×

  رؤا

الإسلام السياسي في كردستان.. البقاء في الهامش السياسي

04/01/2022

*مركز تريندز للبحوث والاستشارات

كشفت نتائج الانتخابات البرلمانية العراقية الأخيرة تراجعاً في نسبة التصويت وعدد المقاعد البرلمانية التي حصلت عليها قوى الإسلام السياسي في إقليم كُردستان العراق، حيث ذهبت أغلب تلك الأصوات إلى “حِراك الجيل الجديد”، الذي يقوده رجل الأعمال شاسوار عبد الواحد، الذي يُعد الحزب الممثل الأوضح للخطابات والنزعات السياسية “الشعبوية”.

ما ستتناوله هذه الورقة هو تفكيك المسارات التي مرّت بها قوى الإسلام السياسي في إقليم كُردستان العراق، والتي قدمت برامج واشتغلت على أجندة لم تكن تنال رضا القواعد الشعبية الناخبة في إقليم كردستان على الدوام. ومن هنا يكون من اللازم شرح الأسباب التي حالت دون حصول هذه التنظيمات في الحصول على كُتلة مهمة من الناخبين، ومن ثمة امتلاك القوة التنافسية في العملية السياسية، سواء داخل إقليم كردستان أو على مستوى السلطة المركزية في بغداد، وذلك بالرغم من تجربة عشرات السنوات التي ظلت خلالها هذه الأحزاب تعمل كقوى سياسية شرعية ونظامية في الإقليم، دون أية مضايقات سياسية أو تنظيمية أو إعلامية قط.

 

التأسيس والمسيرة المتعرجة

تُصر الأدبيات السياسية لمختلف تنظيمات الإسلام السياسية في إقليم كردستان على التأريخ لنشأة الحركة الإسلامية بالمنطقة ابتداء من سنة 1987 مع تأكيدها على دخولها في مواجهات مسلحة مع قوات النظام العراقي السابق خلال الأعوام 1987-1992، دون الاستناد على أي أدلة بهذا الشأن، بحسب أغلب الأبحاث التي تناولت المواجهات المسلحة بين قوات النظام العراقي والقوى المتمردة في إقليم كُردستان خلال تلك المرحلة[1].

 

إن التشكيل الفعلي للتنظيم/الأم لقوى الإسلام السياسي في إقليم كردستان حصل بعد أن نالت الحركة القومية الكُردية نوعاً من “الحُكم الذاتي المحمي دولياً” منذ أوائل العام 1991. ثم نشطت أكثر في مرحلة تالية لطمعها في حصة من السلطة على أرض الواقع، مستفيدة من حالة الضعف التي كانت تعاني منها الإدارة المحلية في الإقليم أثناء نشأتها، ومن التناقضات والصراعات الداخلية التي كانت تعيشها المنطقة بسبب الخلافات بين الأحزاب القومية الحاكمة.

ما يُراد بيانه هنا، هو إن مختلف تنظيمات الإسلام السياسي في الإقليم لم تحصل على مكانة وشرعية الميزة “النضالية” في سبيل تحقيق هذه المكانة السياسية التي يحظى بها الإقليم، والتي تُمنح بالكامل للأحزاب القومية الكُردية، كما ظلت هذه الأحزاب والتنظيمات الإسلامية محرومة على الدوام من القاعدة الانتخابية الأوسع، التي تمنحها الشرعية عبر آلية التصويت الانتخابي.

 

الجذر الإخواني للحركة الإسلامية في كردستان

يُعد عثمان عبد العزيز الأب المؤسس للحركة الإسلامية في إقليم كردستان العراق، وهو الذي كان خلال مسيرته عضواً فعالاً في جماعة الإخوان المسلمين المصرية منذ العام 1960، وبقي ضمنها حتى العام 1980 على الأقل.

