×

  المرصد الخليجي

  آثار الانتخابات على الحرب في اوكرانيا و الخليج وسوريا



*سرحات اس شوبوكشو أوغلو

  

*مركز تريندز للبحوث والاستشارات

في الانتخابات العامة التركية 14 مايو 2023، إذا لم يحصل أي مرشح على أكثر من 50% من الأصوات، فستُجرى الجولة الثانية في 28 مايو بين المرشحيْن الأوليْن؛ اللذيْن من المرجح أن يكونا الرئيس الحالي، رجب طيب أردوغان، ورئيس حزب الشعب الجمهوري، كمال كليجدار أوغلو.

قامت ستة أحزاب معارضة بتشكيل تحالف وأعلنت ترشيح كليجدار لمواجهة أردوغان. ولكن تحالف “طاولة الستة” كيان ضعيف نسبيًّا حيث يستمد قوته من ردود الفعل الشعبية تجاه أردوغان أكثر مما يستمدها من جدارة أو قاعدة صلبة. فهو في الحقيقة كيان هش وعُرضة للتنافس السياسي الداخلي. ولا شك في أن الانقسامات داخل المعارضة تزيد من فرصة إعادة انتخاب أردوغان.

 

الاقتصاد:

يمر الاقتصاد التركي بأوقات صعبة حيث بلغ التضخم أكثر من 50%. وتشير التقديرات إلى أن الزلازل التي وقعت في فبراير قد أحدثت أضرارًا في البنية التحتية وخسائر اقتصادية تبلغ 104 مليارات دولار؛ أي ما يعادل 12% من الناتج المحلي الإجمالي؛ الذي يبلغ 906 مليار دولار، ونصيب الفرد من الدخل 10,661 دولارًا.

تباطأَ التضخم في عام 2023، ولكن أضرار الزلازل وارتفاع أسعار الطاقة والغذاء تظل تمثل العوامل الرئيسية وراء الديون الخارجية وعجز الحساب الجاري وعجز الميزانية.

 

العلاقات الخارجية:

تنتهج تركيا سياسة الاستقلال الاستراتيجي والحياد النشط في الحرب الأوكرانية الروسية وتبقي قنوات الاتصال مفتوحة مع جميع الأطراف. وليس من مصلحة أنقرة الوقوف مع أي طرف في الحرب ولا أن ينتصر أي منهما على الآخر، بل من مصلحتها الاستمرار في السياسة المثلى المتمثلة في “توازن التهديد” من أجل الحفاظ على الانخراط والتأثير مع جميع الأطراف، والبقاء بعيدًا عن أي نزاع مسلح مباشر.

سجل حجم التجارة الروسية التركية رقمًا قياسيًّا بلغ 68 مليار دولار في عام 2022. وتُعدّ روسيا اليوم مصدر الاستيراد الأول وثامن وجهة تصدير بالنسبة لتركيا. وتظل تركيا الممر الجوي الوحيد الصالح بالنسبة لروسيا إلى الغرب.

بدأت تركيا تتّبع سياسة التقارب مع دمشق بهدف إدارة عودة جزء على الأقل من 4.5 ملايين شخص تحت الحماية المؤقتة، وتطهير الحدود الشمالية لسوريا من وحدات حماية الشعب (الكردية). وقد اجتمع قادة الدفاع والاستخبارات الأتراك والسوريون في موسكو في 25 إبريل 2023 لمناقشة سبل إصلاح العلاقات. غير أن هذا التقارب يقوض الجهود الأمريكية الرامية إلى إنشاء منطقة متاخمة تحت سيطرة وحدات حماية الشعب في شمال سوريا.

ستستمر المصالحة مع دول الخليج ومصر بصرف النظر عن نتيجة الانتخابات، وذلك لأسباب اقتصادية في الأساس، ولمصلحة أنقرة أيضًا في الخروج من العزلة الإقليمية التي أنهكت السياسة الخارجية التركية خلال الفترة 2013-2021.

