×

  سوريا و الملف الکردي

  مام جلال في الشام ...(3)



*علي شمدين

 

 

(عولما.. ممثلا للكرد السوريين)

خلال وجوده في الشام أواسط الخمسينيات، كان مام جلال محاطاً بنخبة من المتنورين الكرد الذين ساندوه وشكلوا معه فريقاً مؤثراً للعمل بين الوسط العربي بهدف تعريفه بعدالة القضية الكردية، وبناء العلاقات معه تحت شعار (تعزيز التآخي العربي الكردي)، مثلما كان هذا الفريق يهدف إلى العمل بين الوسط الكردي لإستنهاضه وإيقاظ وعيه القومي وتأسيس أداته النضالية، ويأتي في مقدمة هذه النخبة الأستاذ عبد الرحمن الذبيحي (عولما)، الذي تواجد في الشام آنذاك، ووقف إلى جانب مام جلال بكل عزيمة، وشكل له ظهيراً حمل معه عبء هذه المسؤولية التاريخة.

فيلتقي مام جلال بالأستاذ عبد الرحمن ذبيحي في الشام بمنزل السيدة (روشن بدرخان)، الذي كان قد وصل هو الآخر إلى الشام عام (١٩٥٥)، ويعملان معاً من أجل تأسيس أول حزب كردي سوري، حيث يقول مام جلال في مذكراته (لقاء العمر): (نحن في عام 1955 عندما سافرنا من سوريا إلى الخارج، كنا زرعنا حينذاك بذرة، وهي أن يتأسس هناك حزب كردي  مثل حزبنا..)، ويتحدث مام جلال عن دور ذبيحي في إنبات هذه البذرة، في لقاء له نشره علي كريمي في كتابه (سيرة حياة عبدالرحمن ذبيحي...)، مؤكداً بأنه: (حينذاك استطاع الأستاذ ذبيحي أن يشجع الشباب الكرد على تشكيل حزبهم، وبشكل خاص الأستاذ عثمان صبري وعبد الحميد درويش الذي كان نشيطاً جداً، واستطاع الأستاذ ذبيحي أن يبلور معهما فكرة تأسيس الحزب الديمقراطي الكردي في سوريا، فكان له اليد الطولى في ذلك..).

كما استطاع ذبيحي وبالتنسيق مع مام جلال أن يقف في وجه الكرد الكوسموبوليتيين، ويؤلف كراساً حول هذا الموضوع بعنوان (الردّ على الكوسموبوليتية)، وينشره ضدهم عام (١٩٥٧)، فأعطى الكراس حينذاك صدى واسعاً في الوسط السياسي، لأنه كان هو الصوت الأول الذي يصدر في وجه هؤلاء الذين ينكرون الوجود القومي الكردي، الأمر الذي ترك لدى المؤسسين الأوائل أثراً ملموساً وشجعهم على القيام بمبادرتهم التاريخية تلك، وهذا ما يؤكده أيضاً مام جلال في (لقاء العمر)، والذي يقول: (نحن عام 1955، عندما سافرنا من سوريا إلى الخارج ... كانت الأفكار الكوسموبوليتية شائعة حينذاك هناك، فنشر ذبيحي كراساً ضد الكوسموبوليتية بإسم محمود أحمد شنوي، كان مضمونه هو أننا كلنا كرد، وكلنا بشر، ولكن لكل شعب حقه في النضال المستقل من أجل تحرره القومي، والشعب الكردي هو أحد هذه الشعوب..).

لقد كان عبد الرحمن ذبيحي المفتاح الذي فتح مام جلال بواسطته باب العلاقات مع الوسط العربي، فيتحدث عنه مام جلال في مذكراته (لقاء العمر): (كنا، الأستاذ ذبيحي والدكتور كمال فؤاد وأنا، ذات يوم نتمشى في الشارع بدمشق، فالتقينا صدفة كلاً من صديق شنشل الذي كان سكرتيراً لحزب الإستقلال، ونائبه فائق السامرائي، ولأن الأستاذ ذبيحي كان يعرفهما من قبل، قاما بالسؤال عن أحواله وقدّمنا أيضاً للتعارف معهما، وعن طريقهما استطعنا آنذاك أن نلتقي برئيس البرلمان السوري أكرم الحوراني، والتقينا برئيس حزب البعث ميشيل عفلق، والتقينا أيضاً رئيس دائرة الإستخبارات السياسية عبد الحميد سراج..).