وبالرغم من الاختلاف حول النشأة الفعلية لتنظيم “الحركة الإسلامية في كردستان” على يد الشيخ عثمان عبد العزيز والمقربين منه، إلا أن الظهور السياسي العلني المباشر للحركة حدث ضمن موجة بروز القوى السياسية في إقليم كردستان بعد سحب النظام العراقي لقواته العسكرية وأجهزته الأمنية من الإقليم في العام 1991.

فخلال الانتخابات التشريعية العامة التي جرت في تلك المناطق في العام 1992، حصلت الحركة على 5.1% من أصوات الناخبين، بالرغم من الدعم الإقليمي الواضح الذي كانت تتلقاه، خصوصاً من قِبل إيران، وبذلك فشلت في دخول قبة البرلمان الإقليمي، وصارت الحركة منذ ذلك الوقت تجنح لاتخاذ ترتيبات غير سياسية للنفاذ إلى السُلطة.

ويشير استطلاع التاريخ السياسي للمنطقة إلى أن الحركة الإسلامية في كردستان بدأت أولى الأعمال المسلحة عِقب فشلها في دخول برلمان الإقليم والمشاركة في الحكومة والسلطة فيه، مستفيدة من أربعة وقائع على الأرض:

 

-دعم إقليمي واضح، بالذات من إيران وسوريا، التي كانت تعتقد إن التجربة القومية الكُردية في الإقليم الجديد قد تؤثر على أمنها القومي الداخلي، بسبب وجود نفس المسألة القومية داخل بلدانها.

-تلقي الحركة الإسلامية دعماً عسكرياً من عدة حركات إسلامية متمردة في عدد من دول العالم.

-استفادت الحركة من تفسخ الإدارة البيروقراطية والأمنية والعسكرية في المناطق الأكثر وعورة ضمن الإقليم، مثل مناطق حلبجة وما يحيط بها، مؤسسة بعض الوحدات الخدمية والمالية الرديفة والمواتية لتلك الأوضاع، وتالياً خلق نفوذ سياسي ضمنها.

-حدوث صراع مُسلح بين مقاتلي الحركة والاتحاد الوطني الكُردستاني، في أواخر العام 1993، وتتويجه بالاستيلاء على المقر الرئيسي للحركة وفرار معظم قياداتها، واعتقال مؤسس الحركة عثمان عبد العزيز، الذي أُفرج عنه لاحقاً، وغادر إلى إيران.

-عادت الحركة مُجدداً لإقليم كردستان العراق خلال العام 1994، مستفيدة من الصراع المُسلح بين الحزب الديمقراطي الكُردستاني والاتحاد الوطني الكُردستاني. والضعف النسبي لقوات الأخيرة خلال المواجهات العسكرية مع الأولى، حيث مكنها ذلك من العودة لشغل مناطق حُكم خاصة بها، خصوصاً في محيط مدينة حلبجة، وفي المناطق الجبلية المحاذية لإيران، حيث أوجدت مؤسسات دعم اجتماعية وصحية وتعليمية بديلة في تلك المناطق، إلى جانب إقامتها لمجلس شورى بديلاً للبرلمان، وقوات أمنية وعسكرية بديلة عن تلك التي تتبع حكومة إقليم كُردستان العراق.

غير أن الحركة الإسلامية في الإقليم لم تكن تملك بنية إيديولوجية وسياسية تحمل قيمة مضافة، تختلف فيها عن القوى السياسية التي على الأرض، مثل الأحزاب السياسية القومية واليسارية والوطنية التي كانت تنتظم وتنشط في الإقليم طوال العقود السابقة.

