×

  رؤا

لماذا يجدر بواشنطن أن تهتم بجنوب السودان؟

26/03/2023

انتوني .جي.توكارز:

في عام 1908، كان عضو شاب في البرلمان البريطاني يدعى ونستن سبنسر تشرشل يتنقل في أوغندا حينما حطت على كتفه ذبابة من سلالة تسي تسي. وبرغم علمه أنه يتنقل في منطقة قتلت فيها هذه الذبابة مئات الآلاف من الأنفس، فإن تشرشل كان قد سئم الوقاء الذي كان عليه هو وبقية أعضاء حزبه أن يرتدوه، فخلعه ليزداد استمتاعا بشمنظر شلالات مورشيسون على نيل فكتوريا. وحسبما روى في (رحلتي الأفريقية)، فقد أفزعه منظر ذبابة «تسي تسي»، بخرطومها الطويل المميز وأجنحتها الكبيرة المطوية على بعضها بعضا بشكل غريب، وحمله على إعادة ارتداء وقائه.

 وفي تلك الأيام، كما في أيامنا هذه، كانت ذبابة «تسي تسي» تحمل مرض النوم، وهو مرض طفيلي يهاجم النظام العصبي للمرء إلى أن يفقده الإدراك تماما ويستحيل عليه في نهاية المطاف أن يفيق. وجد النجم الشاب الصاعد كالسهم في عالم السياسة البريطانية نفسه يشعر بالضآلة أمام قوة الطبيعة، فصحح مساره.

 ولو لم يفعل ذلك، فلعل الإمبراطورية ما كانت عثرت على بطلها الذي كانت بحاجة إليه في وقت أزمتها بعد اثنتين وثلاثين سنة، وربما ما وجد قراء اليوم هذا التشابه اللافت مع سياسة أمريكا الراهنة في شرق أفريقيا.قد ينتهي مراقبو سياسة الولايات المتحدة المضطربة في أفريقيا إلى أن صناع السياسة الأمريكيين يعانون من مرض النوم، ومن خصائصه أنه يشهد فترة وجيزة من النشاط المحموم تسبق خمول المريض وصعوبة إفاقته. في أفريقيا، تقوم البلاد على نطاق واسع بإعادة الاصطفاف بعيدا عن الولايات المتحدة مقتربة من روسيا أو الصين.

ويصدق هذا بصفة خاصة على أفريقيا ما دون الصحراء، حيث فاقمت دورات من حالات الجفاف متزايدة التواتر والفيضانات الحادة من التوترات قديمة الاضطراب من قبيل الصراعات العرقية والتمردات الإسلامية. والآن، بعد أسابيع قليلة من قمة زعماء الولايات المتحدة وأفريقيا التي عقدها الرئيس جو بايدن وكثر التباهي بها، يبدو أن روسيا مستعدة لأن تحل محل فرنسا ضامنا للأمن في غرب أفريقيا، بينما تروج الصين للأثر الهائل لمشاريعها في مجال البنية الأساسية، أما الولايات المتحدة بكل ما لها من قوة مالية وعسكرية فتطغى عليها زيارة البابا فرانسيس إلى شرق أفريقيا في مطلع فبراير.

غير أن الأزمة المتفاقمة في بلد أفريقي كثر تجاهله، وهو أصغر بلاد العالم عمرا، قادرة على رد الولايات المتحدة مرة أخرى إلى موضع التأثير في أفريقيا. وهذا البلد ثري بالنفط وعامر بالصراعات وقد أصبح لفترة وجيزة جزءا من الأخبار العالمية بعد رحلة البابا فرانسيس إليه وإلى جمهورية الكونجو الديمقراطية. وذلك البلد هو جنوب السودان.

 

لاعب استراتيجي مهمل

لجنوب السودان، وإن كان باهتا بالمقارنة مع جاره الشمالي الأكثر شهرة، أهمية جيواستراتيجية تكمن في أنه الجسر بين شرق أفريقيا وشمالها، وبما لديه من احتياطيات هائلة من النفط والنحاس والذهب، فضلا عن التربة الخصبة والمساحة الكبيرة من نهر النيل وقدراته الكامنة الهائلة في مجال توليد الطاقة الكهرومائية. ولكن جنوب السودان الآن يحتل المرتبة الدنيا في أي تصنيف تنموي بشري، وذلك في المقام الأكبر بسبب الصراع الطويل بين الجماعات العرقية المتناحرة التي تتلقى تمويلات من بلاد لها مصالح في موارد المنطقة.

يتعلق جزء من استراتيجية أمريكا لاحتواء نمو الصين بمنع الصين من الوصول إلى ثروة أفريقيا المعدنية، ومن ثم يجب أن يتماثل جنوب السودان هائلا في قائمة أولويات إدارة بايدن في أفريقيا.

