×

  بحوث و دراسات

  بحر الصين الجنوبي والصراع الجيواستراتيجي



*د. نور جومر

 

 

منذ القرن التاسع عشر كان الموقع الجغرافي محدّداً للسلوك السياسي للدول و توجهاتها الخارجية و الذي كانت الدول تزيد من قدراتها العسكرية في سبيل السيطرة على ما يشكل بالنسبة لها موقعاً استراتيجياً يضمن لها الاستمرار في قوتها.

وهنا  فليس الموقع هو العامل الحاسم في هذه المسألة وحسب بل ما يوفّره هذا الموقع من موارد وثروات وكذلك جعل الدول دولاً مطلة على البحار المفتوحة والملاحة وأيضاً طرق المواصلات الدولية كقناة السويس مثلاً، ومن ناحيةٍ ثانية يحدد الموقع شكل الدولة, و يرسم لها حدودها بين جيرانها، و هو الذي يحدد العوامل البيئية و ما تسمح به بعض الأقاليم في الدولة من ارتفاع الكثافة السكانية أو انخفاضها تبعاً لمظاهرها الطبيعية.

يرى” روبرت غالبن” أحد رواد النظرية الواقعية أن ما كان يجعل الدول تتجه نحو الصراع هو الموقع الجيوبولتيكي لها الذي كان يدفع بالوحدات السياسية لزيادة قوّتها، ذلك أن النظريات الجيوبولتيكية  قد أعطت الشرعية لتوسع بعض الدول على حساب البعض الأخرى والتي كانت في مقدمتها نظرية (المجال الحيوي) لفريدريك راتزل، التي بررت لهتلر التوسع لضم الدول المجاورة لألمانيا بذريعة أن الدولة تنمو مثل الكائن الحي.

فهل عادت النزاعات الحالية لتكون ذات دوافع جيوبولتيكية؟

الجواب هو : بالتأكيد نعم, فرغم اختلاف و تنوع المبررات حول النزاعات منذ العام (م2000) إلا أن هذه الأسباب لا تنفكّ عن أنها ذات مضمون استراتيجي و جيوسياسي، لكن الأمر مختلف قليلاً بالنسبة لبحر الصين الجنوبي الذي يعد مجالاً حيوياً خصباً للكثير من الدول لموقعه الاستراتيجي الجامع لعدد من الجزر المطلة على المحيط الهادي، والذي يضم تجمعا سيادياً للدول المطلة عليه ومنها الصين وتايوان وفيتنام وبروناي،  والأكثر من ذلك أنه يحوي وبحسب التقديرات على قرابة (11) مليار برميل من النفط الخام وقرابة (190) مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي.

وهو الأمر الذي دفع الصين إلى تغيير سياساتها تجاه هذا البحر، لا سيما بعد زيادة القدرات الاقتصادية التي جعلت الصين تتبع سياسة توسعية لتفرض سيطرتها على هذا البحر من خلال نشر و زيادة قواعدها العسكرية و فرض نظام الدفاع الجوي الذي قد يحدث تغييراً جذرياً في الوضع القائم في المنطقة, هذا إلى جانب عدم اعترافها بتايوان كدولة، بل كجزء منتزع من الصين.

لكن ما الذي جعل الولايات المتحدة الأمريكية قلقةً من السلوك الصيني؟

حقيقة الأمر ورغم ما صرّح به الرئيس باراك أوباما بأن الولايات المتحدة تحتفظ بالقدرة على ردع السلوك الصيني إلا أن الرئيس دونالد ترامب كانت نظرته مغايرة تماماً لذلك, فقد رأى أن الصين أصبحت تشكل خطراً لمصالحها و تهديداً لحلفائها عبر قاعدة الصين الاقتصادية العملاقة, و هو ما جعله وبشكلٍ غير مسبوق وفي عدة مناسبات يهاجم الصين علانية إضافة إلى اتخاذه جملة من الاجراءات الاقتصادية حيالها، كان أخرها رفع الرسوم الجمركية.

فمنذ تسجيلها أرقام مخيفة في معدلات النمو الاقتصادي، و اكتساحها لأسواق العالم، لم تكن تتطلع الولايات المتحدة في السابق إلى أن التنين الصيني قد يكبر ويهدد مصالحها بشكل مباشر عدا عن أن الصين كانت تبتعد عن بؤر التوتر التي تكون الولايات المتحدة الأمريكية طرفاً فيها, إضافةً إلى سيطرة الاعتمادية المتبادلة على العلاقات بينهما ويعتبر هذا الاعتماد تجربة تاريخية فريدةً، جعلت الولايات المتحدة تبعد أنظارها عن النمو الصيني لأن الاعتبارات و المصالح الاقتصادية الأمريكية ذات أولوية عند العم سام.

اليوم نرى أن النظام الدولي يشهد وقائع غير مسبوقة في تاريخ علاقات الدول يجعلنا نعود للخلف إلى أوضاع الدول قبل الحرب العالمية الأولى .

فمن جهة تعاظم القدرات العسكرية و الاقتصادية للصين و سلوكها السياسي في بحر الصين، ونجاح الدبلوماسية الصينية في جذب أحلاف جدد .

و من جهة أخرى إقدام روسيا على تنفيذ عملية عسكرية في أوكرانيا و تحول هذه العملية إلى بؤرة صراع جديد في أوروبا، إضافةً إلى الخوف الأوروبي من مسألة الطاقة التي استطاعت روسيا التحكم بها.

فهل تغير الصراعات الجيوبولتيكية النظام الدولي القائم؟

هذا ما ستعرفه في الأعوام القليلة القادمة.

*كاتبة ومهتمة بالشأن السياسي

*صحيفة"الراي اليوم"اللندنية


14/01/2023