 

الانتخابات التركية في عام 2023

بعد 21 عامًا في السلطة، يواجه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان تحديات كبيرة، بدءًا من الركود الاقتصادي إلى إخفاقات السياسة الخارجية، وهو يتجه نحو انتخابات على درجة كبيرة من الأهمية في الذكرى المئوية للجمهورية. ولكن المعارضة ليست قوية بما يكفي لضمان الفوز. وقد قامت ستة أحزاب من مختلف أجزاء الطيف السياسي بتشكيل تحالف سمي بـ “طاولة الستة” لتوحيد قواها بهدف التغلب على أردوغان. وبعد مساومة مكثفة بين هذه الأحزاب الستة، تم تقديم رئيس حزب الشعب الجمهوري؛ الحزب المعارض الرئيسي، كمال كليجدار أوغلو، للترشح للرئاسة.

كليجدار أوغلو هو موظف حكومي متقاعد يحمل آراء سياسية تنتمي إلى يسار الوسط، وقد ظل على رأس حزب الشعب الجمهوري منذ عام 2010. وفي ظل قيادته، شكلت “طاولة الستة” تحالفًا عريضًا من أحزابٍ من اليسار والوسط واليمين، بدعم من حزب الشعب الديمقراطي ذي الميول اليسارية الذي يهيمن عليه الكرد. وقد ساعد التحالف نجاحُ عمدتين في إسطنبول وأنقرة، هما أكرم إمام أوغلو ومنصور يافاش، استطاعا هزيمة حزب العدالة والتنمية بعد 15 عامًا في أكبر مدينتين في البلاد.

كان إجراء الانتخابات مقررًا عادةً في 18 يونيو 2023، وفي ظل الظروف الطبيعية لن يتمكن أردوغان من الترشح لفترة رئاسية أخرى. ولكن باستغلال ثغرةٍ في الدستور، حيث إن المادة 101 ألغت احتساب رئاسة أردوغان السابقة بين 2014-2018، أعاد جدولة الانتخابات لتكون في 14 مايو وكسب فرصة لإعادة انتخابه للمرة الثالثة والأخيرة. ولا يمكن للناخبين أن يُدلوا بأصواتهم إلا بأنفسهم فقط، ما يعني عدم وجود تصويت عبر الإنترنت أو البريد، الأمر الذي يمثل تحديًا للمجموعات النازحة جغرافيًّا، مثل ضحايا الزلازل. ولم يكن للزلازل الأخيرة أي تأثير على موعد الانتخابات، ولكن ليس معروفًا حتى الآن كيف ستؤثر إجراءات الطوارئ على الحكومة والاقتصاد والسكان في جنوب شرق تركيا. ولا يجوز تأجيل الانتخابات إلا في حالة الحرب، وهو أمر مستبعد.

يُعزى جزء من نجاح أردوغان في الماضي إلى عدم كفاءة المعارضة، بسبب تباين الأيديولوجيات والأجندات والخلافات الشخصية بين قادة الأحزاب وأتباعها، أكثر من كونه نتاجًا لقدراته القيادية. وعلى الرغم من الأزمة الاقتصادية غير المسبوقة التي تؤثر في جميع شرائح المجتمع، ما زالت أحزاب “طاولة الستة” ومؤيدوها ضعفاء ومنقسمين بشأن كل شيء ما عدا القضية المشتركة المتمثلة في إزاحة أردوغان. وفي غضون ذلك، قدم حزب العدالة والتنمية عروضًا شعبوية، مثل زيادة الأجور والتقاعد المبكر لإغراء الناخبين. وعلى الرغم من وجود الكثير من الشكوك، فإن خسارة أردوغان في الانتخابات لن تكون نتيجة محتومة ما دامت المعارضة هشة ولا تملك أجندة متماسكة.

إن السيناريو الأهم، ولكنه أقل احتمالًا، هو أن يعترض أردوغان على نتيجة الانتخابات إذا خسر، الأمر الذي سيكون اختبارًا لمدى قوة الديمقراطية التركية. وفي السيناريو الأسوأ، ربما تدخل البلاد في أزمة وسط تدفق الفصائل المتنافسة إلى الشوارع، ولكن أردوغان سياسي داهية ما كان سيعلن ترشيح نفسه أصلًا إذا كانت فرصه في الفوز ضئيلة.