 

الانشقاقات اللانهائية

غياب المضامين السياسية والإيديولوجية، جعل صراعات الحركة الإسلامية الداخلية سلطوية وشخصية فحسب، وهو ما أفرز عدداً لا نهائياً من الانشقاقات ضمن الحركة طوال السنوات اللاحقة. والتي يُمكن ذكر أبرزها على النحو التالي:

-في العام 1999 توفي زعيم الحركة عثمان عبد العزيز، فآلت الزعامة إلى أخيه علي عبد العزيز، بينما أخاه الآخر صديق عبد العزيز كان قد أسس “حركة النهضة” الإسلامية في كردستان، قبل أن تندمج هذه الحركةمع تنظيم الحركة الإسلامية في كردستان و”حركة حماس الكُردية”، التي كان يتزعمها عمر البازياني، والذي كانت تربطه علاقات مع المقاتلين الإسلاميين العابرين للحدود في أفغانستان، مقرباً بذلك من أسامة بن لادن وأيمن الظواهري. وأسس الطرفان “حركة الوحدة الإسلامية الكُردية”. وفي فترة لاحقة، أصبح بازياني واحداً من أشهر مقاتلي وقادة تنظيم القاعدة داخل العراق.

-تفككت الحركة بعد أقل من عامين، وعادت حركة حماس الكُردية إلى إطارها التأسيسي الأصلي، فيما قاد علي بابير الجماعة الإسلامية المُسلحة في كردستان وأنشأ الملا كريكار جماعة اسمها “المجموعة الإصلاحية”[8]، التي تلاقت مع العديد من المجموعات الإسلامية غير الكُردية التي تجمعت في المناطق الجبلية العصية من الإقليم، وشكلت “حركة أنصار الإسلام”، التي كانت مُقربة من تنظيم القاعدة، ونفذت أحكاماً قاسية للغاية في المناطق التي سيطرت عليها، في أقصى شرق العراق، خلال السنوات 2001-2004.

 

في المرحلة التي تلت الغزو الأميركي للعراق، انقسمت الحركات الإسلامية في إقليم كُردستان إلى تيارين متباينين تماماً:

– تيار تجسد في العديد من التنظيمات الإسلامية التي قبلت التعاون مع حكومة إقليم كردستان العراق الموحدة، على أساس نزع السلاح مقابل القبول بها كتنظيمات سياسية رسمية ضمن الإقليم. لتبرز تنظيمات مثل الاتحاد الإسلامي الكردستاني، الذي يعد امتداداً لأفكار جماعة الإخوان المسلمين، كما برزت الجماعة الإسلامية الكردستانية، التي تُعد أقرب للفكر السلفي.

-تيار تجسد في العديد من الحركات الإسلامية، المسلحة بالذات، التي رفضت الاعتراف بشرعية حكومة إقليم كردستان أو تسليم أسلحتها إلى السلطة الشرعية، التي كانت تتهمها بأنها ذات هوية “علمانية”، وخاضت صراعاً مسلحاً مع قوات البيشمركة التي توجد تحت إمرة الحكومة الإقليمية، وتتلقى الدعم الأميركي.

 

طوال هذه المرحلة الممتدة (1991-2003)، لم يكن لقوى الإسلام السياسي أي مشروع سياسي واضح ذو أفق ومضامين، خلا اتهام السلطات بهويتها “العلمانية”، والدعوة إلى تطبيق مجموعة من الأحكام على المجتمعات التي تقع تحت سيطرتها، والتي كانت تتركز حول تدريس الشريعة ضمن المناهج المدرسية وتطبيق الأحكام القضائية والدعوة إلى تطبيق أنظمة حُكم شبيهة بما كان يطبقه داعش في مناطق حُكمه، وهو ما كانت تفعله حركة “أنصار الإسلام” في مناطق حُكمها في مناطق بيارة وهورمان الجبلية شرق محافظة السلمانية[9].

 

ضعف تمثيل التيارات الإسلامية الكُردية في الفضاء السياسي

 دخلت الحركات الإسلامية الكردية الفضاء السياسي على مستويين مختلفين، أحدهما وطنياً عبر البرلمان الاتحادي، والآخر إقليمياً ضمن برلمان إقليم كُردستان.

