×

  رؤا

لماذا الاغتيال أساس الحياة السياسية في العراق؟

09/11/2021

رستم محمود:

لماذا الاغتيال أساس الحياة السياسية في العراق؟

 

‏ *الحرة..8 نوفمبر 2021

كُل تفصيل سياسي وجنائي من مشهد محاولة اغتيال رئيس الوزراء العراقي، مصطفى الكاظمي، متطابق تماما مع ما كانت عليه الحياة السياسية في العراق طوال قرن كامل مضى، هو كامل تاريخه. حيث كان ولا يزال الاغتيال هو الفاعل الأكثر ثباتا وديمومة وحيوية في مسارات ذلك التاريخ، وغالبا كان الاستراتيجية الوحيدة لأغلب الشخصيات والقوى السياسية التي حاولت النفاذ والهيمنة على هذا البلد، القلق في كل تفصيله، والمتلهف لنبذ كل استقرار.

من بين ثلاثة ملوك حكموا العراق، اغتيل اثنان، ومعهم الوصي على العرش، الذي كان الحاكم الفعلي للعراق طوال سنوات طويلة (1939-1953). قتل الملك غازي بمؤامرة اُتهم فيها البريطانيون، لكن فقط لأن غازي نفسه كان مُتعاطفا مع النازية، ويملك نزوعا خرافيا حول الصراعات والأمم العُظمى، ويسعى للثأر من الإنكليز، الذين حسبه، تخلوا عن جده الشريف علي ابن الحسين، وقبلوا بهيمنة آل سعود على مملكتهم الحجازية، أي كان رهينة حكاية وقضية خارج العراق، تفوق مملكته حجما وطاقة.

عبد الكريم قاسم، الزعيم السياسي الذي يعتبره العراقيون حتى الآن الأكثر تمثيلا لقيم ومعنى "الوطنية العراقية"، كان هو نفسه الذي فتح جحيم القتل العدمي الأرعن في هذه البلاد، حينما سمح للرعاع من ضباط وجنود جيشه بالفتك بالعائلة المالكة، كبيرهم وصغيرهم، سياسيهم ومدنيهم، ومعهم الوزراء والمسؤولون وعائلاتهم، وذلك صبيحة انقلابه الشهير في الرابع عشر من تموز من العام 1958.

غير الروح العسكرية الانتقامية، فإن قاسم كان محملا بطيف من خطابات القومية الوطنية الشعبوية، التي كانت تملك هياما مفرطا بالقوة، القومية الوطنية المستمدة من التجربة الألمانية، التي كانت الإرث العقلي والسند الروحي للعسكر الذي حاولوا الانقلاب على الحكم الملكي لأول مرة عام 1941 بقيادة، رشيد عالي الكيلاني، وحينما فشلوا عُلقت جثث ضباطهم في الساحات العامة، فراكموا حقدا كان يُستحال كبته، وقاسم كان من نسل تلك المرحلة.

لسوء أقدار فظيعة، فإن شريك قاسم في انقلابه الشهير، الضابط عبد السلام عارف، كان في قيادة الانقلاب على قاسم نفسه بعد خمس سنوات فحسب، وبالشراكة مع تنظيمات حزب البعث. ذلك الانقلاب الذي اُغتيل قاسم على يد منفذيه، وعبر وابل من الرصاص، بعد محاكمة استمرت لنصف ساعة فحسب.

عارف نفسه انقلب على شركائه البعثيين بعد شهور قليلة، لكنهم أيضاً اُتهموا بعد سنوات باغتياله، عبر إسقاط طائرته عبر مؤامرة مُدبرة. ما لبث البعثيون، وبشراكة أجنحة أخرى من التيار القومي، أن انقلبوا على شقيق عارف عام 1968، وفتحوا بابا واسعا ليكون الاغتيال كُل الحياة السياسية والعامة في البلاد.

اغتال البعثيون شركائهم في الانقلاب من أعضاء الحركة القومية، لاحقوهم في المنافي ومحقوا إرثهم المتبقي في البلاد. وفي قاعة الخُلد الشهيرة، فتك، صدام حسين، برفاقه في قيادة البعث، وعلى الهواء مباشرة. شارك البعثيون نظراءهم الشيوعيين لشهور قليلة، ما لبثوا أن محقوهم، حاولوا اغتيال الزعيم الكُردي المُلا مصطفى البارزاني عام 1971، بعدما كانوا قد اتفقوا معه قبل شهور فحسب على تقاسم السُلطة في البلاد. لم يُبقوا زعيما واحدا لأي من التنظيمات السياسية إلا وسعوا لمحقه. مدنيون وإسلاميون، شيعة وسُنة، أكرد وعرب.

بدورهم، تعرض الزعماء السياسيون البعثيون لكم هائل من محاولات الاغتيال، العشرات منها حاولت استهداف، صدام حسين، نفسه، بعضه كان من تدبير أبناء عشيرته المُقربين، مثل المحاولة الشهيرة لسطم غانم الجبوري، وأخرى من أعضاء قيادة جيشه، مثلما حاول الضابط بارق الحاج حنطة.

