ما الذي تتوقعه أميركا من أردوغان بعد فوزه بدورة حكم جديدة؟
طارق الشامي:
سارع الرئيس الأميركي جو بايدن إلى تهنئة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بفوزه بالانتخابات التي ستسمح له بالبقاء في السلطة ليستكمل مدة ربع قرن، لكن علاقة تركيا بالولايات المتحدة لا تزال شائكة، إذ من المرجح أن يواصل الرئيس التركي الاستفادة من موقفه المتأرجح بين الغرب وروسيا ودول أخرى لتعزيز نفوذه الجيوسياسي، وقد يجدد حملته ضد وحدات "حماية الشعب الكردية"، وربما يواصل جهوده لتطبيع العلاقات مع سوريا، بينما لا يزال يرفض انضمام السويد لحلف "الناتو"، ومع ذلك فإن واشنطن استفادت أحياناً من وضع تركيا هذا بالتوسط في اتفاق في شأن تصدير الحبوب الأوكرانية عبر البحر الأسود، وكذلك في تبادل الأسرى بين الأطراف المتحاربة، كما عمل أردوغان على خطوات إصلاحية مع الخصوم الإقليميين السابقين، فما الذي تتوقعه أميركا من أردوغان بعد فوزه بالانتخابات؟
سياسة مستمرة
يتفق معظم المحللين في واشنطن على أن فوز أردوغان بأكثر من 52 في المئة من الأصوات ضد منافسه كمال كليتشدار أوغلو، إضافة إلى فوز الأحزاب التي تدعمه بالغالبية في البرلمان، يعني أن تركيا ستدخل فترة أخرى من صنع القرار المركزي، ولكنها أيضاً فترة من الاستقرار السياسي، وأن أردوغان بعد أن تخطى أكبر تحد انتخابي له سيركز انتباهه على تثبيت رؤيته عن مكانة تركيا على الخريطة باعتبارها قوة عالمية طموحة، ولهذا يرجح أن تستمر السياسة الخارجية التركية على ما هي عليه الآن من شبه استقلال استراتيجي والحفاظ على التوازن والتحوط بين القوى العظمى، وإن كان ذلك يبدو صعباً من وجهة نظر المراقبين في العاصمة الأميركية، كون تركيا لا تزال تتعافى من زلزال مدمر، وتتعامل مع اضطرابات مالية، وتواجه تحديات أمنية في جوارها.
ومع تأمين فوزه في الانتخابات ليل الأحد، وتأكيده أن الإثنين يصادف ذكرى "فتح القسطنطينية" عام 1453، رسم أردوغان مساراً من الماضي إلى مكانة تركيا الجديدة على المسرح العالمي يستحضر من خلاله ذكريات الماضي العثماني، في محاولته التنافس مع القوى الإقليمية الأخرى للتأثير في المجتمع الإسلامي في جميع أنحاء العالم، بالتوازي مع سعيه إلى توسيع نفوذ تركيا السياسي عبر الشرق الأوسط وفي آسيا الوسطى، وعبر بناء صناعة السلاح ولعب دور رئيس في الأزمة المحيطة بالحرب في أوكرانيا والحروب في سوريا والعراق وليبيا.
ووفقاً لهذا التصور، سيتعين على واشنطن والعالم التعامل مع شخصية لا يمكن التنبؤ بها، بعد أن نجا أردوغان من محاولة انقلاب وأزمات متعددة في الداخل، وأصبح أكثر ارتياحاً في اتباع سياسة انتزاع التنازلات من الحلفاء والخصوم على حد سواء، بينما يسعى نحو تأمين إرثه الخاص، بحسب ما تقول صحيفة "وول ستريت جورنال".
ويشير مدير برنامج الأبحاث التركي في معهد "واشنطن" لسياسة الشرق الأدنى سونر كاجابتاي إلى أن أردوغان سيستمر في التعامل وفق قاعدة "العمل كالمعتاد" لأن التاريخ يلقي بثقله على عقل الرئيس التركي.
