×

  بحوث و دراسات

  العملية ليوبارد .. كيف تخطط أوكرانيا لاختراق الروس واستعادة أراضيها؟



*شادي عبد الحافظ

 

 

إذا واتتك الفرصة لتزور شارع سومسكا في مدينة خاركيف، ثاني أكبر مدينة في أوكرانيا، فيمكن بسهولة أن تلاحظ العديد من الدبابات الروسية من فئة "تي-72 إيه في" (T-72AV) ملقاة جانبا وكأنها جبل صغير من القمامة. شهدت هذه المدينة معارك ضارية خلال بدايات الحرب بين فبراير/شباط وإبريل/نيسان 2022، كان أحد طرفيها هذه الدبابات، لكن الطرف الآخر لم يكن دبابة أخرى، ولا حتى عربة مدرعة، بل "القديسة جافلين".

وإذا كنت لا تعرف، فـ"القديسة جافلين" هو ميم انتشر على الإنترنت بكثافة شديدة في بدايات الغزو الروسي لأوكرانيا، فيه يظهر رمز ديني لشخصية تشبه القديسة تحتضن "صاروخ جافلين"(1) FGM-148) Javelin) المضاد للدبابات، أميركي الصنع، الذي استخدمه الأوكرانيون لمواجهة الروس، وبسبب آثاره الفعالة حقا في تحييد هجوم الدبابات، فقد أصبح مَن يحمله وكأنما يحصل على بركة من السماء، هذا الشخص صغير الحجم الذي يحمل سلاحا وزنه أقل من 20 كيلوغراما يستطيع عبر "جافلين" مواجهة دبابة تزن أكثر من 40 طنا!

و"جافلين" هو نظام محمول مثل الآر بي جي، طُوِّر لخدمة الجيش الأميركي، يبلغ مداه ألفَيْ متر، ويتمتع بمزايا عديدة مثل خفة الوزن وسهولة التشغيل إلى درجة أن أي شخص تقريبا يمكن أن يتدرب على تشغيله، لكن الأهم من ذلك أنه يتبع تقنية "أَطْلِق وانسَ" (Fire-and-forget) التي تُمكِّن المُطلِق من إصابة الهدف دون الحاجة إلى التصويب عليه بدقة، وذلك بفضل المعدات الإلكترونية والمستشعرات الحرارية والبصرية بداخل الصاروخ، التي تتتبع الحرارة الصادرة من محرك الدبابة أو أي مصدر للحرارة على متنها.

كل ما يتطلبه الأمر من الجندي في حالة "جافلين" (وكذلك الحال مع النظام البريطاني "نلوا" (NLWA) الذي استُخدم كذلك في أوكرانيا) أن يركز على الهدف -حتى إن كان متحركا- لمدة ثلاث ثوانٍ فقط ثم يضغط زر الإطلاق ويهرب. بعد الإطلاق، يطير الصاروخ بشكل مستقل نحو الهدف ويُجري التصحيحات اللازمة لمساره وفقا للبيانات التي حصل عليها من منظومة التتبع الخاصة به.

دفع النجاح الذي حققه "جافلين" والأنظمة المماثلة إلى التشكيك في دور الدبابات على أرض المعركة، سواء في الحالة الأوكرانية خصوصا أو في الحرب المستقبلية عموما، يجد هذا الرأي دعما أيضا من حرب ناغورنو كاراباخ الأخيرة عام 2020، حينما دُمرت الدبابات الأرمينية مثل لعب الأطفال بسبب الدرونز الانتحارية(2) (الذخيرة المتسكعة) الأذربيجانية تركية الصنع، وهو أمر تكرر في ساحات صراع أخرى مثل ليبيا وسوريا، فالأسلحة الجديدة المضادة للدبابات مثل "جافلين" أو الدرون الانتحارية تعمل بكفاءة في كل أنواع الطقس، وتأتي ضرباتها من أعلى، إلى جانب دقة شديدة في الاستهداف تبدو معها الدبابات سلاحا باليا عفا عليه الزمن.

 

عودة الدبابات

حتى وقت كتابة هذه الكلمات، يُعتقد أن روسيا قد فقدت نحو 1400 دبابة خلال الحرب في أوكرانيا، دفع ذلك أناسا مثل إيلون ماسك (الرجل الذي يعلق حاليا على كل شيء تقريبا) للقول إن الدبابات أصبحت أفخاخا للموت، لكنه لم يكن رأي ماسك فقط، فقد تساءل بالفعل عدد من متخصصي التقنيات العسكرية وجنرالات الحروب عن مصير الدبابات، ليس فقط في الحرب الأوكرانية، بل الحرب كلها.