 

التداعيات الاستراتيجية للانتخابات التركية: لمحة عامة

إذا أعيد انتخاب أردوغان، ستستمر المصالحة مع دول الخليج. فعلى سبيل المثال، حسّنت تركيا ودولة الإمارات العربية المتحدة علاقاتهما بسرعة، حيث وقعتا على اتفاقية تعاون اقتصادي شاملة في مارس 2023 بهدف زيادة حجم تجارتهما من 19 مليار دولار إلى 40 مليار دولار خلال السنوات الخمس المقبلة.

في العصر التصالحي الجديد، خصوصًا بعد الاتفاقيات الإبراهيمية (2020) وقمة العُلا (2021) والزيارات المتبادلة بين دولة الإمارات العربية المتحدة وتركيا منذ عام 2021، يعطي أردوغان الأولوية للتوجّه الإقليمي من خلال إصلاح العلاقات والتكامل الاقتصادي بدلًا من استعراض القوة الجيوسياسية. وفي حال فوز كليجدار أوغلو في الانتخابات، ستسرّع تركيا عجلة التقارب مع دولة الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية. ففي أعقاب الزلازل التي ضربت تركيا، تحتاج أنقرة إلى كل الدعم لكي تخرج معافاة من هذه الأوقات الاقتصادية العصيبة التي تمر بها.

وفقًا لاستطلاع حديث لآراء الشخصيات البارزة في المعارضة التركية، ليس من المتوقع أن تختطّ السياسة الخارجية مسارًا مختلفًا تمامًا بشأن الملفات الرئيسية، مثل روسيا وأوكرانيا، واليونان، وقبرص، إذا تغيرت حكوماتها.

 مع ذلك، يظل التحدي الداخلي الرئيسي متمثلًا في عدم المؤسسية في نظام صنع القرار والإفراط في تمركزه في يد الرئاسة التنفيذية. لقد كشفت الزلازل أن المحاباة والمحسوبية والفساد في عهد حزب العدالة والتنمية كلفت البلاد كثيرًا. وعلى الرغم من تعهُّد المعارضة بإعادة البلاد إلى نظام برلماني يتمتع بضوابط وموازين أقوى، ليس من الواضح كيف تخطط لتحقيق ذلك وسط تباين وجهات النظر بين أعضاء التحالف حتى حول أساسيات أي دستور جديد. ومن المتوقع أن تستمر سياسة الحياد التركية تجاه الحرب الأوكرانية الروسية، برغم أن من المرجح أن تميل المعارضة أكثر نحو أوكرانيا وأن تتعاون مع الولايات المتحدة/حلف الناتو في مقاومة العملية العسكرية الروسية.

العلاقات مع حلف الناتو متوترة بسبب حق الفيتو الذي استخدمته أنقرة ضد محاولة السويد الانضمام إلى الحلف. وقد وافقت تركيا على انضمام فنلندا إلى الناتو، وتدعم، مبدئيًّا، طلب السويد للانضمام ولكن تبقيها في الانتظار لأسباب سياسية. وبعد حادثة حرق القرآن في ستوكهولم، أبلغ أردوغان السويد بألّا تتوقع الدعم من تركيا. غير أن من المرجح أن يكون هذا الموقف حيلة انتخابية لجذب الناخبين القوميين المتدينين ليقفوا مع حزب العدالة والتنمية.

ووفقًا لاستطلاع رأي حديث أجرته وكالة الأناضول للأنباء، فإن أكثر من 90% من الأتراك يعارضون عضوية السويد في حلف الناتو قبل أن تحقق تقدمًا ملموسًا في مكافحة الإرهاب، بما في ذلك اتخاذ إجراءات أقوى ضد حزب العمال الكردستاني المحظور وكذلك ضد جماعة غولن، وتسليم أعضائها.

 ومن المرجح أن تستمر هذه القضية، على الأقل، إلى ما بعد الانتخابات، وربما إلى ما بعد قمة حلف الناتو المقبلة في يوليو. 

