×

  الاعلام و التکنلوجیا

  هوس الـ Like..العلاقة بين الاكتئاب ومواقع التواصل الاجتماعي



*مادلين المشارقة

 

"لا نعلم ما إذا كان فيسبوك يُساهم في تحويلنا إلى مصح كبير، أم أننا كُنا نعيش في مصح كبير بالأصل وفيسبوك أخرج ذلك إلى العلن وَحسب؟"

  العالم قرية صغيرة، هذا صحيح، فأنت تعيش الآن في العالم الذي يسمح لك بإمساك شاشة تتسع لها قبضة يدك وفتح الخريطة لترى جزيرة تبعد عن إحداثيات موقعك الحالي آلاف الكيلومترات. يسمح لك أيضا أن تضغط على زر الاتصال وفتح فيديو لترى ولادة زوجتك التي اغتربْتَ عنها منذ شهور مضت. كما يسمح لك بمتابعة إعادة مسلسلك المفضل دون الانتظار 12 ساعة لتتم إعادته على القناة الثانية. ويُتيح لك فرصة قراءة الكتب دون أن تدفع ثمنها، ويُمكنك أيضا أن تحجز لرحلة الصيف واختيار فندقك بالإطلالة التي تُحب خلال ثوانٍ معدودة. كما يُمكنك أن تلبس ساعة إلكترونية تحسب عدد دقّات قلبك، وعدد خطواتك التي مشيتها خلال اليوم، وتُنبهك بموعد تمارينك إن أطلت الجلوس دون أن تطلب منها!

أصبح الوقت "شَبَكيا" كفاية لأن يصلك بكل بعيد. وبالحديث عن التواصل، فلا يمكن أن ننسى تأثير مواقع التواصل الاجتماعي ودورها في شبكة قرية هذا العالم. وبات تأثيرها الكبير يحتاج إلى أبحاث ودراسات وعلوم، بين جانب يُؤيد إيجابياتها ويراها كفة تطغى على معظم السلبيات، هُناك على الجانب الآخر من يراها سلبية وتؤثر على الصحة العقلية على جيل كامل من الشباب. فهل يُمكن لمنصات أُنشئت للدمج والتواصل أن تكون سببا في الوحدة وزيادة مُعدلات الاكتئاب؟

 

تأثيرات واضحة على الصحة العقلية

في دراسة  جديدة نُشرت في مجلة علم النفس الاجتماعي والسريري (Journal of Social and Clinical Psychology) والتي أضافت بعض الأدلة التي تدعم نظرية بعض العلماء الذين رأوا أن الاستخدام اليومي لمنصات التواصل الاجتماعي (مثل فيسبوك، وتويتر، وإنستغرام، وسنابشات) قد يكون لها تأثيرات واضحة على الصحة العقلية على المدى البعيد.

 وعلقت ميليسا جي هانت، عالمة النفس في جامعة بنسلفانيا والقائمة على هذه الدراسة: "استخدام وسائل التواصل الاجتماعي بشكل أقل من المعتاد يؤدي إلى انخفاضات كبيرة في كلّ من مُعدلات الاكتئاب والشعور بالوحدة. هذه الآثار واضحة بشكل خاص على الأشخاص الذين كانوا أكثر اكتئابا عندما تطوعوا لهذه الدراسة".

وفي دراسة  أُجريت في عام 2018 وَجدت أن المراهقين الذين يقضون وقتا طويلا أمام وسائطهم الاجتماعية هم الأكثر تعاسة. ولكن إذا قُلل هذا الوقت بمقدار ساعة واحدة فقط في استخدام التكنولوجيا يوميا، فإن العكس هو الصحيح .

تقترح هذه الدراسة أيضا أنه يجب علينا معاملة هذه الوسائط، التي تعدّت مرحلة أن تكون دخيلة على يومنا وباتت ضرورة يومية يحرص على متابعتها والتفاعل معها الجميع، بأن يكون استخدامها مُعتدلا كباقي أمور حياتنا. وعلى الأرجح، تأثيرها ليس سيئا كما قيل لنا. وهذا ما يراه أندرو برزيبيلسكي، كبير الباحثين في معهد أكسفورد للإنترنت، فيقول: "إنّ الكثير من تحيزنا ضد وسائل التواصل الاجتماعي قد يكون مجرد توقعات لمخاوفنا. نتحدث مع بعضنا البعض ونتناقش حول كيف أننا نشعر بالتهديد بأن الهواتف الذكية تُقلل من ذكائنا وتُدمر صداقاتنا الحقيقية، ولكن في الواقع، ربما نكون قلقين من أن هذا صحيح. وهذا لا يعني -بالضرورة- أن يكون صحيحا" .