وهكذا، شيئاً فشيئاً استطاع عبد الرحمن ذييحي وبدعم من مام جلال أن يقدم نفسه سفيراً للقضية الكردية في الوسط العربي في كل من (سوريا ومصر)، وخاصة بعد أن بدأ اسم الرئيس (جمال عبد الناصر)، يتألق في هذا الوسط كرمز قومي عربي بعد تأميمه لقناة السويس عام (١٩٥٦)، وانفتاحه على المسألة الكردية، فاستطاع ذبيحي وبالإعتماد على علاقاته الشخصية أن يحضر المؤتمر الأول لشعوب آسيا وإفريقيا الذي انعقد في القاهرة عام (1957)، ونجح في اللقاء مع أنور السادات الذي كان يترأس المؤتمر آنذاك، والتقى فيما بعد مع (كمال رفعت)، وتمكن خلال تواصله مع المصريين أن يقنعهم بفتح القسم الكردي في أذاعة القاهرة (١٩٥٧- ١٩٦٨).

لا شك بأن عبد الرحمن ذبيحي لعب إلى جانب مام جلال دوراً رئيسياً وفعالاً في تأسيس أول حزب سياسي كردي في سوريا خلال تواجدهما في الشام أواسط الخمسينيات من القرن المنصرم، حتى بات من الممكن اعتبارهما من المؤسسين الأوائل الذين ساهموا عملياً في تأسيس هذا الحزب، مثلما عملا معاً من أجل التأسيس لعلاقات هامة مع الوسط العربي، الحكومي وغير الحكومي في (سوريا ومصر)، والتي مهدت فيما بعد لتبلور موقف جمال عبد الناصر الإيجابي تجاه القضية الكردية وخاصة في العراق ولقائه مع القيادات الكردية والترتيب لعودة البارزاني بعد نجاح ثورة عبد الكريم قاسم عام (١٩٥٨).

 لم تكن صدفة أن يبادر عبد الرحمن ذبيحي (عيسى ذبيحي)، إلى تمثيل الكرد السوريين في بغداد، بالتزامن مع تمثيل مام جلال لطلبة كردستان العراق، خلال تقديمهما معاً التهنأة لعبد الكريم قاسم بنجاح ثورته وتسلمه رئاسة الوزراء في العراق، وإنما كان هذا التمثيل إنعكاساً حقيقاً لمكانتهما الهامة لدى قيادة الحزب الديمقراطي الكردي في سوريا، ودورهما المؤثر في التفاعل مع حدث عظيم كهذا الذي حدث في

العراق لصالح القضية الكردية، وقد نشرت الجريدة الرسمية الخبر بخط عريض على صدر صفحتها الأولى، بعنوان (وفد طلبة كردستان العراقية، ووفد كرد الإقليم الشمالي من الجمهورية العربية المتحدة، يقابل سيادة رئيس الوزراء في وزارة الدفاع في يوم الخميس ١٨/٩/١٩٥٨)، وقد نص الخبرحرفياً: (قابل سيادة الزعيم الركن عبد الكريم قاسم رئيس الوزراء صباح أمس في وزارة الدفاع، طلبة كردستان العراقية مع وفد من كرد الإقليم الشمالي من الجمهورية العربية المتحدة، وقد ألقى كل من الأستاذ جلال طالباني أحد أعضاء وفد طلبة كردستان العراقية كلمة طيبة، والأستاذ عيسى ذبيحي أحد أعضاء وفد كرد الإقليم الشمالي للجمهورية العربية المتحدة، كلمة عبر فيها عن شعوره الصادق نحو الجمهورية العراقية..).

 

(في القامشلي بين الأهل والرفاق)

 

كما أسلفنا في الحلقات السابقة، فإن مام جلال وخلال تواجده في الشام (١٩٥٥- ١٩٥٨)، سخر كل جهوده في سبيل تشجيع المؤسسين الأوائل (أوصمان صبري، عبد الحميد درويش وحمزة نويران)، ومساعدتهم في تشكيل حزبهم الجديد، واستخدام علاقاته الواسعة من أجل التواصل مع العديد من التنظيمات الكردية الموجودة آنذاك (جمعية وحدة الشباب الديمقراطيين الكرد في سوريا، منظمة آزادي..)، ومع الشخصيات الوطنية (د. نور الدين زازا، جكرخوين وشيخ محمد عيسى..)، ونجاحه في دفعها للانضمام إلى (الحزب الديمقراطي الكردي في سوريا).