 

على مستوى الوطن

خلال أول انتخابات برلمانية عراقية في العام 2005، أصر الاتحاد الإسلامي الكُردستاني على عدم الدخول ضمن لائحة “التحالف الوطني الكُردستاني”، ودخول الانتخابات بقائمة منفردة. وهي الانتخابات التي حصل فيها على 157 ألف صوت، حاصداً 5 مقاعد برلمانية. بينما حصل التحالف الوطني الكُردستاني على 2.6 مليون صوت، شاغلاً 57 مقعداً برلمانياً.

وبالرغم من كُل التصعيد الخطابي الذي مارسته تيارات الإسلام السياسي ضد القوتين السياسيتين الرئيسيتين في إقليم كردستان العراق، إلا انها لم تحصل خلال الانتخابات البرلمانية العامة التالية، التي جرت خلال العام 2010، على أي تمثيل سياسي وازن. إذ لم يحصل كُل من الاتحاد الإسلامي الكُردستاني والجماعة الإسلامية الكردستانية إلا على 6 مقاعد برلمانية، فيما حصل التحالف الكردستاني على 43 مقعداً برلمانياً.

وقد أشار المراقبون وقتئذ إلى أن بروز حركة التغيير الكُردية “كوران” قبل إجراء تلك الانتخابات بعام واحد، وقدرتها على تطوير الخطاب الاحتجاجي في وجه الحزبين الرئيسيين في الإقليم، خصوصاً فيما يخص مسألتي الخدمات والفساد، قد سحب من الأحزاب الإسلامية إمكانية جذب الأصوات المعارضة. فحركة كوران، وبالرغم من حداثة تأسيسها، حصلت على 8 مقاعد أكثر من المقاعد التي حصل عليها الحزبين الإسلاميين مجتمعين، والتي بلغت 6 مقاعد فقط.

ولم تتغير التوازنات خلال الانتخابات اللاحقة التي جرت خلال العام 2014، التي أتاحت للحزبين الرئيسيين الحفاظ على قواعدهم الشعبية. كما أحدث صعود تنظيم داعش في العراق (2014-2017)، والأعمال الاجرامية التي مارسها بحق أبناء الديانة اليزيدية أكبر ضربة سياسية للتنظيمات السياسية الإسلامية الكُردية، حيث لم يحصد حزبا الاتحاد الإسلامي الكُردستاني والجماعة الإسلامية الكُردستانية إلا على أربعة مقاعد برلمانية خلال الانتخابات التي جرت عام 2018، وذلك بالرغم من رفع أعداد مقاعد البرلمان المركزي العراقي إلى 329 مقعداً. وقد كان محل استغراب شديد أن يحصل حزب سياسي حديث النشأة تماماً، هو “حِراك الجيل الجديد”، بزعامة رجل الأعمال شاسوار عبد الواحد، على مقاعد برلمانية مساوية لمقاعد الحزبين الإسلاميين الكُرديين، وذلك بعد شهور قليلة من تأسيسه، قُبيل تلك الانتخابات.

 

على مستوى الإقليم

 

تتطابق النتائج التي حققتها قوى الإسلام السياسي في انتخابات إقليم كردستان مع تلك التي حققتها على مستوى العراق، والتي كانت تبلغ عادة حولي الـ10 بالمائة، وذلك على الرغم من تجريبها خلال أربع محطات انتخابية لمختلف أنواع التحالفات، سواء مع الحزبين الرئيسيين أو ضمن قوائم مختلفة أو قائمة إسلامية واحدة.

ففي أوائل العام 2005، عندما جرت أولى الانتخابات البرلمانية في إقليم كردستان العراق، حصلت قائمة “الجماعة الإسلامية في كردستان العراق” على 6 مقاعد برلمانية من أصل 111 مقعداً. إذ من مجموع 1.75 مليون مصوّت، نالت القائمة 85 ألف صوت، أي بما يقل عن 5 بالمائة من مجموع الأصوات فيما كان حزب الاتحاد الإسلامي الكُردستاني متحالفاً ضمن “القائمة الوطنية الديمقراطية الكُردستانية”، التي حصلت على 97 بالمائة من الأصوات.