لكن يبدو أن هذا النقاش لم يستمر طويلا، فبعد ما أنجزته القوات الأوكرانية من تقدُّم ونجاحها في الانتصار في عدد من المعارك على الروس، كل ذلك بالطبع بمساعدة السلاح الأوروبي والأميركي، سرعان ما برزت من جديد الحاجة إلى الدبابات القتالية الرئيسية من أجل الاستثمار في هذا النصر، واستغلال ما تحقق من اختراقات أحدثتها المدفعية في خطوط الروس، لاستعادة المواقع المحصنة فيما تبقى من الأراضي الأوكرانية في جنوب شرق البلاد.

في تلك المرحلة من الصراع، برزت الحاجة إلى "دبابات القتال الرئيسية"(3) (Main Battle Tanks)، وهي ببساطة أدوات للاختراق وفرض سيطرة القوات على الأرض، يمكنك أن تضرب أي أهداف بالطائرات والمسيرات وأنواع الصواريخ المختلفة، لكن في النهاية ستحتاج إلى أن تُدخل المشاة إلى أرض المعركة للتحكم في المواقع، والدبابات هي قوة متحركة بخفّة تضرب النيران المباشرة، ومحمية بالدروع الخفيفة، ولديها القدرة على المناورة.

تُثبت الحاجة الأوكرانية الحالية أن الدبابات سلاح لا يمكن تعويضه إلا بتقنيات متطورة في النطاق نفسه. في النهاية، لا تزال السيطرة على الأرض مهمة، خاصة إذا كان العدو يستخدم هو الآخر دبابات يجب عليك أن تمر خلالها قبل الوصول إلى مبتغاك، أضف إلى ذلك أن هناك مشكلة إضافية تجعل الدبابات مطلبا رئيسيا لأوكرانيا، فقد فقدت راجمة الصواريخ الأميركية "هيمارس" (M142 HIMARS)، التي دمرت القوات الروسية ببراعة خلال العمليات الأوكرانية المضادة في خريف 2022، امتيازاتها لأن الروس ابتعدوا أكثر عن مداها لتجنبها، كما أن إمداداتها قد تواجه نقصا خلال الشهور القادمة.

حاليا، تطلب أوكرانيا من حلفائها الغربيين 300 دبابة و500 مركبة مدرعة، بالإضافة إلى ما لا يقل عن 700 نظام مدفعي جديد، ويقول السياسيون في كييف(4) إن هذا سيمنحهم القوة القتالية لتحرير البلاد في حدود 23 فبراير/شباط (تاريخ بداية الحرب الروسية الأخيرة)، مع خطة ممتدة لتحرير شبه جزيرة القرم (تسيطر عليها روسيا عام 2014) إذا تمكَّنوا من الانتصار. يستخدم الجيش الأوكراني بالفعل دبابات من الحقبة السوفيتية تبرع بها الحلفاء من أوروبا الشرقية أو استولى عليها الروس، لكنها لا شك لا تُقارن بقدرات الدبابات الغربية المتطورة.

بالفعل قال مسؤولو البيت الأبيض إن وزارة الدفاع ستسلم مركبات "برادلي" القتالية (BFV) وناقلات الجند من طراز "سترايكر" إلى أوكرانيا في المستقبل القريب، وهي مركبات مدرعة يمكنها نقل جنود المشاة في مناطق القتال وتوفر قدرات دفاعية كبيرة، لكن الأهم أنها تمتلك مزايا هجومية أيضا، حيث يمكنها مهاجمة قوات العدو والمركبات المدرعة الخاصة به أثناء وجودها في قلب المعركة.

لكن السيطرة على الأرض لا يمكن أن تحدث فقط باستخدام المركبات المدرعة، يجب أن يكون هناك تناغم بينها وبين الدبابات، المركبات المدرعة تنتشر على الأرض لتتعامل مع المشاة من الأعداء وتحيّد صواريخهم المضادة للدبابات والخارقة للدروع (ATGM)، والدبابات تخترق الثغرات في خطوط العدو لدعم دخول المدرعات في المقام الأول، وبالتالي يتحقق نهج الحرب متحدة الأذرع (Combined arms)، وفيها تُدمَج الأسلحة القتالية المختلفة للجيش لتحقيق تأثيرات تكاملية.

 

توقف الإمداد

في تلك النقطة تحديدا يظهر الخلاف الذي تصدَّر العناوين خلال الفترة الماضية، فرغم أن بريطانيا وافقت بالفعل على تزويد أوكرانيا بدبابات قتال رئيسية من النوع "تشالنجر 2" (Challenger 2)، فإن العدد الذي تعهدت به قليل جدا (14 فقط)، كما أن قدراتها أقل من دبابات قتالية أخرى مثل الألمانية "ليوبارد" والأميركية "أبرامز"، والمشكلة الأكبر أن كلًّا من الولايات المتحدة وألمانيا ظلت تماطل طويلا في إرسال الدبابات إلى أوكرانيا، ويُلقي كلٌّ منهما اللوم على الآخر، قبل أن يتغير الأمر في الساعات الماضية، حيث نقلت وسائل إعلام في ألمانيا والولايات المتحدة أن البلدين وافقا بالفعل على إمداد أوكرانيا باحتياجاتها من الدبابات.