فقد بادر مام جلال إلى الاتصال مع الدكتور نور الدين زازا الذي كان قد عاد من أوروبا عام (١٩٥٦)، بعد نيله شهادة الدكتوراة في العلوم الإجتماعية، وسعى إلى إقناعه للانضمام إلى الحزب الجديد، وبالتالي تسلمه رئاسة هذا الحزب، وفي هذا المجال يقول نور الدين زازا نفسه في كتابه (حياتي الكردية): (إنني وبالرغم من إلتزاماتي كأستاذ للتربية والإجتماع في جامعة دمشق، بدأت بتنفيذ مهمتي، وقد ساعدني في ذلك مام جلال..).

وبالفعل لم يتوان مام جلال عن مساعدة الدكتور نور الدين زازا في مهمته التاريخية تلك، حيث سارع إلى التواصل مع منظمة (آزادي)، التي كان يترأسها الشاعر الكردي (جكرخوين)، الذي لم يتردد في الاستجابة لطلب مام جلال في حل منظمته والإعلان عن إنضمامه إلى (الحزب الديمقراطي الكردي في سوريا)، وكان من أبرز أعضاء هذه المنظمة الذين استجابوا لقرار جكرخوين بالإنضمام إلى الحزب، هم: (زبير حسن، مجيد حاجو، محمد فخري، عثمان عثمان، بشير ملا صبري..)، أما الذين رفضوا قرار الإنضمام، هم: (شيخموس قرقاتي، شيخموس شيخي..).

هذا وقد توجه مام جلال برفقة نور الدين زاز من الشام إلى مدينة القامشلي لحشد الرأي العام الكردي حول الحزب الجديد، وهناك اجتمع مام جلال في منزل الدكتور أحمد نافذ بتاريخ (٣٠/١١/١٩٥٨)، وبحضور د. نور الدين زازا مع السيدين (سامي أحمد نامي، ودرويش ملا سليمان)، باعتبارهما كانا يمثلان قيادة (جمعية وحدة الشباب الديمقراطيين الكرد في سوريا)، التي كانت قد تشكلت في (٢١/٤/١٩٥٤)، وفي هذا المجال يقول سامي نامي في كتابه (لوحات من التاريخ المفقود)، موجهاً كلامه لمام جلال وللحضور: (أنتم تعلمون بأن جمعيتنا، وكما نعتقد نحن، هي واحدة من التنظيمات السياسية الغنية جداً بنشاطاتها وبعدد أعضائها، ومع ذلك قررنا بناء على طلبكم أن ننضم تحت مظلة الحزب الديمقراطي الكردي في سوريا.. ومن الآن وصاعداً سنلبي كل ما يطلبه منا الحزب من دون تردد..).

ومن الجدير ذكره هنا، هو أن مام جلال ونور الدين زازا كانا قد حضرا إلى القامشلي بحجة المشاركة في حفلة زفاف (سامي أحمد نامي)، والتي عقدت بتاريخ (٢٨/١١/١٩٥٨)، وكان قد حضر معهما تلك الحفلة أيضاً عدد من الرموز الثقافية والاجتماعية الكردية المعروفة، منهم (أحمد نافذ، عارف عباس، سليمان حاجو، عبدي تيللو، حسن هشيار والشاعر تيريز..)، ويذكر سامي نامي في كتابه هذا بأنه في بداية الحفلة بادر سليمان حاجو إلى الترحيب بوجود مام جلال بينهم، وقام بتقديمه إلى الحضور، كما يلي: (هذا هو الأخ والرفيق جلال طالباني، إنه ضيف عزيز، قادم من كردستان العراق ليشاركنا هذه الحفلة، ونحن نقول له: أهلاً وسهلاً بك، والآن أدعوه باسمكم للتفضل بإلقاء كلمة..)، ويذكر سامي أيضاً في كتابه بأن مام جلال بادر إلى تهنئة العروسين وذويهما، وقال: (أنا لست ضيفاً، أنا اليوم في بيتي، بين أهلي ورفاقي، فعندما يذهب كردي من جزء كردستاني إلى جزء آخر، كمن ينتقل في بيته من غرفة إلى أخرى).