وخلال الانتخابات التشريعية التي جرت في العام 2009، دخلت مختلف القوى السياسية الإسلامية في إقليم كُردستان بقائمة واحدة، سُميت “قائمة الخدمات والإصلاح”، وحازت على 240 ألف صوت، أي بنسبة 12.8 بالمائة من مجموع المصوتين. وكانت تلك الأرقام الاستثنائية التي حققتها القوى الإسلامية نتيجة تركيزها طوال الحملة الانتخابية على موضوع الخدمات الإدارية والاقتصادية والاجتماعية، واتهام الحزبين الرئيسيين بالاستئثار بكافة مغانم إعادة الاندماج مع الدولة العراقية، مبتعدين تماماً عن أية خطابية إسلامية تقليدية[13].

وعندما جرت الدورة الانتخابية التالية في العام 2013، حافظت القوى الإسلامية على كتلتها التصويتية السابقة، وإن كانت قد انقسمت إلى ثلاثة قوائم انتخابية متفرقة، واحدة للاتحاد الإسلامي وأخرى للجماعة الإسلامية وثالثة للحركة الإسلامية. فمجموع ما حصلت عليه التنظيمات الإسلامية بلغ 17 مقعداً من أصل 111 مقعد برلماني.

لكن التيارات الإسلامية تعرضت إلى أكبر ضربة سياسية في الانتخابات البرلمانية التي جرت في الإقليم خلال العام 2018، حيث انخفضت نسبة التصويت لصالحها إلى قرابة نصف ما كانت عليه، بحدود 170 ألف مصوّت، محققة 12 مقعداً برلمانياً فحسب.

وبالرغم من كُل الانتقادات التي كانت توجهها الأحزاب الإسلامية إلى الحكومة الإقليمية، الا انها شاركت في تشكيلها، وهي من أهم أسباب تراجع شعبيتها، إلى جانب صعود أحزاب معارضة مدنية في الإقليم، على رأسها حركة التغيير الكُردية “كوران”، التي صارت تستأثر بخطاب الخدمات والمعارضة الاجتماعية والاقتصادية.

وفي هذا السياق يمكننا التساؤل حول أسباب فشل الحركات الإسلامية الكُردية في الحصول على كُتل انتخابية وازنة. ويمكن القول أنه من الناحية الموضوعية، يُمكن رد أسباب هذا الفشل إلى عاملين اثنين، أولهما: يتعلق أساساً بمجموعة السلوكيات والاستراتيجيات والممارسات السياسية التي تقوم بها هذه القوى الإسلامية الكُردية على أرض الواقع. وثانيهما: له صلة بجوهر وآلية وشكل الحياة السياسية في إقليم كردستان العراق، وذلك من حيث موقعه السياسي وموقع المسألة الكُردية فيه.

ومن هنا، نطرح عدداً من الأسباب التي افضت إلى فشل الحركات الإسلامية الكُردية في عملها السياسي:

 

-الأسباب السياسية المباشرة

أولاً، فشلت الأحزاب والقوى السياسية الإسلامية في إقليم كردستان العراق من جذب كُتل انتخابية وازنة لأنها لا تملك موقفاً استراتيجياً من السُلطة ونظام الحُكم والإدارة العامة، سواء داخل العراق أو في إقليم كُردستان.

فالحزبان الإسلاميان الرئيسيان يشاركان غالباً في تشكيل الحكومات في إقليم كُردستان العراق، ويسعيان للحصول على حصتهم من لعبة المحاصصة التي تنفذها القوى السياسية أثناء تشكيل الحكومات والمناصب العليا في السلطة المركزية. لكنها في الوقت نفسه توجه نوعية من الانتقادات إلى السلطتين المركزية والمحلية أشبه ما تكون بنوعية الانتقادات التي توجهها المعارضات الجذرية لأنظمة الحُكم، عبر اتهامها بالفساد والتحاصص والاستيلاء على الموارد العامة والنهب العام والحكم العائلي في مناطق حُكمها.