وبرغم أن بعض قادة الرأي يرون أن تركيا يمكن أن تُستبعد من عضوية الناتو، لا توجد آلية لاستبعاد بلد عضو من عضوية النادي، ما لم يرغب العضو نفسه في ذلك. وبصرف النظر عن الحزب السياسي الذي يفوز في الانتخابات التركية، قد توافق أنقرة على توسيع الناتو بضم السويد ربما مقابل الحصول على دعم إدارة بايدن لطلب تركيا القائم منذ مدة طويلة لشراء مقاتلات من طراز إف-16 ومجموعات من قطع الغيار من الولايات المتحدة. بيد أن جو بايدن لم يمارس أي مساع سياسية لدعم الصفقة لدى الكونغرس بعد، كما أن جماعات الضغط المناهضة لتركيا، بقيادة السناتور بوب مينينديز، وهو رئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ، تواصل اعتراضها على أي صفقة محتملة.

وفي خضم عدم اليقين بشأن العلاقات بين أنقرة وواشنطن، ثمة تقارير عن اهتمام تركيا بتوطيد التعاون مع المملكة المتحدة. فقد زار وزير الدفاع التركي خلوصي أكار لندن، والتقى نظيره مرتين خلال الأشهر الستة الماضية، ما عزز التكهنات بشأن استعداد تركيا لعقد صفقة مشتريات دفاعية كبيرة تتضمن مقاتلات من طراز يوروفايتر، وفرقاطات من النوع 23، وطائرات شحن، ومحركات لدبابتها القتالية المحلية. وتبدي تركيا اهتمامًا بشراء مقاتلات يوروفايتر مستعملة من فئة “ترانش 1” من المملكة المتحدة كحل مؤقت ريثما تصبح طائرتها المحلية من طراز تي إف-إكس جاهزة بحلول عام 2028. وبالنظر للوضع الاقتصادي الضعيف في تركيا، ثمة شكوك بشأن ما إذا كانت تلك الخطط تحظى بأي أولوية في الأمد القصير.

وتحتاج تركيا، كي تستخدم طائرات اليوروفايتر بفعالية، إلى الحصول على الشفرة المصدرية الحاسوبية وأن تكون قادرة على تثبيت أسلحتها المحلية الصنع عليها. وتتمثل مزايا اليوروفايتر في توافقها مع معايير الناتو، وقدرتها على المناورة، وتفوقها التقني على طائرات “إف-16 بلوك 4/3” التي تستخدمها تركيا حاليًّا. أما عيوبها فتتمثل في الحاجة إلى قاعدة منفصلة للطيارين، ومحدودية توزيع قدرات الصيانة وقطع الغيار، وارتفاع السعر مقارنةً بالمقاتلات “إف-16 بلوك 70، إلى جانب الاعتراض المحتمل من الأعضاء الآخرين في اتحاد إنتاج اليوروفايتر، أي ألمانيا وإسبانيا وإيطاليا. وفيما يخص سلاح البحرية، تتسم الفرقاطات البريطانية من النوع 23 بتقادمها، وصعوبة صيانتها، وعدم ملاءمتها لقدرات الدفاع الجوي المطلوبة بشدة، بحيث تبقى علامة الاستفهام بشأن الأسباب التي تدعو تركيا إلى شرائها.

وتمثل سوريا المشكلة الأكثر إثارة للجدل في الشرق الأوسط، حيث تسعى تركيا إلى منع وحدات حماية الشعب، وهي فرع من جماعة حزب العمال الكردستاني الذي تعتبره تركيا جماعة إرهابية، من إقامة منطقة متاخمة على امتداد حدود تركيا الجنوبية. وتكمن المشكلة الرئيسية من وجهة النظر التركية في الدعم الأمريكي المتواصل لوحدات حماية الشعب التي تصمم تركيا على تحييدها. ويسود في أنقرة رأي تجمع عليه الأحزاب بأن وحدات حماية الشعب تشكل خطرًا على أمن تركيا وسلامة أراضيها. ويجب النظر إلى هذا الأمر بالاقتران بالحقيقة التي مفادها أن أي تغلغل تركي آخر في سوريا قد يؤجج المقاومة في المناطق التي تسيطر عليها وحدات حماية الشعب بما يهدد العلاقة الحساسة القائمة مع إدارة بايدن في وقت حرج. وإذا فاز كليجدار أوغلو في الانتخابات، فسيسارع على الأرجح إلى تطبيع العلاقات مع نظام الأسد وإنهاء الوجود العسكري التركي في سوريا برغم الانتكاسات الاستراتيجية الواضحة التي سيجلبها ذلك على تركيا.