هذا وقد ألقى الدكتور نور الدين زازا أيضاً كلمة، قال فيها: (نحن سعيدون جداً بهذا اللقاء، وأدعوا الشباب الكرد ذكوراً وإناثاً كي يتعلموا، وأن ينضموا إلى حركة شعبهم، العلم وحده هو الذي ينير درب الحرية أمام الشعوب، ويحررهم..).

وهكذا تحولت حفلة الزفاف بحضور مام جلال إلى مهرجان قومي.

لقد كانت لمام جلال اليد الطولى في الدعوة إلى حل مختلف التنظيمات الكردية وتوحيدها تحت غطاء (الحزب الديمقراطي الكردي في سوريا)، وكذلك كانت له مساهمة قوية في استكمال أعضاء قيادته واختيار الدكتور نورالدين زازا رئيساً له..

 

(اللجنة التحضيرية والوفد الكردي إلى مهرجان موسكو)

بعد أن تمكن مام جلال من الحصول على بطاقة العبور (ليزا باص)، للسفر من الشام إلى موسكو عام (١٩٥٧)، لحضور المهرجان العالمي للطلبة والشباب العالمي، قام بتأمين الدعوة أيضاً لكل من (سينم بدرخان، عبد الرحمن ذبيحي، هزار موكرياني وعزالدين مصطفى رسول)، إلا أن اللجنة التحضيرية للمهرجان في الشام، رفضت حينذاك مشاركتهم وخاصة عزالدين رسول الذي كان عضواً في الحزب الشيوعي العراقي وتربطه علاقات قوية مع مام جلال ورفاقه.

وحول استبعاده عن المشاركة في المهرجان يقول عزالدين رسول في اللقاء الذي أجراه معه علي كريمي: (عندما أخذت بطاقتي إلى اللجنة التحضيرية للمهرجان، سرعان ما قال لي شخص واسمه محمد صالح وكان عضواً في المكتب السياسي للحزب الشيوعي آنذاك: لو كنا نرغب في إرسالك إلى المهرجان لكنا فعلناه نحن بأنفسنا..)، أما ما يتعلق بالثلاثة الآخرين فإن عزالدين رسول يقول: (لقد قام الدكتور عبد الرحمن قاسملو بالتدخل عند السفارة التشيكية لتأمين الفيزا لذبيحي وهزار وسينم.. ولأن الشيوعيين السوريين كانوا منزعجين من سفر هؤلاء الثلاثة لأنهم لم يسافروا عن طريقهم وإنما عن طريق قاسملو، فقاموا بإخبار السفارة التشيكية بذلك وعطلوا سفرهم بالفعل..).

كما أن هزار موكرياني الذي ضمه مام جلال إلى الوفد، والذي كان يقيم حينذاك في بلدة تربسبيي، يقول حول ذلك في كتابه (طعام الفقهاء)، بأنه استلم في صيف عام (١٩٥٧)، رسالة من مام جلال، جاء فيها: (استجابة لقرارات مؤتمره المنعقد في خريف ١٩٥٦، فقد قبل الحزب الشيوعي العراقي أن يذهب وفد كردستان مستقلاً إلى مهرجان موسكو ويتحدث هناك بحرية عن الكرد، وطلب مني أن أجهز نفسي للسفر..)، وفي هذا الإطار يذكر هزار في كتابه بأن محلية الحزب الشيوعي السوري في مدينة القامشلي كانت هي الأخرى قد أعلنت بأن كل من يرغب في المشاركة بمهرجان موسكو عليه أن يسجل اسمه لديها مقابل دفع مبلغ قدره (٦٠٠) ليرة سورية لصالح الحزب، ويقول: (بدأت بتجميع المبلغ، أو الأصح بدأت بالتسول حتى تمكنت من تجميع ما يقارب ستمائة ليرة سورية من أجل السفر..)، وبعد أن وصل هزار إلى الشام وقام بمراجعة مقر اللجنة التحضيرية هناك للحصول على تأييد السفر وتأمين الفيزا، يقول: (وما أن قلت لهم بأن الكرد سيذهبون كوفد مستقل، حتى جن جنونهم والعياذ بالله، وقالوا بأن هذا أمر مستحيل، وعندما أخبرتهم بأن الحزب الشيوعي هو الذي قرر ذلك، أجابني أحدهم غاضباً: فلتذهب قرارات الحزب إلى الجحيم).