على المستوى نفسه، فإن الحزبين الإسلاميين الرئيسيين في الإقليم لا يملكان أية استراتيجية للتعاطي مع القوى المعارضة في الإقليم. فالإسلاميون يسعون لأن تكون لهم أواصر تشدهم إلى التنظيمات السياسية المعارضة في الإقليم، لكنهم في الوقت عينه يسعون لعدم خسارة مجموعة من الميزات التي أحرزوها عبر مجموعة الوشائج التي يملكونها مع الحزبين الحاكمين.

وبناء على ذلك، يمكن القول أن القوى الإسلامية لا تملك أية رؤية واضحة للمسألة القومية في إقليم كُردستان. فمن جهة تحرص على تجذير خصوصيتها كأحزاب وقوى إسلامية “كردستانية”، ومن جهة أخرى تُظهر تمايزاً مع الأحزاب القومية الكُردية. وقد ظهر ذلك جلياً خلال حملة استفتاء الاستقلال التي دخلها إقليم كُردستان في العام 2017.

وإذا كان الاتحاد الإسلامي الكُردستاني مندفعاً لمواكبة الأحزاب القومية الكُردية المؤيدة لاستفتاء الاستقلال الذي نفذه الإقليم، فإن الجماعة الإسلامية في إقليم كردستان حرصت على وضع مجموعة من الشروط التي كانت أقرب لرفض القيام بمثل ذلك الاستفتاء.

لكن الأهم، إن مجموعة الجدالات التي قدمتها الأحزاب الإسلامية الكُردستانية أثناء تلك المرحلة، تمثلت في الرفض لأسباب سياسية وموضوعية، منها ما يتعلق أساساً بمكتسبات مواطني إقليم كُردستان، غير أن قرارها كان في الحقيقة خاضعاً لتأثير العلاقات والأواصر التي كانت تربط هذه الأحزاب بالقوى الإقليمية، الرافضة للاستفتاء بشكل حازم.

وشكلت هذه الأسباب لبعض الناخبين في إقليم كُردستان دوافع لتحديد موقفهم من هذه الأحزاب، التي ظلت محافظة على كُتلة مُغلقة من الناخبين المحفوظين، ذوي العلاقة التقليدية مع هذه الأحزاب، والمستفيدين من شبكة الخدمات الاجتماعية التي تقدمها لبعض القواعد الاجتماعية.

وفضلاً عن ذلك طالت هذه الأحزاب، خلال السنوات الماضية، العديد من الاتهامات، من حيث تسببها بخلق أرضية خطابية وفكرية لانتشار الأفكار والتنظيمات المُتطرفة في أوساط الشُبان الأكراد. فقد نشطت أكثر من جهة ثقافية وسياسية في إقليم كُردستان لخلق ذلك الرابط، الموضوعي، بين تلك الأحزاب الإسلامية، وبين انتقال قرابة 600 يافع من إقليم كُردستان إلى صفوف التنظيمات الإسلامية المُتطرفة.

 

الأسباب الموضوعية- الما فوق سياسية

لم يتمكن الإسلام السياسي في إقليم كُردستان العراق من مجاراة باقي تنظيمات الإسلام السياسي في المنطقة، وذلك لأسباب مُركبة، تتعلق بخصوصية إقليم كُردستان في المنطقة، وذلك منذ أوائل التسعينيات من القرن المنصرم.

يُمكن تأطير تلك الخصوصية بثلاثة ميزات:

 

أولاً:

حفاظ الحركة القومية الكُردية على زخمها التقليدي، فخلافاً لحركات الإسلام السياسي في بلدان المنطقة التي استفادت من تراجع الموجة القومية ثم اليسارية منذ أوائل ثمانينات القرن المنصرم وتقديم نفسها بديلاً في مؤسسات الدولة وضمن التنظيمات الشعبية والمهنية مثل النقابات، فإن الأمر كان مختلفاً في إقليم كُردستان. فالتنظيمات القومية الكُردية، بقيت إلى حد كبير محافظة على مكانتها كقوة “حركة تحرر وطنية”، ولأجل ذلك بقيت القواعد الاجتماعية موالية لها بشكل أكبر، بحكم “الهيمنة الروحية”، وبذلك لم تتمكن تنظيمات الإسلام السياسي من مزاحمتها على تلك المكانة في الوسط الاجتماعي.