 

الحرب في الشمال: النزاع بين روسيا وأوكرانيا والبحر الأسود

بلغت الحرب في أوكرانيا حالة من الجمود، حيث لا يُتوقع أن يحصل أي طرف على مكاسب رئيسية على الأرض حتى صيف عام 2023. وبرغم أن روسيا رفعت وضع الاستعداد النووي منذ فبراير 2022، يشير استقصاء أجراه المجلس الأطلسي إلى أن الخطر الأكبر لحرب وشيكة بين القوى الكبرى قد يكون في آسيا وليس أوروبا.

 ويدعو هذا إلى شعور بالارتياح لدى القوى المتوسطة الحجم المتنافسة لزيادة نفوذها، مثل تركيا، ويمنحها الفرصة للحفاظ على مركزها كمحاور لكلا الطرفين، كما اتضح في اتفاقات تبادل الأسرى. وقد سعت تركيا إلى الحفاظ على توازن حساس، حيث اتبعت بدقة مسارًا قائمًا على الاستقلال الاستراتيجي والحياد النشط من خلال الامتناع عن الانضمام إلى معظم العقوبات الغربية، والإبقاء على خطوط الاتصال مفتوحة، والاضطلاع بدور الوسيط على امتداد المسار الطويل لإيجاد تسوية دبلوماسية.

ومن منظور واقعي، تكمن مصلحة أردوغان في عدم انتصار روسيا وعدم خسارة أوكرانيا، بحيث يواصل المضي عبر المسار الأمثل الذي يمكِّنه من ممارسة التأثير السياسي على جميع الأطراف المعنية، بما فيها الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة. وحيث إن تركيا ترغب في الحفاظ على حديقتها الخلفية في البحر الأسود مفتوحة وقابلة للوصول إليها، فإنها تعتبر أن تزايد هيمنة روسيا ونشاط الناتو المفرط في البحر الأسود يشكلان خطرًا على أمنها.

 وهي تحقق التوازن إزاء تلك التهديدات من خلال الحفاظ على التواصل مع كل من أوكرانيا وروسيا والناتو والتأثير عليها. ويُعتبر ذاك “وضعًا قائمًا مستدامًا” بالنسبة إلى تركيا.

وزادت الحرب من أهمية تركيا الجيوسياسية كحصن في وجه توسع روسيا جنوبًا، وذلك من خلال احترام أنقرة الحصيف لاتفاقية مونترو (1936) التي تنظم العبور عبر المضايق التركية. وبينما تسمح اتفاقية مونترو بالعبور الحر للسفن التجارية، فإنها تضع قيودًا على أعداد السفن الحربية وأوزانها وأوقات عبورها في زمنيْ الحرب والسلم على السواء. وتنطبق هذه المعايير استنادًا إلى البلد الذي تنتمي إليه كل سفينة، حيث تحظر الاتفاقية وجود السفن الحربية من الدول غير المشاطئة للبحر الأسود، مثل الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، لمدة تزيد على 21 يومًا.

وتسمح اتفاقية مونترو أيضًا بإغلاق المضايق في أوقات الحرب أو التهديد بها، وتضع قيودًا على أساطيل الدول المتحاربة التي ترغب في العبور من المضايق في وقت الحرب. وفي مارس 2022، اعتبرت تركيا أن الصراع المسلح عمل من أعمال الحرب، وأغلقت المضايق أمام جميع الأطراف المعنية، بما في ذلك روسيا وأوكرانيا، إلى جانب الناتو. ولا يمكن للسفن الحربية الدخول إلى البحر الأسود سوى للعودة إلى قواعدها الأصلية. بل إنه حتى في حالة تقديم البلدان الغربية أو بلدان الناتو سفنًا حربية إلى أوكرانيا، فمن غير المرجح أن تسمح تركيا بعبورها إلى البحر الأسود نظرًا لمخالفتها شرط الميناء الأصلي.