فضلا عن أنه كما أن بوركينا فاسو هي عماد أمن غرب أفريقيا بكونها الفاصل بين الدولة الإسلامية في أفريقيا وبين بوكو حرام، فإن استقرار جنوب السودان ضروري لمنع تنظيم الشباب الجهادي الصومالي من الانتشار إلى شرق أفريقيا.غير أن نهج الولايات المتحدة الراهن يقصر عن تحقيق الكثير من الرغبات. وتأملوا على سبيل المثال نتائج نهجها الفعلي القائم على العهد بمسؤولية التعامل مع كثير من أمراض البلد لعديد لمنظمات غير حكومية.

برغم أن بعض المنظات الإنسانية والمنظمات غير الحكومية لها حضور في جنوب السودان، فقد أثبت استثمارها عدم فعاليته. فبحسب تقارير نيو هيومانيتاريان، يفضل المانحون أن تستثمر تمويلاتهم في مشاريع قصيرة الآجال، مثل المؤتمرات والحوارات العشوائية التي لا تشرك أيا من أصحاب القوة الحقيقيين.

 فضلا عن ذلك، فإن القيود المفروضة على المنظمات غير الحكومية بشأن مواضع تحركاتها والشخصيات التي يمكنها دعوتها إلى فعالياتها تعني استبعاد الأفراد المشتركين فعليا في الصراعات المحلية ـ من قبيل المسلحين وشيوخ القبائل الذين غالبا ما تتباين مصالحهم ـ من المشاركة في الحوار.

 ويزداد الوضع تعقيدا إذ تجد هذه المنظمات غير الحكومية المحلية ـ حسبما أفادت صحيفة جارديان هذا الشهر ـ بشكل متزايد أن برامجها لتوزيع المساعدات تتعثر بسبب وفرة المنح قصيرة الآجال وندرة العقود طويلة الآجال. ومن شأن هذه العقود طويلة الآجال ـ حال توافرها ـ أن تمكِّن المنظمات غير الحكومية من التخطيط لحملات أكثر فعالية، أو القيام بالاستثمارات اللازمة لزيادة تأثيرها، وبخاصة في أكثر المجتمعات انعزالا وتعرضا للخطر.

 

ما تستطيع أمريكا فعله

يمثل الوضع الراهن فرصة كبيرة لولايات المتحدة لكل من التعامل مع احتياجات شعب جنوب السودان وتعزيز موقف أمريكا الاستراتيجي في القارة الأفريقية. وثمة خمس طرق للقيام بهذا.

 

أولا:

يمكن أن توفر الولايات المتحدة المساعدة العسكرية والأمنية التي يمكن أن تكون بمثابة مضاعف لقوة المبادرات المحلية الجارية بالفعل في جنوب السودان ولكن مما يكاد يكون مؤكدا أنها منذورة بالفشل بسبب نقص التمويل وسوء الإدارة. بوسع هذه المساعدة والخبرة أن توفرا سياقا مستقرا يمكن أن تجري فيه حوارات مثمرة سلمية الغاية، بين الشباب المسلح وممثلين للمجتمعات قديمة العداوات تجاه بعضها بعضا.

 

ثانيا،

 يمكن أن تستعمل الولايات المتحدة قوتها الدبلوماسية للمساعدة على تيسير المفاوضات بين حكومة جنوب السودان وجيرانها. فعلى سبيل المثال، منذ عام 1963، ثمة نزاع حدودي بين جنوب السودان مع كينيا على منطقة مثلث إلمي الغنية بالنفط والمياه. وبرغم مبادرات السلام التي يديرها الاتحاد الأفريقي، كثيرا ما تندلع في المنطقة مناوشات حدودية عنيفة شبيهة شبها كبيرا بالمواجهة القائمة منذ عقود مع السودان بشأن حقول النفط في أبيي.

 

ثالثا،

يمكن أن تساعد الولايات المتحدة في تمويل عقود طويلة الآجال تحتاج إليها المنظمات غير الحكومية لتعظيم توزيعها للمعونات وزيادة فعالية برامجها.

زد على ذلك أن أمريكا يمكن أن تنشر برامج محلية النشأة وتمويلات لتحفيز التعاون بين النخب السودانية وتحميلهم مسؤولية أي اتفاقيات قد تتوصل إليها. وجنوب السودان أحد أكثر بلاد العالم فسادا كما يتبين من تقرير صادر عن منظمة ذي سينتري The Sentry.

 

رابعا،

يمكن أن تقدم الولايات المتحدة مساعدة تنموية ـ لا غنى عنها للأمن، لأن الاقتصادات القوية توفر خيارات للشباب عدا الانضمام إلى جماعات المتمردين بدافع من يأسهم.