بالنسبة إلى الدبابة الأميركية، المعروفة باسم "أبرامز إم 1(5) (M1 Abrams)، فهي تتميز بمدى إطلاق طويل، وهي الآن واحدة من أثقل الدبابات في الخدمة، حيث تزن نحو 62 طنا متريا (ثقل الدبابة علامة تميز). دخلت الدبابة الخدمة عام 1980، وهي حاليا الدبابة القتالية الرئيسية لجيش الولايات المتحدة، وتُصدَّر إلى مصر والكويت والمملكة العربية السعودية وأستراليا والعراق وغيرها، وقد استُخدمت "أبرامز" لأول مرة في القتال في حرب الخليج الثانية، وكانت حاضرة في حرب أفغانستان وحرب العراق، كما شاركت في الحرب ضد تنظيم الدولة الإسلامية.

على الجانب الآخر تأتي(6) "ليوبارد-2" (Leopard 2) الألمانية، وهي كذلك واحدة من أقوى الدبابات في العالم، حيث يمكنها إصابة هدف بحجم ثلاجة على مسافة 3 كيلومترات، وقد استخدمها الجيش الألماني لعقود من الزمن، واستخدمتها جيوش من 13 دولة أوروبية أخرى، وكذلك جيوش دول مثل كندا وإندونيسيا، واستُخدمت خلال النزاعات في كوسوفو وأفغانستان وسوريا. بدأ تطوير دبابة القتال الرئيسية "ليوبارد-2" في السبعينيات، واعتُمدت دبابةً رئيسيةً عام 1979.

تمتلك كلتا الدبابتين مدفعا رئيسيا أملس من نوع "راينميتال" (Rheinmetall) بعيار 120 ملم، وتحمل كلٌّ منهما أكثر من 40 طلقة للبندقية الرئيسية، وتستخدم عادة نوعين رئيسيين من الذخيرة: طلقات خارقة للدروع، وأخرى متعددة الأغراض. وجُهِّزت كلٌّ منهما بدرع "شوبهام" (Chobham) متطور يوفر دفاعا قويا ضد الطلقات الخارقة للدروع والأسلحة المضادة للدبابات.

أضف إلى ذلك أن خزانات الوقود والذخيرة تكون في حجرات منفصلة لحماية الطاقم من خطر انفجار ذخيرة الدبابة في حالة تلف الخزان. وإلى جانب ذلك، تُجهَّز الدبابتان بحاسوب رقمي للتحكم في الحرائق، وأنظمة إخماد حريق أوتوماتيكية، لسلامة الطاقم. في النهاية، تتشابه الدبابتان في الكثير من المواصفات مع اختلاقات بسيطة، ويرجع ذلك إلى كونهما نتاج برنامج تطوير تقني أميركي ألماني مشترك في السبعينيات.

تُعَدُّ دبابات الناتو عموما أثقل(7) وأكثر حماية من التصميمات المشتقة من الحقبة السوفيتية التي استخدمها كلا الجانبين (الروس والأوكرانيون) في هذه الحرب، مثل الدبابات "تي-72 و"تي-64" و"تي-90، ففي حين أن دبابات المعارك الغربية الرئيسية الحديثة يزيد وزنها على 60 طنا، عادة ما يتراوح وزن الدبابات الروسية بين 40-50 طنا. أضف إلى ذلك أن سرعاتها للأمام أكبر بفارق يسير من الدبابات الروسية، والأهم أن سرعتها في التراجع للخلف أكبر بفارق تنافسي، ما يعني في المجمل قدرات أكبر على المناورة والسيطرة على الأرض.

في الواقع، يمكن لدبابة قتال غربية حديثة مثل "أبرامز" أو "ليوبارد" أن تضرب أهدافا على بُعد عدة كيلومترات وتتحرك بسرعة وتستوعب معظم أنواع نيران الدبابات الروسية، كما أن لديها تقنيات تصوير حراري وتكبير متطورة، ما يجعلها أكثر قابلية لاكتشاف وجود، ومن ثم ضرب، العدو مبكرا، يعني ذلك أننا بالفعل نتحدث عما يمكن اعتباره "نقطة تحوُّل" في مصير هذه الحرب.