 

ثانياً:

 لم يشهد إقليم كُردستان العراق المراحل “التقليدية” لتحولات الدولة، تلك التي شهدتها مختلف كيانات المنطقة منذ عهد الاستقلال الوطني في أواسط الأربعينيات من القرن المنصرم، عقب المرحلة الاستعمارية التي شهدتها بلدان المنطقة.

حيث أدت تلك المراحل تقليدياً لأن تتوجه الأحوال الداخلية في هذه البلدان من مرحلة التنمية والحريات العامة إلى مزيج من الصراعات بين مراكز قوى الحُكم، التي انتهت عادة إما بانقلابات عسكرية أو أزمات أهلية داخلية شديدة التركيب، أثرت بعمق على تراجع التنمية ومستويات الدخل الاقتصادي وتضخم العشوائيات، هذه الأوضاع التي استفاد منها الإسلام السياسي تقليدياً لبناء خزانه البشري.

فهذا لم يحدث في إقليم كُردستان العراق. حيث أن الطبقة الحاكمة في الإقليم، المتمثلة بالذات من الحزبين الرئيسيين، الحزب الديمقراطي الكُردستاني والاتحاد الوطني الكُردستاني، أمسكت الأرض فعلياً اعتباراً من العام 1991 ولم يتم تشييد البُنى الرئيسية للحُكم ومؤسساته إلا في العام 2005، ككيان ضمن النظام الفيدرالي للعراق. لأجل ذلك فإن الإسلام السياسي لم يتمكن من التغلغل إلى داخل القواعد الشعبية الناقمة على الأوضاع العامة، لأن هذه القواعد كانت تُدرك على الدوام بأنها ما تزال في مرحلة “التيسير بما هو ممكن”، حسب الوضع الخاص للإقليم، وأن السُلطة الحاكمة لا تتحمل أوزار الأحوال العامة في المنطقة.

 

ثالثاً:

 لم يدخل إقليم كُردستان العراق في موجة التفاعل والمؤازرة للإسلاميين خارج الحدود. تلك المؤازرة التي بدأت منذ أواخر سبعينيات القرن العشرين مع شد العصب الهوياتي الإسلامي في مساندة المقاتلين الأفغان في مواجهة الاتحاد السوفياتي، أو تلك الموجات الأخرى منذ أوائل التسعينيات، وذلك عبر التعاطف مع المسلمين في الشيشان أو البلقان. حيث استفادت قوى الإسلام السياسي من تلك الأحوال، وحاولت جاهدة استخدامها لصالح تشييد وتمتين وتوسيع أواصر شبكاتها العابرة للحدود، لخلق روابط حماية متبادلة فيما بينها. وهذا خلافاً للأوساط الكُردية التي كانت منشغلة تماماً بأوضاعها السياسية الداخلية.

كما لم يتمكن الإسلام السياسي من خلق أية حالة من التعاطف والتفاعل السياسي مع هذه الحالات العابرة للحدود، لأن القواعد الاجتماعية الكُردية في إقليم كُردستان كانت تراكم مظلومية عمومية تجاه مختلف الدول والقوى والمؤسسات الإسلامية الإقليمية، التي لم تكن تلتفت إلى ما يسمى “معاناة” الأكراد في مواجهة السُلطات المركزية العراقية بما فيه الكفاية، وبالذات في سنوات حملات الأنفال والقصف بالأسلحة الكيماوية.