تايلور هيفر، مؤلف دراسة أُجريت مطلع هذا العام، من جامعة بروك في سانت كاترين، كندا، يرى أن التوصل لاستنتاج قطعي يُنبئ بأن مواقع التواصل الاجتماعي تُعتبر مَدخلا للاكتئاب بحاجة إلى أن تُجرى على أشخاص يُتابعون الشخصيات نفسها، يتعرضون للوقت نفسه، يقرأون محتوى المنشورات نفسه للحصول على نتائج دقيقة . حيث أُجريت هذه الدراسة على مجموعتين منفصلتين، مجموعة من طلاب الصف السابع، والثامن، والتاسع، ومجموعة أخرى من الطلاب الجامعيين. بعد ذلك، قام الباحثون بتحليل البيانات وفصلها إلى العمر والجنس.

وكشفت النتائج  أن استخدام وسائل التواصل الاجتماعي لا يؤدي إلى أعراض اكتئابية في وقت لاحق. وكان هذا صحيحا لكلتا المجموعتين. إلى جانب ذلك، وجد العلماء أنه كان هُناك علامات تُنبئ بأعراض الاكتئاب عند الإناث المراهقات. يشير هيفير إلى أن الإناث في هذا العصر "اللواتي لا يشعرن بالراحة قد يلجأن إلى وسائل التواصل الاجتماعي لمحاولة جعلهن يشعرن بتحسن".

 

العُملة الاجتماعية للطبقة الرقمية

في مُحاضرة على منصة "تيد" ، ألقتها خبيرة وسائل التواصل الاجتماعي بيلي بارنيل بعنوان "هل يُمكن لمواقع التواصل الاجتماعي أن تكون مُضرة لوظائفك العقلية؟"، تقول إننا جميعا سِلع ارتضينا وجودها في عالم التواصل الاجتماعي، حياتنا، عملنا، رحلاتنا، علاقاتنا، جميعها نُشاركها على منصات تجمع الكثير من معارفنا ومن يبعُد حتى عن دائرة معارفنا. أنت كسلعة، وجودك مُرتبط بعدد التفاعلات والإعجابات التي يُطلق عليها اسم "عملة التواصل الاجتماعي" (Social Currency).

وكحال أي سلعة لا تُباع على أرفف المحال فيتم التخلص منها، فهذا هو الحال أيضا لنا، لصورنا أو منشوراتنا التي لا تحصد عددا جيدا من الإعجابات، حيث نقوم بالتخلص منها بحذفها أو إخفائها، حتى لو كنا راضين تماما عن محتوى ما شاركناه، إلا أن رأي الآخر بات هو المحدد الأهم لوجود سلعتك على منصة هي لك بالأساس!

في المحاضرة نفسها، تقول بيلي إن العديد من الدراسات التي أُجريت في الولايات المتحدة، المملكة المتحدة، كندا، وغيرها، قد ربطت الاستخدام المُتزايد لمنصات التواصل الاجتماعي بالاكتئاب، والقلق. وتستعرض بدورها أهم أربعة ضغوطات تُسببها مواقع التواصل الاجتماعي:

 

 - بَكَرة تسليط الضوء:

وهو إلقاء الضوء على أهم الأحداث، وأجمل الصور، وأهم اللحظات والإنجازات. وهو ما يُسبب ضغوطات على المُتلقي الذي -لا شعوريا- يُقارن بين بَكرة الإنجازات للغير، وبين خلف الكواليس الخاصة به!

 

 - عُملة التواصل الاجتماعي:

كما ذكرنا سابقا، الضغط الناجم عن ترقب آراء الناس لتحديد قيمة ما شاركته، وتدني مستويات ثقتك بنفسك بناء على تفاعل الغير. وهو ما يُسمى "اقتصاد الاهتمام" (Economy of Attention).

 

   - الخوف من فوات الحدث F.O.M.O:

 وهي حالة عامة تدفع الأشخاص إلى الرغبة في أن يكونوا على اتصال دائم خوفا من فوات حدث ما لا يُشاركون فيه، وخوفا من فقدان علاقة اجتماعية.

 

 

 - المُضايقات:

 وتصفه بيلي بأنه الأسوأ، ويُحاكي خوفنا على مساحات الأمان الخاصة بنا، فعوضا عن أن تكون تجربة التواصل اجتماعية فإنها تتحول إلى تجربة مُرعبة. مُوضحة بأن 40% من مستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي قد تعرضوا بالفعل لمضايقات، إزعاجات، أو حتى تحرش. وتذكر قصة المُراهق تايلور كليمينتي الذي قرر الانتحار بعد أن ضايقه زميله ونشر صورة له -بوضع خاص- على تويتر.

 

امتدادا للمضايقات:

 تقول بيلي إن مُشاركتك لصورة عفوية سخيفة أرسلها لك صديقك، أو تعليقك الساخر الذي أرفقته بمنشور، هو ما يُسمى باللحظات الصغيرة التي يُمكنها أن تكون بشعة! ولكن تسجيل حضورك الدائم على مواقع التواصل الاجتماعي وممارستك لكل تلك اللحظات الصغيرة البشعة هو ما يصنع مشكلة صغيرة، لتتطور فيما بعد لتُنتج مشكلات نفسية، أو التفكير بأفكار انتحارية.