 

العملية ليوبارد

تحظى "ليوبارد" باهتمام كبير حاليا من ناحية الأوكرانيين، ليس فقط لتفردها الشديد، ولكن نظرا لوجود الكثير من الدبابات من النوع "ليوبارد" بالقرب من أوكرانيا، فهناك نحو 2000 دبابة قتال من طراز "ليوبارد" تحتفظ بها حاليا 13 دولة في قارة أوروبا، وبالتالي فإنها جاهزة للسفر والعمل في أوكرانيا. أما بالنسبة لـ"أبرامز"، فيظل إمداد أوكرانيا بها محاطا بمشكلات لوجستية كبيرة، أضف إلى ذلك أن محركاتها التوربينية تستهلك كميات كبيرة من وقود الطائرات، وهو أمر مكلف للغاية، كما أنه يحتاج إلى خطوط إمداد ذات طبيعة مختلفة، على خلاف "ليوبارد" التي تعمل بالديزل.

في هذه النقطة تحديدا، ظل الأميركيون والألمان يتجادلون لفترة طويلة، الكونغرس الأميركي يرفض إمداد أوكرانيا بالدبابات "أبرامز" للأسباب السابقة، قائلا إن "ليوبارد" تبدو منطقية أكثر، بينما يؤكد(8) المسؤولون الألمان أنهم لن يرسلوا دباباتهم من طراز "ليوبارد" إلى أوكرانيا، ولن يسمحوا لأي دولة أوروبية أخرى فعل ذلك، ما لم توافق الولايات المتحدة أيضا على إرسال دبابات "أبرامز" إلى أوكرانيا. هذا التردد تقف وراءه مخاوف من أن إمداد أوكرانيا بالدبابات يمكن أن يحول الأمر فعليا إلى حرب بين روسيا وحلف الشمال الأطلسي، ويزيد من مخاطر التصعيد الروسي.

 

الكرملين: الدبابات الغربية سوف «تحترق»

وأعلن الكرملين، ، أنه في حال قامت الدول الغربية بتزويد أوكرانيا بدبابات ثقيلة، فإن تلك الآليات ستُدمَّر في ساحة المعركة، وذلك في وقت تنتظر كييف قراراً من برلين حول تسليمها دبابات من طراز «ليوبارد-2».

وقال المتحدث باسم الكرملين، دميتري بيسكوف، للصحافيين: «من الناحية التكنولوجية، الخطة فاشلة. هناك مبالغة في تقدير الإمكانات التي ستضيفها هذه الدبابات للجيش الأوكراني»، مضيفاً: «هذه الدبابات ستحترق مثل سواها. إنها باهظة الثمن فحسب».

كما عرض الكرملين مجموعة من الردود على خطط حلفاء كييف دعم القوات الأوكرانية بدبابات «ليوبارد».

فقد أعلن بيسكوف، في وقت سابق هذا الأسبوع، أن أي إمدادات من الدبابات الألمانية إلى أوكرانيا ستترك «أثراً لا يُمحى» على العلاقات الثنائية بين موسكو وبرلين.

وقبل ذلك، قال إن الأسلحة الغربية المرسلة لأوكرانيا من شأنها فقط إطالة أمد النزاع، ومفاقمة معاناة المدنيين الأوكرانيين في نهاية المطاف.

في الواقع، يُمثِّل إمداد أوكرانيا بهذا النوع من القطع التقنية العسكرية المتقدمة (ليوبارد) قفزة إضافية في الدعم الغربي لأوكرانيا، فذلك لا يعني فقط تطويرا حاليا لحرب قائمة، ولكنه بالتبعية يعني امتلاك الأوكرانيين قدرات تقنية عسكرية مؤثرة ستستمر خبراتهم فيها على مدى عقود قادمة، وهو ما يُقلق الروس.

الأهم أن كل ما سبق يأتي في ظل تراجع عسكري واضح لموسكو خلال الأشهر الماضية، رغم أن روسيا نجحت مؤخرا في تقليل خسائرها والتحرك من جديد للسيطرة على المزيد من المدن، بعد قرار بوتين(9) بتعبئة 300 ألف جندي إضافي وتعديل انتشار القوات في المدن الأوكرانية وتغيير الإستراتيجيات القتالية. يضع ذلك حملا ثقيلا على الألمان تحديدا ومن خلفهم بقية دول الناتو ودفعهم لاتخاذ القرار الصعب بتوريد الدبابات إلى كييف. ويبقى التساؤل الرئيسي هنا: كيف ستغير "ليوبارد" وجه المعركة في أوكرانيا؟ وهل ستقرب الحرب من نهايتها أم أنها ستكون بداية لمرحلة جديدة من التصعيد؟

*موسوعة المعرفة


25/01/2023