات القوة ولهذا فإن الإصلاحات غالبا ما تكون شكلية، أو تجهض قبل أن تولد.
غياب الرؤية الاستراتيجية جعل العراق يتأرجح بين محاور متصارعة، دون أن يمتلك القدرة على صياغة دور مستقل. فبينما تسعى بعض القوى السياسية إلى تعزيز العلاقة مع إيران، ترى قوى أخرى أن الانفتاح على الخليج أو تركيا هو الخيار الأفضل. هذا التباين في التوجهات لا يترجم إلى تنوع دبلوماسي صحي، بل إلى ارتباك في القرار، وفقدان للثقة من قبل الشركاء الإقليميين الذين لا يرون في العراق شريكا مستقرا يمكن الاعتماد عليه.
العراق لا يحتاج فقط إلى تغيير في الوجوه، بل إلى ثورة في العقل السياسي، ونحتاج إلى قادة يفكرون بعقلية الدولة، لا بعقلية الغنيمة، وإلى سياسيين يرون في المواطن شريكا، لا تابعا، وبالتالي مشروع وطني يتجاوز الطائفة والعرق، ويضع العراق أولا.
إن العراق لا يعاني من نقص في الإمكانات، بل من أزمة في العقل السياسي الذي يدير هذه الإمكانات. وإذا ما أعيد تشكيل هذا العقل على أسس وطنية واستراتيجية، فإن العراق قادر على أن يتحول من ساحة صراع إلى مركز توازن، ومن متلقٍ للضغوط إلى صانع للقرارات. فهل تنضج هذه العقلية في وقت قريب، أم أن العراق سيبقى أسيرا لصراعات الداخل التي تعكس نفسها على علاقاته بالخارج؟
العلاقات الإقليمية لأي دولة لا تبنى فقط على الجغرافيا أو المصالح الاقتصادية، بل تتشكل أيضا من خلال العقلية السياسية التي تحكم صانعي القرار، ففي الحالة العراقية، يمكن القول إن العقلية السياسية التي تهيمن على المشهد منذ عام 2003 قد أثرت بشكل مباشر وعميق على موقع العراق الإقليمي، وعلى قدرته في أن يكون فاعلا لا مفعولا به في محيطه العربي والإقليمي.
هذا الواقع لا يعني أن العراق محكوم بالبقاء على الهامش. فبإمكانه، إذا ما تحررت نخبته السياسية من عقلية الانقسام ورد الفعل، أن يستعيد دوره الإقليمي. يتطلب ذلك إعادة بناء السياسة الخارجية على أسس وطنية واضحة، وتوحيد القرار السياسي، وتبني سياسة توازن فعالة لا حيادا سلبيا. كما يتطلب استثمار الموقع الجغرافي للعراق كجسر بين المشرق والمغرب، وبين الخليج وبلاد الشام، وبين العرب وجيرانهم من غير العرب.
فهل آن الأوان لأن نعيد تعريف السياسة في العراق؟ أم أن العقلية القديمة ستظل تحكمنا حتى إشعار آخر؟