استمر ذلك العُرف بعد العام 2003، على الرغم من أن الرئيس العراقي، جلال الطالباني، كان أول رئيس عراقي يرحل بحالة وفاة طبيعية، ومنذ موت الملك فيصل الأول. لكن جنازته قاطعتها الأغلبية المُطلقة من القوى السياسية العراقية. حيث بقيت الحياة السياسية في العراق محافظة على الاغتيال كأساس عميق لكل شيء، وإن كانت قد تبدلت بعض أشكاله، من اغتيال زعيم سياسي هنا وآخر هناك، إلى اغتيال جماعة طائفية ما عبر تسليم مناطقها لتنظيم وحشي مثل داعش، أو اغتيال جماعة قومية أخرى عبر قطع حصتها من الميزانية العام وفرض حظر تام عليها.

في كُل تفصيل من كُل تلك الحكايات ثمة تركيب رهيب من ثلاثة مؤثرات، ما كان العراق قادرا على الفكاك منها.

فمن الملك غازي إلى الذين استهدفوا الكاظمي، ثمة خارج ما مُتدفق نحو العراق. خارج له ممثلون ومُعبرون في المشهد العراقي، يفضلونه على كل الفضاء العراقي، ومستعدون للموت في سبيله. هذا الخارج حاضر وفعال لهذه الدرجة، لأن العراق كيان مُركب إلى هذا الحد، كيان مُشكل بعسر بالغ، مفروض على أناس ومجتمعات ما كان لها رأي أو قبول بما فُرض عليهم كيان. ولأجل ذلك بالضبط، كان ثمة من ضمن العراقيين من هو مُستعد لأن يكون ذا وشائج مع ذلك الخارج أكثر من أية رابطة مع مساحة البلاد الداخلية.

لكن الأهم في مسألة الخارج، أنها كانت تعني أن العراقيين يجب أن يخوضوا فيما بينهم حربا داخلية مفتوحة، أساسها الصراع على العراق نفسه، روابطه وتبعيته مع أي جهة من جهات الخارج هذا.

إلى جانب الخارج، وفي كل حادثة من تلك، كان ثمة خضور لإيديولوجية مُفعمة بالخطابية الزاجرة. حيث كان منفذو الاغتيالات كل مرة يرون فيما يقومون به فعلا خلاصيا خيرا، من أشرار ملوثين بكل أشكال الخطيئة.

ذلك الفيض الإيديولوجي الخطابي العراقي متأتٍ من أعماق البنية التأسيسية للمجتمع العراقي، كبلاد للشعر الفصيح والمواويل الحزينة، البلاد التي كانت مصدرا للأساطير الخلاصية والذاكرة الجمعية المتخمة بالبطولات والأمجاد المتخيلة، وقلبها بنية تربوية وعسكرية خالية من كُل رقة وقيمة للتعايش، أرسى جذورها متعصبون فاشيون من أمثال ساطع الحُصري، الذين شكلوا عالم المناهج واللغة العامة في البلاد.

أخيراً، فأن الاغتيال في المشهد هو تعبير عن أصالة الثأر في العقل الجمعي، المستند إلى روح العشيرة، التي ما تغيرت، وإن لبست ربطة عُنق أو ارتدت سُترة عسكرية.

فالملك غازي كان يحاول أن يثأر لجده، وقاسم لرفاقه الضُباط الذين شاهد جُثثهم معلقة عقب فشل انقلاب عام 1941. عارف ثأر من قاسم الذي أخرجه من الحُكم، بعدما كان نائبه وكاتم أسراره، فصار مُجرد سفير ومن ثم سجينا سياسيا. البعثيون ثأروا من الأخوين عارف لأنهما أخرجوهم من الحُكم. ومن بعدهم ثأروا من المُلا مُصطفى البارزاني لأنه فرض عليه شراكة عربية كُردية، تتنافى مع مخيلتهم عن "العشيرة الأقوى". وبعدها ثأرت عشيرة الجبور من صدام الذي حرمهم من نُعمة الحُكم وخص بها أبناء تكريت، وضُباط صدام حاولوا الثأر منه لأنه كان سبب هزيمتهم في الكويت.

في روح الثأر هذه، لا محاكمات ولا غفران، لا تفكير عميق بمساومة مدنية ذات معنى وقيمة مضافة، وأولا لا قطيعة نهائية مع ماضٍ يرفض أن يموت، لكنه يقتل كُل ما في طريقه. وراهنا، أحلام وتطلعات الملايين من شُبان العراق، الذين لا يستحقون إلا شيئاً واحدا، العيش بأمان.

  مواضيع أخرى للمؤلف
←  إقليم كردستان متفائل بالأصول الكردية لبزشكيان
←  بعد قرن من الجمهورية... هكذا يُعرّف كرد تركيا قضيتهم
←  أزمة رئاسة مجلس النواب تحيي دعوات لإقليم سنّي
←  الكرد يحرمون أردوغان من الفوز بالانتخابات في الجولة الأولى
←  كركوك...الماضي السياسي يُدير الحاضر ويُنذر بمستقبل مضطرب
←  الاحزاب في تركيا تستميل الأصوات الكردية من دون حقوق أصحابها
←  لماذا الكرد قيمة مضافة لحركة التغيير في منطقتنا!
←  الخزرجـــــي والحـــــــائط
←  شيعة العراق.. طائفة تصبح شعبا
←  الدرس السوفياتي من جديد.. روسيا تواجه حتمية التاريخ
←  الإسلام السياسي في كردستان.. البقاء في الهامش السياسي
←  لماذا الاغتيال أساس الحياة السياسية في العراق؟