*محمد الزغول
*مركز الامارات للدراسات
أثبتت تجربة الأشهر الماضية جدوى حملة الضغوط الدوليّة في تليين الموقف الإيراني، خاصّةً بعدَما جاءت هذه الضغوط بتناغُمٍ كامل بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. واستخدمت مزيجاً مُحكماً من الضغوط السياسيّة والاقتصاديّة؛ الداخليّة والخارجيّة.
من غير المُرجَّح أن يُشكِّلَ التوافق الأخير بين الوكالة الدوليّة للطاقة الذريّة والحكومة الإيرانية بداية العودة إلى الاتفاق النووي، أو يُنهي الخطوات التصعيدية الإيرانية في هذا الملف.
ثمة مخاوف مشروعة، تدعمها تجارب تاريخية مريرة، من أن تهدفُ التنازلات الإيرانية الأخيرة على الصعيد النووي إلى منح مشروع إيران النووي فسحةً من الوقت، يمكنُ للنظام الإيراني خلالها الاستمرار في تطوير برامجه النووية والصاروخية، وصولاً إلى تجاوز العتبة النووية.
على حافّة الهاوية يُقيمُ البرنامج النووي الإيراني منذُ نحوِ عقدَيْن، لكنّه لم يكُن في أيّ وقتٍ مضى، أقربَ إليها ممّا هو عليه الآن. كان ظهورُ تقريرٍ غير رسميّ، لأحد مُفتِّشي الوكالة الدولية للطاقة الذريّة، يقول فيه إن المفتشين عثروا على آثار يورانيوم مُخصَّب بنسبة 84%، تطوُّراً غير تقليديّ أثار حفيظة المجتمع الدولي، وأطلق العنان لهواجس القوى الإقليمية.
إذ قدّم إشارة بالغة الدلالة على اقتراب إيران من الحدود التقنية الكافية لصنع القنبلة النووية. أعقب الحدث زيارات ولقاءات أمنيّة وعسكرية على أعلى مستوى، وتصريحات مواربة، تُنبئُ بشيء ما يجري تحضيره على عجل.
وفي ضوء جدار العُزلة المُحاك من حولِه، كان النظام الإيراني بحاجة ماسّة إلى فتح نوافذ، تُتيح له فرصةَ التنفُّس، والتحرك.
وكانت النافذة الأولى التي تمكّن النظام من فتحها، هي التوافق المبدئيّ مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، والذي جنّبَ النظام تلقِّي قرارَ إدانةٍ جديدٍ من مجلس حُكّام الوكالة، وتمثّلت النافذة الثانية في التوافق على إعادة العلاقات مع المملكة العربية السعودية.
إذْ شَكّل نبأ الاتفاق بين البلدين بعد جولة مفاوضات قصيرة في بيجين، مُفاجأةً وضعت اللاعبين الإقليميين والدوليين أمام احتمالات جديدة.
وأكّد مسؤول في إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن، أنّ الاتفاق السعودي-الإيراني أظهر نجاعةَ حملة الضغوط على إيران. وقد تؤدي هذه القناعة إلى تعزيز الضغوط التي يمارسها الغرب ضد إيران للحصول على تنازلات في ملف التعاون الإيراني-الروسي في الحرب على أوكرانيا، وفي الملف النووي.
التصعيد في الوكالة الدولية للطاقة الذريّة
قُبيل اجتماع مجلس حكام الوكالة الدولية للطاقة الذرية، تحرَّكَ الثلاثي الأوروبي (ألمانيا وفرنسا وبريطانيا) نحو تصعيد اللهجة حيال البرنامج النووي الإيراني. وأصدرت الدول الثلاث بياناً مُشتركاً يُندِّدُ بالخطوات التصعيديّة الإيرانيّة، ويُلوِّح بإحالة الملف النووي إلى مجلس الأمن.
وبدأت الدول الثلاث استعداداتها لاستخراج قرار إدانةٍ جديدٍ حول البرنامج النووي الإيراني في مجلس حكام الوكالة.
وكان من شأن هذا القرار المفترض الذي سبقه قرار إدانة سابق، أن يفتح الطريقَ أمام إحالة الملف النووي الإيراني إلى مجلس الأمن، وأنْ يُمهِّد لاستخدام أطراف الاتفاق النووي "آلية الزناد"، وهي آليّةٌ أقرّها أطراف الاتفاق النووي لعام 2015، ويمكنها إعادةُ الملف النووي الإيراني إلى نقطة الصفر، وإعادة فرض العقوبات الدوليّة التي كان قد ألغاها اتفاق 2015، من دون الحاجة إلى تصويت مجلس الأمن.