وتُعتبر القيود المفروضة بموجب اتفاقية مونترو موضوعًا متكررًا تثيره بعض البلدان خلف الأبواب المغلقة لتغيير الوضع القائم لمصلحتها، سواء من خلال تخفيف القواعد التي تحظر عبور أساطيل الدول غير المشاطئة للبحر الأسود أو لإلغاء الاتفاقية بالكامل والاستعاضة عنها ببديل أكثر مواتاة. فعلى سبيل المثال، عندما تكون روسيا قوية، فإنها تميل إلى تليين الاتفاقية لمد قوتها باتجاه المياه الدافئة، ولكن عندما تكون ضعيفة، فهي تسعى إلى الإبقاء على الاتفاقية خوفًا من أن تقوم أساطيل الناتو بملء الفراغ واستغلال مواطن الضعف الروسية في البحر الأسود. وبالمثل، تحرص الولايات المتحدة على أن تخضع الاتفاقية للمراجعة للسماح بحرية عبور وحداتها البحرية، بما في ذلك حاملات الطائرات، إلى البحر الأسود. وقد قاومت أنقرة هذه الجهود لتغيير الوضع القائم، وأكد أردوغان أن “تركيا تلتزم باتفاقية مونترو إلى أن تجد بديلًا أفضل”.

وتشير مجريات الحرب في أوكرانيا إلى أن تركيا تمكنت، من خلال التطبيق الدقيق لاتفاقية مونترو، من اتخاذ موقف متوازن وغير معاد بين كل من أوكرانيا والناتو وروسيا، مع إعطاء الأولوية للاستقرار بدلًا من المغامرة العسكرية. وإضافةً إلى ذلك، ومن خلال تطور إيجابي نادر الحدوث، برهن اتفاق تصدير الحبوب عبر البحر الأسود، الذي فُتح بموجبه ممر إنساني لشحن الحبوب والأسمدة، على دبلوماسية القوة الناعمة التركية. وحتى مايو 2023، شُحن 27.7 مليون طن من الحبوب في إطار الاتفاق، منها 65% كانت موجَّهة إلى البلدان النامية، معظمها في الشرق الأوسط وأفريقيا. وإذا فازت المعارضة في الانتخابات، فقد تميل إلى تخفيف شروط اتفاقية مونترو وإبداء اهتمام بالانضمام إلى قوة المهام البحرية التابعة للناتو لحراسة الممرات البحرية لممر الحبوب، لكن لا بد من المراعاة الدقيقة لرد فعل روسيا وللآثار المحتملة على المدى الطويل لخطوة إعادة الاصطفاف الاستراتيجي تلك بالنسبة إلى تركيا.

 

وأصبحت الحرب أيضًا ساحة لاختبار أحدث التقنيات العسكرية، حيث حققت تركيا قفزة نوعية في صناعتها الدفاعية خلال العقد الماضي عبر مجموعة واسعة من المنصات والذخائر والقدرات، بما في ذلك على سبيل المثال لا الحصر طائرات الدرون المسلحة والطرادات والمركبات الثقيلة المدرعة. وفي عام 2022، بلغت صادرات تركيا في مجال الدفاع والفضاء حجمًا قياسيًّا تجاوز 4 مليارات دولار أمريكي، وهي تستهدف الوصول إلى 6 مليارات دولار أمريكي في عام 2023 وفقًا لإسماعيل ديمير، رئيس صناعة الدفاع التركية.

