×

  سوريا و الملف الکردي

  بعد 20 عاماً.. سوريا القفل والمفتاح



*حسني محلي

 

بعد أيام من انتخابه رئيساً للوزراء في 18 تشرين الثاني/نوفمبر 2002  قرّر عبد الله غول أن يقوم بجولة إقليمية لبحث إمكانيات العمل المشترك لمنع الغزو الأميركي على العراق. وأذكر أنني التقيته آنذاك لبحث هذا  الموضوع وأبديت له رأيي بضرورة أن تكون دمشق لأهميتها العربية والإقليمية والدولية محطته الأولى. وهو ما اقتنع به فزار دمشق في الرابع من كانون الثاني/يناير 2003 على الرغم من انزعاج كل من القاهرة وعمان  ثم الرياض التي عمل فيها غول كخبير اقتصادي في البنك الإسلامي لمدة 7 سنوات.

وكان آنذاك معظم أعضاء الحكومة السورية برئاسة مصطفى ميرو في استقبال غول (كنت مرافقاً له) في المطار وغادره فوراً للقاء الرئيس الأسد الذي أولى ضيفه التركي اهتماماً خاصاً ومميّزاً إيماناً منه بأهمية العلاقة مع تركيا بالنسبة لسوريا والمنطقة عموماً. خاصة بعد استلام حزب العدالة والتنمية ذي التوجّهات الجديدة  للسلطة في أنقرة التي اعتمدت شعار "صفر مشاكل مع الجيران" عندما كان أحمد داوود أوغلو مستشار غول للسياسة الخارجية.

وهكذا أصبحت سوريا بوابة تركيا للانفتاح على المنطقة العربية بل وإيران حيث زار غول  وإردوغان وداوود أوغلو ورؤساء البرلمان وجميع الوزراء سوريا أكثر من مرة .

فيما لم يتذكّر أحد أن الرئيس الأسبق أحمد نجدت سازار هو الذي سبق الجميع في الحوار الساخن والإنساني مع دمشق، حيث كان الرئيس الأجنبي الوحيد الذي شارك في تشييع جنازة الرئيس الراحل حافظ الأسد في حزيران/يونيو 2000.

وشهدت العلاقات التركية - السورية بعد ذلك التاريخ وبشكل خاص بعد كانون الثاني/يناير 2003 تطورات سريعة ومثيرة انتهت بالاجتماعات المشتركة لمجلسي الوزراء السوري والتركي معاً في دمشق (2009) وأنقرة في كانون الأول/ديسمبر 2010 أي قبل ثلاثة أشهر ممّا يسمّى "بالثورة السورية" التي تبنّتها تركيا (ومعها قطر) منذ لحظاتها الأولى بعيداً عن كل أنواع الوفاء الشخصي والرسمي في العلاقة بين أنقرة ودمشق التي عانت ما عانت منه بسبب الدور التركي المباشر في الأزمة السورية.

ويعرف الجميع أنه لولا تركيا (والمال القطري والسعودي) لما تجرّأت الأنظمة العربية بل وحتى الدول الغربية على التدخّل السافر في سوريا (حدودها مع تركيا 900 كم) التي تعرّضت لأكبر هجمة كونيّة لم تشارك فيها مئة دولة ومنظمة إقليمية ودولية بل أيضاً مئات الآلاف من الإرهابيين الأجانب الذي دخلوا سوريا عبر الحدود التركية مع سوريا.

 

وذلك باعتراف حمد بن جاسم الذي تحدّث أكثر من مرة عن تآمر الجميع ضد سوريا. وقال في أكثر من مقابلة إنّ كل شيء كان عبر تركيا التي أدت دوراً أساسياً مع قطر والسعودية في عملية طرد سوريا من الجامعة العربية التي لولا سوريا لما دعت إردوغان لحضور القمم العربية في الخرطوم(2006) والرياض (2007)  وسرت في آذار/مارس 2010.

وكان كلّ ذلك بفضل العلاقة الوطيدة بين أنقرة ودمشق التي لم تفتح أبوابها فحسب بل أبواب المنطقة العربية بشكلٍ مباشر وغير مباشر أمام تركيا ذات التوجّهات "الأخويّة" الجديدة.

 وكان الموقف السوري هذا كافياً "للدعاية" لهذه التوجّهات التي قال عنها البعض إنها جزء من المشروع الأميركي للتسويق لتجربة العدالة والتنمية كحزب إسلامي معتدل وصل السلطة ديمقراطياً  في دولة مسلمة نظامها السياسي علماني.     

واستغلت أنقرة سمعتها هذه ولاحقاً دورها المباشر وغير المباشر في سوريا بعد ما يسمّى بـ "الربيع العربي" لتحقّق العديد من المكاسب في سياساتها الإقليمية والدولية ومنها ليبيا والصومال والعراق. وتحوّلت تركيا بفضل تأثيرها في سوريا والدول المذكورة إلى عنصر مهم في مجمل الحسابات الإقليمية والدولية إن كان في أفريقيا أو البلقان أو القوقاز وآسيا الوسطى حيث الجمهوريات الإسلامية ذات الأصل التركي.

وساعد الواقع العربي السيّئ الرئيس إردوغان في تحقيق البعض من أحلامه في إحياء ذكرى الخلافة والسلطنة العثمانية خاصة بعد أن بايعه الإسلاميون العرب بصفته "الزعيم الروحي والسياسي" للعالم الإسلامي بعد أن كان هؤلاء الإسلاميون تابعين للرياض مادياً وسياسياً ودينياَ أي طائفياً في أغلب الأحيان. ومن دون أن يكون كل ذلك كافياً بالنسبة لإردوغان والذين بايعوه ومن تحالف معه في المنطقة وخارجها وبشكل خاص نظام آل ثاني لتحقيق الهدف الاستراتيجي لمشروع الشرق الأوسط الكبير والجديد.