وعلى الرغم من أهميّة التطورات الجارية في الملف النووي، لكنّ جُزءاً مُهمّاً من حملة التصعيد الأوروبية هذه، إنّما يأتي مدفوعاً بالسخط الأوروبي من تدخُّل طهران في الحرب الروسية على أوكرانيا. وحتى في الساحة الإيرانية، بات العديدُ من المُحلِّلين، ومراكز التفكير، يرون أنّ الملف النووي الإيراني شارف على العودة إلى نقطة الصفر، وأنّ المفاوضات النووية انهارت بالفعل.
لكنّ التقدير الأكثر شيوعاً هو أنّ حملة التصعيد الأوروبية جاءت في سياق الضغط على طهران من أجل تليين موقفها، ودفعها نحو العودة إلى طاولة المفاوضات، والتنازل عن خطواتها التصعيدية.
وتُشير معطيات ميدانيّة إلى أن الحملة الأوروبيّة تستهدف أيضاً دعم موقف حكومة إبراهيم رئيسي الراغبة بإحياء مسار المفاوضات، في وجه تياراتٍ أكثر تشدُّداً داخل النظام الإيراني، ترفض العودة إلى طاولة المفاوضات، وتتطلّعُ إلى امتلاكِ سلاح الرّدع النووي.
وممّا يدعم هذه القراءة، أنّ الاتحاد الأوروبي أطلقَ مساراً مُوازياً لمسار التصعيد الذي انتهجه الثلاثي الأوروبي عبرَ فتحِ قنواتِ تواصلٍ، تمثّلت في زيارة وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان إلى جنيف، بداعي المشاركة في اجتماع مجلس حقوق الإنسان، والتي التقى خلالها بنظراء أوروبيين، وسطَ إشاعاتٍ عن مشاركة مساعد وزير الخارجية الإيراني في عهد حكومة روحاني؛ عباس عراقجي في هذه اللقاءات.
وأشارت أنباء إلى معارضة الولايات المتحدة تحرك الثلاثي الأوروبي نحو استخراج قرار من مجلس حكام الوكالة الدولية للطاقة الذرية؛ ما له دلالات على صعيد وضع إيران بين خياري التصعيد والتنازل على أعتاب مجلس الحكام التي اعتبرها أطراف فرصة لإعادة إيران إلى المسار الدبلوماسي النووي.
وليس الثلاثي الأوروبي الطرف الوحيد الراغب بإعادة الملف النووي إلى نقطة الصفر هذه الأيام.
فهناك إسرائيل التي قالت على لسان بعض مسؤوليها إنّها تتوقع عودة الملف النووي الإيراني إلى مجلس الأمن قريباً. وتُعلِن إسرائيل منذُ سنوات طويلة، وبشكلٍ مُتكرِّر، إنها سوف تتحرّك عسكريّاً لمنع طهران من الحصول على القنبلة النووية إذا لزم الأمر.
لكنّ التهديدات الإسرائيلية بدأت منذ نحو سنتين تتّخذُ طابعاً ميدانيّاً مُتزايداً، سواءً على مستوى رفع الجهوزية والاستعداد لتوجيه الضربة العسكرية، أو على مستوى تخطيط، وتنفيذ عمليّات تخريبية، واستخباريّة تمهيديّة، وإجراء توافقات، وترتيبات سياسيّة إقليمية ودوليّة لتسهيل الضّرْبة، وزيادة فاعليّتها المحتملة، وتقليل آثارها، وضبط ارتداداتها.
إيران تتجاوب بتنازُلات أوّليّة، لكنّها تنازُلات!
يتزايدُ الوعي الغربي بوجود فجوةٍ بين حكومة رئيسي، ومراكز صنع القرار في الدولة العميقة بشأن عدّة ملفات سيادية، من ضمنها ملف التدخل في الحرب الروسية على أوكرانيا، وملف العودة إلى الاتفاق النووي.
وأشار مساعدُ المفوض الأوروبي للسياسة الخارجية إلى هذه الفجوة التي يؤكدها تبايُن مواقف المسؤولين الحكوميين، عن مواقف منتسبي الدولة العميقة.
وفي سياق هذا الوعي، يأتي مسار التصعيد الأوروبي للضغط على الجبهة الداخلية الإيرانية، ودعم الأطراف الأكثر مرونةً في وجه التيارات الأكثر تشدُّداً عبر حزم متتالية من العقوبات المدعومة بخطوات سياسية مثل: وضع الحرس الثوري على قائمة الإرهاب، وتفعيل آلية الزناد، ودعم المعارضة الإيرانية، وإخراج الاتفاق النووي من دائرة الأولويّات الأمريكية. وكلُّ ذلك بهدف انتزاع التنازلات من الجانب الإيراني.