التعامل مع الغرب
أثار أردوغان مراراً موضوعات الاستياء من الغرب، وأدى عدم القدرة على التنبؤ بأفعال الرئيس التركي وخطاباته المتكررة ضد الغرب، إلى جعل المسؤولين في بعض العواصم الغربية يتساءلون عما إذا كان يقف إلى جانبهم في حرب أوكرانيا بينما كان بعضهم يأمل بشكل خاص في أن يخسر الانتخابات وفق ما تقول صحيفة "نيويورك تايمز"، فعلى رغم أن الرئيس التركي دان الهجوم الروسي على أوكرانيا العام الماضي، فإنه رفض الانضمام إلى العقوبات الغربية لعزل الرئيس فلاديمير بوتين، وبدلاً من ذلك زاد التجارة التركية مع موسكو، وأطلق على بوتين لقب "صديقي" وأعاق جهود "الناتو" للتوسع من خلال تأخير قبول فنلندا، وما زال يرفض قبول السويد في الحلف.
واعتبر محلل شؤون تركيا في "تشاتام هاوس" غاليب دالاي أن أردوغان يعمل على أساس أن العالم قد دخل مرحلة لم تعد فيها الهيمنة الغربية أمراً مفروغاً منه، وهو يستفيد من العلاقات مع الغرب حتى أثناء التعامل مع خصوم أميركا مثل روسيا والصين، انطلاقاً من فكرة أن تركيا تتقدم بشكل أفضل من خلال الانخراط في توازن جيوسياسي بينهما.
وأوضحت الباحثة المتخصصة في الشأن التركي بالمجلس الأطلسي يفغينيا جابر أن موقف تركيا المتضارب في شأن الهجوم الروسي على أوكرانيا، من جهة تعزيز التجارة وتطوير التعاون الاقتصادي مع روسيا، وفي الوقت نفسه توفير الدعم لأوكرانيا كي تدافع عن نفسها، من المرجح أن يظل من دون تغيير، ولكن مع استمرار أردوغان بشكل آمن في سلطته، قد يدفعه إلى التعامل بقدر أكبر من الصرامة هذه المرة، من خلال مطالبة روسيا بمزيد من المفاوضات في شأن صادرات الحبوب من أوكرانيا ودفع كلا الجانبين إلى وقف إطلاق النار.
وأشار المستشار العسكري السابق في وزارة الخارجية الأميركية ريتش أوتزن إلى أن السياسة الخارجية التركية ستستمر على الأرجح كما هي مع شبه استقلالها الاستراتيجي وتوازنها وتحوطها بين القوى العظمى، لكن داخل حلف "الناتو" يظل هناك بعض الأمل في آفاق انضمام السويد إلى الحلف، بخاصة مع دخول تشريع سويدي جديد لمكافحة الإرهاب حيز التنفيذ الكامل الشهر المقبل، الأمر الذي قد يخفف من الموقف التركي.
الأولوية لروسيا أم أميركا؟
وعلى مدى 15 شهراً أحبط أردوغان القادة الأميركيين بسبب تعميق العلاقات الاقتصادية مع موسكو، وقبول أنقرة مليارات الدولارات من الأموال الروسية التي ساعدت في منع الاقتصاد التركي من الانزلاق إلى الإفلاس، كما أثارت علاقة الرئيس التركي الوثيقة بنظيره الروسي مخاوف واشنطن من أن تركيا تساعد روسيا للخروج من قيود العقوبات الأميركية والغربية المفروضة على موسكو منذ بدء الحرب.
وتوقعت يفغينيا جابر من المجلس الأطلسي أن تظل روسيا في مرتبة عالية بين شركاء تركيا الاقتصاديين، إذ تسعى أنقرة إلى إعادة تزويد احتياطات بنكها المركزي المستنفدة. وأشارت إلى أن رسالة أردوغان في ختام حملته كانت واضحة في أن علاقات تركيا مع روسيا لا تقل أهمية عن العلاقات مع الولايات المتحدة، ولهذا لم يكن من المستغرب أن يسارع الرئيس بوتين إلى تهنئة أردوغان على فوزه حتى قبل إعلان النتائج الرسمية، لكن بالنسبة إلى أوكرانيا أشارت يفغينيا إلى أن من المرجح أن يواصل أردوغان الدعم العسكري التركي والمشروعات الجارية في مجال الدفاع.