وحول تدخل الشيوعيين في منع ذهاب (سينم وذبيحي وهزار)، يقول مام جلال في كتاب (رحلة العمر): (لم یقبلھم أحد لا الوفد العراقي ولا الوفد السوري! ولذلك قرروا السفر مع سینم خان عن طریق آخر عبر ألمانیا ثم موسكو، ولكن لم یسمح لھم السفر من ألمانیا فعادوا إلى الشام بعد أن تجشموا عناء كبیرا في طریق سفرھم ھذا..).

لا شك بأن الحزب الشيوعي في كل من سوريا والعراق، لم يكن يسرهما حينذاك تنامي الوعي القومي في المجتمع الكردي الذي كانا يحتكرانه سياسياً من دون منازع، ولهذا لم يكن موقف اللجنة التحضيرية آنذاك ينبع من الفراغ، وهذا ما يؤكده هزار موكرياني في كتابه الآنف الذكر بأن الحزب الشيوعي قام بضم خمسين شخصاً من الكرد الشيوعيين في الجزيرة لقافلة السفر إلى مهرجان موسكو مقابل دفع كل منهم لما يزيد عن ستمائة ليرة سورية للحزب، وبعد عودتهم صاروا يقولون: (إنهم أخبرونا منذ اليوم الأول من وصولنا إلى موسكو، بأنه وبأمر من الرفيق خالد بكداش، لا يسمح لأحد منا أن يقول بأنه كردي، وعلينا أن نلبس أيضاً الزي العربي، الكلابية والعقال، وأن نقول بأننا من عرب سوريا، وهددونا بأن من يتصرف منا خلاف ذلك فإنهم سيطردوننا من بينهم..).

وكردة فعل على هكذا موقف كوسموبوليتي، بدأ هؤلاء بعد عودتهم إلى الجزيرة بإثارة الشكاوى والإحتجاجات ضد حزبهم الذي سارع من جهته إلى طردهم من بين صفوفه، وفي إتصال هاتفي يقول المحامي الكردي (عثمان عثمان)، الذي كان حينذاك عضواً في الحزب الشيوعي السوري، وعضواً في وفده إلى موسكو: (كان يرافقنا آنذاك على متن الباخرة أيضاً السيد أوصمان برو، وهو مسؤول شيوعي كردي معروف بسلوكه الكوسموبوليتي، الذي قام بتحذيرنا من الإتصال بإثنين من الوفود المشاركة في المهرجان، وهما الوفد الكردي والوفد الإسرائيلي، بحجة تجنب إغضاب البعثيين، ولكنني لم التزم بكلامه وتواصلت مع الوفد الكردي ومع مام جلال الذي كان متألقاً بأدائه ومحترماً من قبل الجميع، فالتقيته لأول مرة والتقطت معه العديد من الصور التذكارية..).

واستذكر عثمان عثمان حادثة جميلة كان شاهداً عليها، وقال: (حضرنا في أوديسا ندوة طلب فيها رئيس الوفد العراقي من مام جلال أن يلقي كلمة باسم الوفد العراقي، وبينما كان مام جلال يتحدث عن الشعب الكردي وقضيته العادلة، أبدى أحد الحضور امتعاضه من كلامه وصار يشتمه ويقول لا شك أنه كردي، فصدف أن كان جالساً خلفه قدري جان الذي سارع بعد انتهاء الندوة إلى الإمساك بقوة بياقته ذاك الشخص الذي كان يسمى صلاح دهني والذي بات فيما بعد ناقداً سينمائياً سورياً معروفاً، وكان قدري جان يحاول ضربه، وهو يقول: هذا الكلب يشتم مام جلال..)، وهكذا يتابع المحامي أوصمان أوصمان كلامه، ويوقل: (بعد عودتنا من موسكو بدأنا بالإحتجاج على موقف الوفد الشيوعي السوري السلبي تجاه الوفد الكردي، وقدمنا استقالات جماعية بسبب ذلك..).