وتُفيد مؤشرات داخلية بأنّ حكومة إبراهيم رئيسي حاولت أيضاً ممارسة الضغوط على الدولة العميقة للتوافق مع رغبتها بالعودة إلى المفاوضات النووية، وإظهار بعض المرونة في الانفتاح على المجتمع الدولي.
وفي هذا السياق يُمكنُ فهم تلكُّؤ الحكومة في ضبط سوق العملة الإيرانية لأكثر من ثلاثة أشهر متتالية، وسماحها بحصول انهيارات قياسيّة على الرغم من امتلاك الحكومة الأدوات اللازمة لوقف الانهيار، وكذلك تلكُّؤ الحكومة في ضبط الارتفاعات في أسعار السلع الأساسيّة والعقار.
ويبدو أنّ حملة الضغوط الخارجية والداخليّة أثمرت أخيراً؛ إذْ صدرت عن النظام مواقف تهدئة على الصعيدين النووي، والإقليمي.
ودعت طهران أمين عام الوكالة الدولية للطاقة الذرية لزيارة عاجلة إلى طهران، ووقّعت معه اتفاقَ تفاهُمٍ، قبلت بموجبه طهران خضوع المواقع النووية المشتبه بها، لتفتيش مُكثَّف. كما قاد أمين المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني، علي شمخاني جهود الدولة العميقة للتهدئة الإقليمية، والتي تُوِّجت بإعلان التوافق السعودي-الإيراني في بيجين، والزيارة المهمّة التي أجراها شمخاني إلى العاصمة الإماراتية أبوظبي.
وترافق ذلك مع صدور مواقف إيرانية، أرسلت إشارات إيجابية إلى الجانب الغربي، من ضمنها: إعلانُ طهران التوصُّل إلى اتّفاقٍ بشأن تبادُل السجناء مع واشنطن عبر وساطةٍ عُمانيّة، وتأكيدُ وزير الدفاع الإيراني أنّ طهران لم تتسلًّم بعدُ الطائرات الروسيّة، وأنها لا تخطط للحصول على أنظمة الدفاع الجوي الروسية المتطورة. وذلك إلى جانب إشاراتٍ حول تراجُع روسيا عن فكرة التزوُّد بالصواريخ الباليستية الإيرانية.
وفي مقابل هذه التنازلات الأوليّة الإيرانية، أكّد الجهاز السياسي للاتحاد الأوروبي، أنّه ملتزمٌ بإحياء المسار الدبلوماسي، وعودة الأطراف إلى الاتفاق النووي، كما استبعد الثلاثي الأوروبي، خيارَ قرارِ الإدانة الذي يُمهِّد لإحالة الملف النووي الإيراني إلى مجلس الأمن، ويتيحُ اللجوء لـ " آلية الزناد".
وعلى الرغم من أنّ التوافق بين الوكالة الدوليّة للطاقة الذريّة والحكومة الإيرانية نزعَ فتيل الأزمة قُبَيْلَ اجتماع حكام الوكالة، لكنْ من غير المُرجَّح أن يُشكِّلَ بداية العودة إلى الاتفاق النووي، أو يُنهي الخطوات التصعيدية الإيرانية.
وذلك لعدة أسبابٍ، منها: أنّ التوافق جرى بين الوكالة الدولية، والحكومة الإيرانية التي لا تمتلك زمام المبادرة في الملف النووي. وعلى الرغم من التناغُم الظاهري الذي بدا بين الحكومة ومراكز صنع القرار السيادي بشأن التوافق مع الوكالة حول زيادة التفتيش في بعض المراكز، فإنّ المضيّ قدُماً نحو تنازُلات أكبر، سوف يُواجَه برفضٍ قاطعٍ في مراكز الدولة العميقة.
وكانت جهات مقربة من مراكز صنع القرار السيادي، طالبت بإخراج الملف النووي من وزارة الخارجية، ووضعه في يد المجلس الأعلى للأمن القومي، الذي يبدو أكثر انسجاماً مع رغبات الدولية العميقة.
أما الإشارات الإيجابية التي أرسلتها إيران حول التعاون العسكري مع روسيا، فخرجت من مصادر حكومية، تبدو غير معنيّة، وغير مُنخرِطة أساساً في مسار التعاون العسكري مع روسيا.