تمثل الحرب في أوكرانيا فرصة كبيرة لشركات التصنيع الدفاعي التركية لتحسين قدراتها التي أثبتت جدارتها في المعركة وتوسيع قاعدة عملائها. وكانت بولندا أول دولة عضو في حلف الناتو تحصل على طائرات “بيرقدار تي بي 2، بينما أشارت لاتفيا والمجر وبلغاريا إلى اهتمامها بالحصول عليها أيضًا. ومع تمترس طرفي الحرب في مواقعهما، زودت تركيا أوكرانيا بطائرات درون المسلحة من طراز “بيرقدار تي بي 2” خلال حملة أبرزت قصص نجاح الطائرة في ساحة المعركة على وسائل الإعلام وأكسبتها شعبية كبيرة.

تجدر الإشارة هنا إلى أن صهر أردوغان، سلجوق بيرقدار، هو المؤسس المشارك ومدير العمليات في شركة بايكار، التي تصنع طائرات “بيرقدار تي بي 2”. والشركة قادرة على تصنيع 20 من هذه الطائرات شهريًّا ولديها خطط لمضاعفة هذا الرقم في العامين المقبلين. وعلى الرغم من ضغوط موسكو على أنقرة، أدّت طائرات “بيرقدار تي بي 2” دورًا رئيسيًّا في إحباط الهجوم الروسي على كييف. وتفيد التقارير بأن تركيا قدمت لأوكرانيا مؤخرًا ذخائر مدفعية عنقودية أمريكية لاستخدامها ضد الدبابات وناقلات الأفراد الروسية.

 وإذا تذكرنا أن تركيا اشترت صواريخ الدفاع الجوي “إس 400” من روسيا في عام 2019 وتوسعت في إبرام صفقات في مجال الطاقة مع شركة غازبروم الروسية المملوكة للدولة، فإن هذه التحركات المتناقضة في ظاهرها تعكس استراتيجية أنقرة في الموازنة بين التهديدات.

من الواضح أن أردوغان يفضل الشراكات المصلحية الجانبية في قضايا معينة بدلًا من اتباع نهج ثابت لبناء تحالف رسمي. وتركيا تحاول بشكل أساسي تجنب الانجرار إلى نزاع مسلح غير مقصود مع روسيا بشأن أوكرانيا، بينما تعمل بالتوازي مع الناتو لإبقاء أوكرانيا حية وصامدة دون أن تتعرض لهزيمة عسكرية كاملة قد تضع البحر الأسود تحت رحمة روسيا منتصرة.

إذا فاز كمال كليجدار أوغلو في الانتخابات، فقد تضطر شركة بايكار إلى الابتعاد عن الظهور الإعلامي، وقد تعيد تركيا صواريخ “إس 400” أو تبقيها خارج الخدمة إلى أجل غير مسمى، وربما يكون ذلك مقابل الحصول على طائرات مقاتلة من طراز “إف 16 بلوك 70” ومعدات ترقية من الولايات المتحدة الأمريكية.

ومن خلال أحدث عرض للمنصات العسكرية الرائدة في تركيا مثل حاملة الطائرات “تي سي جي أناضولو” وطائرات “هورجيت” المقاتلة الخفيفة ودبابات القتال الرئيسية “ألتاي”، فإن أردوغان لا يُظهر فقط قدرته على كسب تأييد الناخبين القوميين المحافظين، بل يشير أيضًا إلى التداعيات المحتملة على صناعة الدفاع إذا خسر الانتخابات. وهو ما يؤكد أن تركيا تتجه نحو الاكتفاء الذاتي في المشتريات الدفاعية وأن فوز المعارضة سيعطل ذلك.

على الصعيد الاقتصادي، منذ اندلاع الحرب في أوكرانيا، أصبحت روسيا أكبر مُصدِّر لتركيا، خصوصًا في مجال الطاقة والحبوب والمواد الخام. وتحسين العلاقات التجارية يحقق منافع متبادلة للبلدين، حيث تشكل تركيا قاعدة لإعادة التصدير تسمح لروسيا بالتحايل على العقوبات الاقتصادية والوصول إلى الأسواق الخارجية، بينما توفر روسيا لتركيا الغاز الطبيعي بسعر مخفض مع دفعات مؤجلة بالروبل الروسي.

 كما بدأت بورصة موسكو اعتبارًا من 1 مارس 2023 قبول معاملات الصرف الأجنبي الآجلة بكل من الروبل والليرة التركية.