وهكذا، وبالرغم من العقبات التي ظهرت أمام مشاركة مام جلال والوفد المرافق له في مهرجان الطلبة والشباب العالمي في موسكو عام (١٩٥٧)، والتي أثيرت من جانب بعض الجهات وخاصة من جانب وفدي الحزب الشيوعى في كل من ( سوريا والعراق)، إلا أنه مع ذلك نجح في أداء مهمته بمهارة سواء على صعيد الحضور المميز والقيام بنشاطاته كوفد كردي مستقل، أو على صعيد نجاحه في اللقاء مع الملا مصطفى البرازاني، هذا اللقاء الذي شكل البوابة الرئيسية لعودة البارزاني إلى العراق بعد نجاح ثورة الزعيم عبد الكريم قاسم عام (١٩٥٨).

 

 

(القسم الكردي في إذاعة القاهرة)

لقد استوعب مام جلال خلال النصف الأخير من خمسينيات القرن المنصرم، وهو لا يزال شاباً في مقتبل العمر يعيش لاجئاً في الشام، عمق المتغيرات التي باتت تعصف بالمنطقة وخاصة بكل من مصر والعراق، وأدرك بحدسه الفطري وذكائه الحاد خطورة تلك المرحلة على مستقبل الشعب الكردي، وأهمية المبادرة إلى ملء الفراغ الذي شكله غياب رئيس حزبه الملا مصطفى بارزاني عن الساحة السياسية، فلم يتردد في المغامرة، وخاصة بعد حصوله على تأييد الملا مصطفى بارزاني خلال لقائه في موسكو عام (١٩٥٧)، بدفع القضية الكردية نحو دائرة هذا الصراع الذي باتت ملامحه تتبلور في صيغة حلف بغداد (١٩٥٥)، الذي كان يهدف إلى تشكيل حزام دفاعي يحصن المنطقة من التمدد السوفيتي وحمايتها من النفوذ الشيوعي، وفقاً لما خطط له مسبقاً وزير الخارجية الأمريكي (فوستر دالاس)، والذي نصت بنوده على التحالف المشترك بين الدول الأعضاء في هذا الحلف لمحاربة أي عصيان أو تمرد قد يحدث مستقبلاً في هذه البلدان (العراق، تركيا، إيران وباكستان..)، وكانت الحركة التحررية الكردية هي المقصودة بهذا القول بكل تأكيد.

وانطلاقاً من قراءته الدقيقة لتلك الظروف التي كانت تعصف بالمنطقة، وفهمه العميق لطبيعة الصراع الذي بات شبحه يخيم على المنطقة، بدأ مام جلال بالعمل انطلاقاً من الشام من أجل تأمين قنوات التواصل مع الرئيس جمال عبد الناصر الذي كان حينذاك يقف بالضد من هذا الحلف ويعمل من أجل إجهاضه بكل إمكاناته، فالتقى مام جلال بكمال الدين رفعت (وزير شؤون رئاسة الجمهورية المصرية)، في الشام عام (١٩٥٧)، ووجه من خلاله عدة مطالب إلى الرئيس جمال عبد الناصر، وهي الموافقة على افتتاح القسم الكردي في إذاعة القاهرة، واستقبال وفد كردي في القاهرة، وترتيب اللقاء بينه وبين الملا مصطفى بارزاني خلال زيارته إلى موسكو، وفي هذا المجال يقول مام جلال في لقائه مع غسان شربل (جلال طالباني يتذكر)، عام (١٩٨٨)، ما يلي: (وبعد ذلك تلقينا جواباً مفاده أن الرئيس عبد الناصر وافق على هذه المطالب، وبالفعل تم افتتاح إذاعة كردية في القاهرة عام ١٩٥٧).

لقد أدرك مام جلال أهمية وجود إذاعة ناطقة باللغة الكردية من أجل التعريف بالقضية الكردية والدفاع عن عدالتها، في خضم هذه الحرب الإعلامية المحتدمة بين (مصر والعراق)، وفي هذا المجال يقول عبد الجليل صالح موسى في كتابه (جمال عبد الناصر والقضية الكردية): (لقد كان الشعب الكردي آنذاك بحاجة إلى وجود إذاعة باللغة الكردية لتعبر عن طموحاته وآماله، ولا سيما أن وسائل الإعلام الكردية كانت مقتصرة على الصحف فقط، ومما يدل على ذلك ما جاء في متن الرسالة التي بعث بها جلال الطالباني عام ١٩٥٧، إلى البارزاني عندما كان مقيماً في الاتحاد السوفييتي السابق، يحثه فيها على السعي لإقناع الحكومة السوفييتية لفتح إذاعة باللغة الكردية)، هذا وقد أورد السيد مسعود بارزاني النص الأصلي لهذه الرسالة في كتابه (ثورة بارزان عام ١٩٤٥- ١٩٥٨).