 وهنا قد تحسن واشنطن عملا إن هي استنسخت نجاح نموذج خطة الطوارئ الرئاسية للإغاثة من الإيدز، ووفرت الخبرة والتدريب للقادة المحليين قبل العهد إليهم بالإدارة اليومية للبرامج ضمن تركيز على تنمية القيادة والمجتمع.

 

خامسا،

يجب أن تستعين الولايات المتحدة بشخصية قوية، لها احترام عالمي، وسلطة معنوية لا تبارى. وفي هذا الصدد، لنا حليف في قداسة البابا فرانسيس الذي وضع نصب عينيه تحقيق السلام في جنوب السودان. ومثلما ذكرت نيويورك تايمز، فإن زيارة البابا فرانسيس التي استمرت ليومين في مطلع فبراير، ضمن رحلة عالمية مع قيادات كنيسة إنجلترا وكنيسة أسكتلندة، قد ألقت ضوءا على انقسامات عميقة ومشكلات تبدو عصية على الحلول تواجه البلد الناشئ.يمثل الكاثوليك 52.4% من شعب جنوب السودان، بينما تشكل طوائف مسيحية أخرى 8%.

 ومن شأن التعاون بين البابا وشخصيات أساسية في العالم المسيحي أن توفر عونا يعوض افتقار الولايات المتحدة إلى السلطة المعنوية في المنطقة التي لم تزل تعاني من التدخل الأمريكي الفاشل في الصومال في 1992-1993، ورد فعلها المحدود على الإبادة الجماعية في دارفور سنة 2004، وغير ذلك من المآزق الكبرى. فضلا عن ذلك، تحظى الكنيسة الكاثوليكية بحضور قوي في أرض جنوب السودان، شأن كنائس الطائفة الإنجليكانية وجماعات أخرى.

 لقد بذل الكثيرون في الوسط الديني جهودا بطولية لمساعدة المجتمعات على التعافي من العنف، ومن هؤلاء راهبة واحدة هي الأخت جريسي التي تمكنت من تأسيس العديد من المدارس والمنشآت الطبية بالحد الأدنى من الدعم الدولي.

يمكن أن تقدم الولايات المتحدة مساعدة ضخمة لجنوب السودان بالمساعدة على التعريف بهؤلاء الأفراد الموهوبين ودعمهم. وقد تثبت الكنيسة الكاثوليكية ـ بشبكتها الواسعة من الكنائس والمراكز المجتمعية ودور الصدقات وغيرها من المبادرات ـ أنه لا غنى عنها في مثل هذا الممعن الغارق في المحلية.

باختصار، الولايات المتحدة لديها منفردة الموارد المادية التي تضاهي سلطة البابا الروحية، وهما معا قادران على المساعدة في فرض النظام والبدء في استعادة جنوب السودان من خلال إقامة بنية أساسية مثل أنظمة المجاري والطرق والشبكات الكهربائية.

 

أيتبع الرئيس البابا؟

لا شك في أن عناصر النجاح بجنوب السودان متوفرة إذا ما قرر الرئيس جو بايدن أن يتولى دورا أكبر في شرق أفريقيا. فالحلول العسكرية للمشكلات الاجتماعية لم تثمر سلاما دائما في السنوات الأخيرة، لو أن لنا مؤشرا في تدخل الولايات المتحدة في العراق وأفغانستان.

 بل إنه في الوقت الذي خاضت فيه حليفتها القديمة فرنسا عملية بطولية ممتدة منذ عقود لمكافحة الإرهاب في القارة، فقد تراجعت الولايات المتحدة عن موقفها الثابت بعسكرة المناطق المحيطة وانتزاع يديها عند قيام ميلشيات فقيرة التسليح بالتغلب على قوات حكومية وطورت معداتها على حساب العم سام.

لقد استهل بايدن خطاب تنصيبه بإعلان التزام الإدارة بإبداء «القوة والعزيمة». ودعمه الراسخ لأوكرانيا في مواجهة العدوان الروسي أظهر إقباله على تحقيق العدالة وإرادة فولاذية على الوفاء بالالتزامات.

وفي حال توجيهه القوة الهائلة لجهاز السياسة الخارجية الأمريكية إلى تحقيق السلام في جنوب السودان، فقد يجد أيضا أن بلادا في أفريقيا ترحب بقيادة أمريكا المعنوية.

لو اتبع الرئيس بايدن خطى البابا فرانسيس في جنوب السودان وحقق ولو نجاحا محدودا، فقد يجد بلادا أفريقية أخرى تتوق إلى أن تسمع بأمر خططه التالية. أما لو سمح لهذه الفرصة بالتبدد، فقد يجد نفسه أمام مفاجأة غير سارة من المعادل الجيوسياسي لذبابة تسي تسي إذ تحط على كتفه.

*مستشار مصرفي وسياسي و مؤرخ

*الترجمة أحمد شافعي /omandaily

  مواضيع أخرى للمؤلف