يبذر الشقاق في "الناتو"
وتخشى واشنطن والعواصم الغربية الأخرى أيضاً من أن أردوغان يبذر الشقاق في منظمة حلف شمال الأطلسي "الناتو" التي تعود عضوية تركيا فيها إلى الخمسينيات، وذلك بسبب منعه انضمام السويد إلى التحالف العسكري بسبب مخاوف في شأن من تعتبرهم تركيا مسلحين كرداً يعيشون في البلاد وتعتبرهم إرهابيين، وبرزت القضية في قلب شبكة متشابكة من القضايا التي تسبب التوتر بين أنقرة وواشنطن، ولهذا اشترطت إدارة الرئيس جو بايدن بيع أسطول طائرات حربية من طراز "أف-16" بقيمة 20 مليار دولار إلى تركيا إذا رفع أردوغان اعتراضه على انضمام السويد إلى "الناتو"، وخلال تهنئة الرئيس الأميركي أردوغان على الفوز بالانتخابات، تناقش الرئيسان حول هذه الصفقة المشروطة بحسب تصريحات بايدن الذي أكد حرص واشنطن على انضمام السويد للحلف واستمرار رغبة الرئيس التركي في شراء "أف-16".
وعلى رغم أن بيان الرئاسة التركي حول المكالمة كان غامضاً وموجزاً، فإن العلاقة الشائكة بين الجانبين لا تزال تخيم عليها منذ أن أزالت الولايات المتحدة تركيا من برنامج لتسلم طائرات مقاتلة أحدث من طراز "أف-35"، عام 2019، بعد أن اشترت تركيا نظام "أس-400" للدفاع الجوي من روسيا، كما أنه خلال الحرب الطويلة في سوريا المجاورة، انتقد أردوغان الولايات المتحدة نظراً إلى عملها الوثيق مع "قوات سوريا الديمقراطية" وهي ميليشيات كردية - سورية تقول تركيا إنها امتداد لوحدات "حماية الشعب الكردية" التابعة لـ"حزب العمال الكردستاني" وهي جماعة كردية قاتلت الحكومة التركية لعقود للمطالبة بالحكم الذاتي.
علاقة شائكة مع واشنطن
وقبل أسابيع وخلال الحملة الانتخابية لأردوغان اتهم وزير داخليته سليمان صويلو الولايات المتحدة بمحاولة تدبير انقلاب سياسي لإطاحة الرئيس التركي، مشيراً إلى التعليقات الصادرة عن حملة الرئيس بايدن التي انتقد فيها أردوغان وقال إن الولايات المتحدة يجب أن تدعم المعارضة في تركيا، ومع ذلك لا يزال موقع تركيا الاستراتيجي، وكونها عضواً مهماً في "الناتو"، وعلاقتها المتشابكة مع سوريا وأطراف إقليمية أخرى، يجعل الأميركيين راغبين في أن تشهد العلاقة تحسناً بخاصة أن الدبلوماسيين الأميركيين يقرون بأن علاقات أردوغان مع كل من روسيا وأوكرانيا سمحت له بالتوسط في اتفاق في شأن تصدير الحبوب الأوكرانية عبر البحر الأسود وكذلك تبادل الأسرى بين الأطراف المتحاربة.
وفي الآونة الأخيرة عمل الرئيس التركي على إصلاح العلاقات مع خصومة الإقليميين السابقين، بما في ذلك إسرائيل وبعض الدول العربية الفاعلة، من أجل تهدئة التوترات وتحفيز التجارة مما ساعد تركيا على تعزيز احتياطاتها المتدنية من العملات الأجنبية.
ماذا سيفعل مع سوريا؟
غير أن تصريح الرئيس التركي بأنه قد يجتمع مع الرئيس السوري بشار الأسد قريباً بعد سنوات من دعم معارضيه، بهدف الإسراع بعودة بعض ملايين اللاجئين السوريين في تركيا، كمطلب رئيس للناخبين الأتراك، أثار استياء واشنطن التي ترى هذه الخطوة سابقة لأوانها وتصر على تفعيل القرارات الدولية في شأن سوريا وتحريك مسار العملية السياسية بين كل أطراف المعادلة السورية.
ويقول المستشار العسكري السابق في وزارة الخارجية الأميركية ريتش أوتزن إن قضية سوريا تبرز كمسألة إرث شخصي لأردوغان، ويوضح أن الرئيس التركي يريد إخراج وحدات "حماية الشعب الكردية" التابعة لـ"حزب العمال الكردستاني" من الحدود التركية وتسهيل عودة عدد كبير من اللاجئين إلى سوريا، ويحذر من أنه لا يمكن استبعاد عملية عسكرية كبرى جديدة ضد "وحدات حماية الشعب"، هذا العام أو خلال العام المقبل، لكنه يضيف أنه إذا تمكنت تركيا من إضعافها بشكل كاف، فقد تتخلى عن عملية برية كبيرة.