 

ولأجل تلك الخصائص المميزة، لم تحتل الحركات الاسلامية مكانة في الأوساط الاجتماعية والسياسية في إقليم كُردستان العراق طوال ربع قرن مضى، وبالذات من حيث ما يلي:

خلت التشكيلات المؤسساتية الرديفة للسلطة التنفيذية المباشرة من أي حضور للإسلاميين في داخلها، وتحديداً في النقابات والتنظيمات المهنية وحتى المؤسسات التشريعية ومراكز الحُكم المحلية، ولو على مستوى المخاتير.

عدم امتلاك قوى الإسلام السياسي لخطاب سياسي مناهض لإيديولوجية القوى القومية، لأن هذه الأخيرة كانت على الدوام تتمتع بالكثير من الشعبية في الأوساط العامة. ولم تتمكن قوى الإسلام السياسي من خلق بؤر لمؤسسات رديفة لمؤسسات الحُكم، مثل الجمعيات التعاونية والمستوصفات الصحية أو مركز الرعاية الاجتماعية، لأن جميع هذه الأشكال من البُنى كانت غائبة تماماً في سنوات الحروب المديدة بين الحركة القومية الكُردية والسُلطات المركزية.

لم تتمكن الإسلاموية السياسية من إيجاد مكانة مشتركة مع القوى السياسية الأخرى في الإقليم، سواء اليسارية أو الوطنية أو القومية، أو حتى المحافظة سياسياً، مثلما فعلت في الكثير من البلدان، بغية خلق تيار معارض عمومي للقوى والأحزاب الحاكمة.

بناء على كُل ذلك، لجأت قوى الإسلام السياسي في الإقليم إلى تبنى مجموعة من السياسيات الشعبوية في عملها السياسي، أساسه الركون إلى ترسانة من الخطابات السياسية، التي تنتقد السُلطة الحاكمة دون اقتراح حلول عقلانية للمشاكل الموضوعية في الإقليم.

وفي السياق نفسه، فإن مختلف تيارات الإسلام السياسي كانت شريكة للقوى السياسية الحاكمة في الغالب الأعم من عمرها السياسي، حيث شاركت الحزبين الحاكمين حصصهم الحكومية ومنافعهم الاقتصادية وميزاتهم الشخصية، في نفس الوقت الذي سعت فيه إلى تحميلهم مختلف تبعات الأحوال العامة في الإقليم، وهو الأمر الذي أفقدها مصداقيتها السياسية، ومن ثمة كتلة انتخابية وازنة.

وختاماً لم تتمكن الحركات والتنظيمات والأحزاب الإسلاموية في إقليم كُردستان من التحول إلى أحزاب شعبية بالرغم من كُل الحريات العامة والسياسية المتوفرة في الإقليم، لأنها كانت على الدوام فاقدة لمشروع سياسي يتجاوب مع مطالب الأوساط الشعبية في الإقليم بالتحرر من السُلطات الشمولية، والخروج من عباءة هيمنة القوى الإقليمية. لذلك بقيت على الهامش السياسي دون أي حضور حقيقي في الحياة السياسية.

 

 

 

 

 

  مواضيع أخرى للمؤلف
←  إقليم كردستان متفائل بالأصول الكردية لبزشكيان
←  بعد قرن من الجمهورية... هكذا يُعرّف كرد تركيا قضيتهم
←  أزمة رئاسة مجلس النواب تحيي دعوات لإقليم سنّي
←  الكرد يحرمون أردوغان من الفوز بالانتخابات في الجولة الأولى
←  كركوك...الماضي السياسي يُدير الحاضر ويُنذر بمستقبل مضطرب
←  الاحزاب في تركيا تستميل الأصوات الكردية من دون حقوق أصحابها
←  لماذا الكرد قيمة مضافة لحركة التغيير في منطقتنا!
←  الخزرجـــــي والحـــــــائط
←  شيعة العراق.. طائفة تصبح شعبا
←  الدرس السوفياتي من جديد.. روسيا تواجه حتمية التاريخ
←  الإسلام السياسي في كردستان.. البقاء في الهامش السياسي
←  لماذا الاغتيال أساس الحياة السياسية في العراق؟