وعَمليّاً، ليس هنالك ما يُشير إلى توقّف تزويد روسيا بالأسلحة الإيرانية، بل إن حداد عادل؛ صهر خامنئي، والمسؤول البارز في مؤسسة "بيت القائد"، أكّد أن قرار التعاون الاستراتيجي مع روسيا كانَ قراراً صائباً، ويحملُ مصالح استراتيجية لإيران.
وممّا يُشير إلى هشاشة التوافق بين الحكومة الإيرانية والوكالة الدولية للطاقة الذرية الذي حصل في ظل صمت مؤسسات الدولة العميقة، أنه لم يأتِ نتيجة تناغم بين الحكومة وتلك المؤسسات، بمقدار ما جاء حصيلة ضغوط خارجية وداخلية، استهدفت دعم موقف الراغبين بالعودة إلى المفاوضات داخل النظام، على حساب موقف الدولة العميقة الرافض للفكرة.
وبالتالي لا يُمكن اعتباره موقفاً توافقيّاً، بمقدار ما هو استجابةٌ اُنتُزِعَت تحت الضغط؛ ما يجعله توافقاً ظرفيّاً مرتبطاً برغبة النظام في تجنيب البلاد تصعيداً إضافيّاً في المرحلة الراهنة عبر تفعيل آلية الزناد أو إحالة الملف النووي إلى مجلس الأمن.
خلاصة واستنتاجات
لا يتوافر -حتى الآن- القدر اللازم من البيانات، والمؤشرات لحسم ماهيّة التوافق الإيراني-السعودي الجديد. ولا يُعرَفُ على وجه التحديد، ما إذا كان خطوة مستقلّة عن مسار المفاوضات الإيراني-الغربي، أم أنّه جزءٌ من اتفاقٍ أكبر، وغير مُعلن، تمّ التوصُّل إليه بين إيران والغرب، أدّى إلى تلك التهدئة المُفاجئة بين إيران والوكالة الدولية للطاقة الذرية، وأطلق هذا المسار المتسارع من الانفتاح الإيراني على دول الجوار الإقليمي، والإشارات الإيجابيّة المُوجَّهة للأطراف الغربية.
ولا يزالُ السيناريو الأكثر ترجيحاً، أنّ الخطوة التوافُقيّة بين الحكومة الإيرانية، والوكالة الدولية للطاقة الذرية، لن تستطيع إعادة الملف النووي الإيراني إلى المسار الدبلوماسي في أيِّ وقتٍ قريب، وذلك على الرغم من أنّها نجحت في إبعاد الملف النووي الإيراني عن الذهاب نحو مستوىً جديدٍ من التصعيد.
إذْ كانت إحالة الملفّ النووي الإيراني إلى مجلس الأمن الدولي، وتفعيل آلية الزناد تعني قطعاً انهيار الاتفاق النووي بشكل كامل، وربما كانت ستعني أيضاً نهاية المسار الدبلوماسي لحلّ الأزمة النووية الإيرانية.
لقد أثبتت تجربة الأشهر الماضية جدوى حملة الضغوط الدوليّة في تليين الموقف الإيراني، خاصّةً بعدَما جاءت هذه الضغوط بتناغُمٍ كامل بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي.
واستخدمت مزيجاً مُحكماً من الضغوط السياسيّة والاقتصاديّة؛ الداخليّة والخارجيّة.
وفيما توفِّر الوساطة الصينيّة قدراً معقولاً من الثّقة باستدامة مسار التهدئة الإقليمية الأخير؛ إذ تُعدُّ بيجين ضامناً موثوقاً لالتزامات الأطراف بما تملكه من تأثير ونفوذ في طهران والعواصم الإقليمية والدولية.
لكن في المقابل، هناك مخاوف مشروعة، تدعمها تجارب تاريخية مريرة، من أن تكون التنازلات الإيرانية الأخيرة على الصعيد النووي، تهدفُ إلى منح المشروع النووي الإيراني فسحةً من الوقت، يمكنُ للنظام الإيراني خلالها الاستمرار في تطوير برامجه النووية والصاروخية، وصولاً إلى تجاوز العتبة النووية.
ومن المرجّح أنّ المواد النووية عالية التخصيب التي عَثَر عليها مفتشو الوكالة في أحد المواقع النووية الإيرانية، لا تُمثِّل طفرةً عشوائيّةً، بمقدار ما توفِّر أدلّةً على تقدُّم الجهود الإيرانيّة لتخصيب اليورانيوم بنسبة 90% اللازم لصنع القنبلة، وتراجُع الهامش الزمنيّ المتاح أمام العالم، إذا ما أراد منْع إيران من بلوغ العتبة النووية.
*محمد الزغول، مدير وحدة الدراسات الإيرانية في مركز الإمارات للسياسات.