مخاوف ما وراء سوريا
وتمتد المخاوف الأمنية التركية إلى ما وراء سوريا حيث ليبيا والقوقاز والبحر المتوسط وبحر إيجة، وكلها تتطلب مفاوضات ماهرة مع القوى الإقليمية، ويتوقع مراقبون أنه في هذه المنطقة الواقعة خارج إطار عمل "الناتو"، من المرجح أن يترك أردوغان الباب مفتوحاً للصفقات بينما يلوح بالسيوف من حين لآخر كي يحدث التأثير المطلوب، لكن محللين سياسيين يقولون إن تعزيز رؤية أردوغان لتركيا كقوة إقليمية ودولية سيثبت أنه صعب، نظراً إلى انهيار قيمة العملة التركية، واستمرار معاناة الأتراك من أحد أعلى معدلات التضخم والتي تعود جزئياً إلى سياسة أسعار الفائدة المنخفضة للحكومة، مما يحد من مجال المناورة ويظهر علامات التدهور، وخلال أحدث مثال على هذا التدهور تراجعت الليرة التركية بنسبة 0.4 في المئة الإثنين، متداولة قرب مستوى قياسي منخفض يزيد قليلاً على 20 ليرة للدولار، كما عزز البنك المركزي التركي دفاعه عن الليرة مع اقتراب جولة الإعادة مما أدى إلى استنزاف الاحتياط النقدي الأجنبي المحدود لديه.
صعوبة مواءمة الطموحات
وتشير المستشارة الاقتصادية السابقة في السفارة الأميركية بأنقرة دفني أرسلان إلى أنه إذا تمكن فريق الاقتصاد التركي من العودة إلى سياسات اقتصادية أكثر تقليدية وذات صدقية بحيث يمكنها حل المشكلات الحالية، فقد تصبح البلاد وجهة لرأس المال الأجنبي مرة أخرى، لكن الأمر سيستغرق وضع معايير اقتصادية قوية وتنفيذ إصلاحات هيكلية حاسمة لإعادة الثقة في الاقتصاد التركي لدى المستثمرين المحليين والأجانب.
ولا يزال التحدي الأكبر الذي يواجه أردوغان هو مواءمة طموحاته العالمية مع مشكلات بلاده المالية بعد أن تراجعت الأصول الأجنبية للبلاد بعد سنوات أنفقت خلالها الدولة عشرات المليارات من الدولارات لدعم الليرة التركية، إذ فقدت العملة المحلية ما يقرب من 80 في المئة من قيمتها مقابل الدولار في السنوات الخمس الماضية، وضغط أردوغان على البنك المركزي لخفض أسعار الفائدة على رغم ارتفاع التضخم، وذلك على عكس ما تفعله البنوك المركزية في جميع أنحاء العالم، بينما تعهد بالحفاظ على نهجه غير التقليدي، والذي يقول إنه مصمم على تحفيز النمو الاقتصادي وضمان فرص عمل عالية، غير أن بعض الخبراء يرون أن الرئيس التركي ليس لديه حل منطقي لهذه المشكلات وليس لديه برنامج عمل، ولهذا سيكون في ورطة بعد الانتخابات، بحسب ما تقول الرئيسة السابقة لقسم العلاقات الدولية في جامعة "أنقرة" إلهان أوزغيل.
كما يواجه الرئيس البالغ من العمر 69 سنة مشكلة أخرى تتعلق بالخلافة، ففي مواجهة الحد الدستوري القائم الآن، يجب عليه إما التنحي بعد فترة ولايته الجديدة التي تستمر مدتها خمس سنوات أو إيجاد حل بديل للبقاء في السلطة، ولهذا دعا إلى إجراء تعديلات على الدستور خلال فترة ولايته الجديدة، لكنه لم يقل ما إذا كانت ستشمل إجراء يسمح له بالبقاء في منصبه.
*صحافي متخصص في الشؤون الأميركية والعربية @tarek21shamy
*اندبندنت عربية
|