 

دوبامين الـ Like

تستكمل بيلي مُحاضرتها واصفة هذه التجربة بالقيّمة إن استطعنا أن نقف بثبات على الحد الفاصل بين أن تكون تجربة قيّمة وبين أن تكون إدمانا لم يكن في الحسبان. فتقول: "في كل مرة يصلك إشعار بأن أحدهم أُعجب بصورتك أو بما كتبت، يخالجك ذاك الشعور السعيد المُبهج الذي حفزه الدوبامين. تميل لتفقد عدد الإعجابات لأنك بحاجة إلى الشعور أكثر بتلك المُتعة، وتشعر بأن قيمتك الاجتماعية أكبر وفقا للعملة المُتفق عليها في عالم التواصل الاجتماعي"، هُنا وفي هذه المرحلة التي تزداد فيها حاجتك إلى دوبامين "اللايك" مع الوقت، الاهتمام المتزايد بطلب قيمتك على المنصات الاجتماعية، وتفقد عدد الإعجابات لتمنحك السعادة، ونشر أكبر قدر ممكن من المنشورات والصور لأنك بحاجة إلى تقييم، وخوفك من فوات أمر لم تكن هناك لتواكبه، والمقارنات التي لا تنتهي؛ كل هذا يُنبئ بالاكتئاب والقلق.

وفي رأيها أن التظاهر والقول إن مواقع التواصل الاجتماعي ليست موجودة، أو إن هجرها قرار سهل، تراه مضيعة للوقت. فلا شك أنها موجودة، وضرورية في حياتنا، ولكن السر في استخدامنا لهذه الأداة. وبوصفها: "هي أداة حديثة لكل ما كُنا نفعله من قبل: نروي القصص، ونتواصل مع بعضنا البعض". وإن الجانب المُظلم لمواقع التواصل الاجتماعي هم البشر، البشر الذين قرروا استخدام هذه الأداة بطريقة خاطئة. الناس الذين قرروا أن يكتبوا تعليقا ساخرا على صورة شارَكتها ظانا أنها لطيفة، المضايقات التي تصلك لأنك على ديانة يُكَفّرها مُتابعك، التهديدات التي تُكتب علنا بسبب أفكار مُغايرة للمتلقي. الناس هم الذين أساءوا استخدام أداة هي بالأصل لم تكن إلا مُفيدة. فالجانب المظلم هو بسبب سوء الاستخدام، وليس بسبب مواقع التواصل نفسها، وتقترح بيلي أربع خطوات تزيد من وعي الفرد تجاه مكانه في مواقع التواصل الاجتماعي، والعمل على تحسين ما يُمكن تحسينه لتجنب الجوانب المُظلمة التي قد تؤثر عليه -وعلى غيره- سلبا:

- إدراك المُشكلة: إدراك أن المُشكلة في المستخدم وليست في الوسيلة نفسها، والوعي بأن المُبالغة في الاستخدام قد يعود عليك بمشكلات نفسية منها الاكتئاب.

 - مُراجعة تفاعلاتك: اسأل نفسك بعض الأسئلة: لماذا أستجيب لهذه الصورة بهذا الشكل؟ وقرر بعض القرارات تجاه نفسك: لن أقوم بالتحقق من الإعجابات أكثر من ذلك!

 - حَسّن تجربة التواصل: إذا لاحظت أن أحد من تُتابعهم يثير في نفسك المُقارنات ويهز من ثقتك بنفسك، فألغِ متابعته. إن شعرت بأن هُناك من يُضايقك بتعليقاته التي يظن بأنها ظريفة بالرغم من أنها العكس، فألغِ صداقته.

 - احرص على ألّا تكون مصدر إزعاج لغيرك، تواصل دون تنمر، دون إهانات. فليس من الطبيعي أن تكون سعيدا إذا أحبطت غيرك.

يُشير خبير مواقع التواصل الاجتماعي أدريان تشان إلى أننا نحظى بجمهورين على منصات مواقع التواصل الاجتماعي؛ جمهور قريب يتمثّل بالأهل، والأقارب، والمعارف، والزملاء، وجمهور آخر مجهول الهوية يحتمل وجوده في المجتمع. النقطة المُشتركة بين هذين الجمهورين هو "الاهتمام" ، وهو ما يجعل هذه الأداة -منصات التواصل الاجتماعي- مُتفردة، بحيث يمكن استغلال هذه الميزة للوصول إلى جمهورين مُختلفين إذا أحسن استخدام هذه الأداة لتكون أداة إيجابية لنشر أفكارك، وتدوين لحظاتك، وتكوين صداقات اجتماعية قيّمة وجديدة. في النهاية، وكما قالت بيلي بارنيل: "لا يُمكنك لوم تلفزيونات سامسونج لأنك شاهدت مسلسلا سيئا عبر شاشاتها، ولا يمكنك لوم تويتر لأنك قرأت تغريدة بغيضة عبر منصتها!".

*‏ الجزيرة/المعرفة

 

 

 

 

 


11/08/2022