الحقيقة أن ردة الفعل الهستيرية التي أبدتها آنذاك حكومات كل من (تركيا، وإيران والعراق)، تجاه هذه المبادرة التي بادر إليها مام جلال هي التي تعكس بدقة أهميتها التاريخية، حيث بلغ الأمر برئيس الوزراء العراقي آنذاك (نوري السعيد)، كما يقول (عبد الجليل صالح موسى)، إلى مطالبة الرئيس جمال عبد الناصر بإغلاق تلك الإذاعة، وتحذيره بعدم اللعب بالورقة الكردية التي (ستحرقه).

كما أن الكاتب الكردي شورش درويش في مقاله (عبد الناصر والكرد والمقاربة المختلفة)، يذكر نقلاً عن عمر شيخموس (أحد مؤسسي الاتحاد الوطني الكردستاني)، وعن غسان شربل (رئيس تحرير جريدة الحياة)، حكاية السفير التركي الذي طلب لقاء الرئيس المصريّ لينقل إليه احتجاج بلاده على افتتاح الإذاعة الكردية ومطالبته بإغلاقها، فيقول بأن رد الرئيس عبد الناصركان حاذقاً، حين قال: (إن المحطّة موجهة لكرد العراق وسوريا وأنتم تقولون لا وجود للكرد في تركيا )، فيؤكد السفير التركي على وجود كرد في تركيا، حينها يخرج الرئيس عبد الناصر ورقة بيضاء ويطلب من السفير التركي الإقرار كتابة بوجود الكرد في تركيا وحينها سوف يتخذ هو بنفسه الإجراء اللازم بخصوص تلك الإذاعة.

وإن إيران هي الأخرى لم تتخلف عن التعبير عن احتجاجها على إنشاء القسم الكردي في إذاعة القاهرة، فسارعت إلى إنشاء إذاعة كردية بأمر من الشاه محمد رضا بهلوي في كرمنشاه للرد على خطاب الإذاعة الكردية في القاهرة.

أما عن الموقف السوري من تلك الإذاعة، فإن البروفيسور عز الدين مصطفى رسول الذي كان مقيماً في الشام آنذاك، يقول في مقال له نشر في العدد (٢٤٩/ تاريخ ٢٧/١٢/١٩٩٧)، من جريدة (الاتحاد)، بعنوان (صفحات من مذكرات الإذاعة الكردية في القاهرة)، ما يلي: (من المفارقات الغريبة أن المصريين كانوا ينظمون البرامج ويعدونها للإذاعة، بينما كانت أجهزة عبد الحميد سراج في سوريا تطارد من يستمع إليها في الجزيرة وعفرين..)، ويذكرعز الدين رسول أيضاً في مقدمته للطبعة الثانية من كتاب (مسألة كردستان)، لكاتبه قدري جميل باشا (زنار سلوبي)، بأنه: (عندما افتتحت الإذاعة الكردية في القاهرة، كنا نذهب، قدري جان وأنا، إلى موقع السفارة المصرية، التي كانت تقوم بمهام هيئة تنسيق حكومة الوحدة، نسجل هناك المواد الإذاعية، وكنا نرسلها إلى القاهرة يوميًا).

لا شك بأن مام جلال قد توفق حينذاك في بناء شبكة واسعة من العلاقات مع الوسط العربي، استثمرها بنجاح من أجل التعريف بالقضية الكردية ودفعها بمهارة نحو دائرة الأضواء، لتصبح رقماً هاماً يحسب له الحساب في معادلات الصراع الجارية في منطقة الشرق الأوسط، وقد تجلى ذلك بوضوح خلال مراسيم عودة البارزاني من موسكو مروراً بالقاهرة واستقباله بحفاوة من قبل الزعيمين (جمال عبد الناصر، وعبد الكريم قاسم).


09/05/2023