فسقط نظام الإخوان في مصر بعد عام من استلامه للسلطة كما سقط نظامهم في تونس وكاد أن يسقط في ليبيا لولا التدخّل العسكري المباشر من تركيا التي أرسلت جيشها إلى طرابلس كما هي فعلت ذلك عندما تعرّضت الدوحة لتهديدات الرياض وأبو ظبي والمنامة والقاهرة في حزيران/يونيو 2017.

وجاءت ما تسمّى بالاتفاقية الإبراهيمية لتثبت للجميع أن سوريا هي قفل ومفتاح مجمل المعادلات الإقليمية والدولية خاصة بعد التدخّل الروسي المباشر في أيلول/سبتمبر 2015.  ولكن الأهم من كل ذلك بفضل صمود الجيش السوري المدعوم من إيران وحزب الله اللبناني، وأثبتت كل التطورات الأخيرة أنه سرّ كل المعادلات طالما أنه مصدر الرعب الحقيقي للكيان الصهيوني المهدّد "بالانقراض" بعد فشل كل مشاريعه ومخطّطاته على الرغم من تواطؤ العديد من الأنظمة العربية.

وكان ذلك كافياً بالنسبة لهذه الأنظمة كي تعود "إلى صوابها" وتعترف ولو بشيء من التأخير والخجل بفشلها بل وهزيمتها أمام صمود الدولة السورية وحلفائها وهو ما كلّف الشعب السوري الكثير والكثير من دون أي مبالاة من الأنظمة العربية التي يبدو أنها نسيت أنّ هذا الشعب هو شقيق لشعوبها المغلوب على أمرها.

وجاءت التحرّكات العربية الأخيرة للحوار والتنسيق والتعاون مع دمشق تحت شعار "إعادة سوريا إلى الحضن العربي" لإنقاذ ما تبقّى من ماء الوجه لدى الأنظمة العربية وما زال البعض منها "يتدلّل".

فالجميع يتذكّر كيف كانت الدوحة "رأس الحربة" في التآمر على سوريا حتى قبل ما يسمّى بـ "الربيع العربي" حيث كان أميرها حمد بن خليفة آل ثاني ومعه إردوغان حريصين على إقامة وتطوير علاقات مباشرة وخاصة ومميّزة مع الرئيس الأسد اعتباراً من 2003.

 

وجاء الاتفاق السعودي - الإيراني وبعد مصالحات إردوغان مع أبو ظبي والرياض والقاهرة و"تل أبيب" ليشجّع طهران والرياض وبمباركة من القاهرة ليقنع كل الأطراف أنه "لولا سوريا لا ولن يتسنّى لأحد حل أي مشكلة من مشاكل المنطقة ليس فقط في اليمن ولبنان والعراق وليبيا والصومال بل في العالمين العربيّ والإسلاميّ برمّته".

وبمعنى آخر إن "مسرحية" المساعي العربية لإعادة سوريا إلى الحضن العربي إنما هي في الحقيقة مساعي زعماء المنطقة لإنقاذ أنفسهم وبلدانهم بعد أن اقتنعوا أنه من دون سوريا لن يتم حل مشكلة "الخطر الإيراني" ومن دون تحييد  إيران لا يمكن محاصرة سوريا ومن دون "القضاء" على دمشق وطهران لا ولن يستطيع أحد التخلّص من حزب الله وأنصار الله وكل المناضلين الشرفاء من الشعب الفلسطيني الصامدين رغم الخنوع والاستسلام الذي عوّدنا عليه حكّام التطبيع.

وفي جميع الحالات وأياً كانت صيغة الحوار المستقبلي بين هؤلاء الحكّام ودمشق فقد بات واضحاً أنّ الجميع وبشيء من الخجل قد اقتنع وربما آمن أنّ سوريا انتصرت عليهم جميعاً، وأنّ الإصرار في التآمر عليها قد يلحق المزيد من الأذى بالشعب السوري ومعه اللبناني واليمني بل والعراقي.

إلا أنه في آخر المطاف فإنّ النهاية الحتمية ستكون مصيرهم جميعاً ومعهم الكيان  الصهيوني الذي تسابقوا للتطبيع معه.

 فأثبتت سوريا مرة أخرى  وكما فعلت قبل ذلك عدة مرّات أنها قفل القضية الفلسطينية وأنّ المفتاح بيد الشرفاء من الشعب الفلسطيني، وهم الآن أقوى من أي زمن مضى، والفضل أيضاً لصمود سوريا وحلفائها الذين هزموا معاً ليس فقط مئات الآلاف من الإرهابيين المجرمين بل ومن معهم من العملاء والخونة والمتواطئين في المنطقة وخارجها.

وإنّ شعوب المنطقة تعرفهم جيداً وتتمنّى لهم ولو لمرة واحدة وأخيرة أن يعودوا إلى صوابهم ويكونوا صادقين مع أنفسهم قبل الآخرين الذين لا ولن ينسوا ما قاموا به ضد الشعب السوري والذي أثبت للجميع أنه مع حلفائه هو القفل والمفتاح، وهو ليس بحاجة "لصدقة رمضان  ورحمة الشياطين"!.  

*باحث علاقات دولية ومختصص بالشأن التركي

*موقع الكاتب في الميادين.نت


17/04/2023