ولكن هناك تهديدٌ بفرض عقوبات أمريكية ثانوية على تركيا بسبب الوضع غير المستقر مع روسيا. وتفيد بعض التقارير بأن الجمارك التركية أوقفت عبور البضائع الخاضعة للعقوبات إلى روسيا في مارس 2023 نتيجة لضغط المسؤولين الأمريكيين. وفي حالة فوز المعارضة، فمن المتوقع أن تتبع تركيا مسارًا أكثر صرامة وتأييدًا للغرب وأن تبتعد عن المزيد من التعاون الاقتصادي مع موسكو.

 

الحرب الأهلية السورية والدور التركي

 شهدت السياسة التركية تجاه الحرب الأهلية السورية تغيرات خلال الأعوام الاثني عشر الماضية. ففي البداية، كانت أنقرة تدعم فصائل الثوار في الجيش السوري الحر والجهاديين بهدف الإطاحة بالرئيس بشار الأسد في دمشق، ثم تراجعت واتخذت موقفًا دفاعيًّا بعد عام 2016 لإبعاد داعش عن حدودها ومنع وحدات حماية الشعب الكردية من الحضور في المنطقة المتاخمة لحدودها في شمال سوريا. وكان للتدخل الروسي والدور الإيراني والدعم الأمريكي لوحدات حماية الشعب دور في تغيير حسابات القيادة التركية.

برزت روسيا وتركيا وإيران كقُوى ضامنة لوحدة الأراضي السورية في إطار محادثات آستانا (التي أطلق عليها هذا الاسم بعد الاجتماع الثلاثي الأول في العاصمة الكازاخستانية آستانا/نور سلطان) لإيجاد تسوية سلمية للحرب الأهلية. ثم تحول تركيز أردوغان بعيدًا عن إسقاط نظام الأسد إلى ضمان أمن الحدود الجنوبية لتركيا. وما زالت عملية آستانا قائمة، كما انضمت إيران إلى اجتماع وزيري الدفاع ومديرَيْ المخابرات في كل من تركيا وسوريا في موسكو يوم 25 إبريل 2023 بناءً على تصريح سابق لأردوغان بوجوب مشاركة إيران في محادثات دبلوماسية مع سوريا بوساطة روسية.

على الصعيد العسكري، شنت تركيا ثلاث عمليات برية واسعة النطاق في سوريا منذ عام 2016، وهي درع الفرات (2016)، وغصن الزيتون (2018)، ونبع السلام (2019). أما العملية الكبيرة الأخيرة في محافظة إدلب في عام 2020 فحملت اسم “درع الربيع” واستهدفت الجيش السوري والميليشيات المتحالفة معه ردًّا على غارة جوية أسفرت عن مقتل 34 عسكريًّا تركيًّا. كما استهدفت تركيا وحدات حماية الشعب في سوريا والعراق بضربات جوية في نوفمبر 2022 بعد تفجير قامت به الوحدات في شارع مزدحم في إسطنبول أسفر عن مقتل 6 مدنيين. وعلى الرغم من أن أردوغان شدد على هدفه المتمثل في إنشاء حزام أمني بعمق 30 كيلومترًا على طول الحدود، إلا أنه لم ينفذ حتى الآن تهديداته المتكررة بتوغل بري كبير رابع في سوريا.

هدف أردوغان الرئيسي الآن هو التعاون مع دمشق لتحييد وحدات حماية الشعب في الأجزاء الشمالية من سوريا، وإنشاء آلية مع سوريا لحماية حدود تركيا الجنوبية من الهجمات الإرهابية، وإدارة عودة بعض السوريين على الأقل إلى ديارهم. وبينما يحرص أرودغان على المصالحة مع دمشق وتنسيق هجوم مع الجيش السوري ضد وحدات حماية الشعب الكردية غرب الفرات، فقد اشترط الأسد لذلك انسحاب تركيا من الشمال ووقف دعم الجماعات المتمردة مثل الجيش السوري الحر.

لا يرفض أردوغان تسليم الأراضي التي احتلتها تركيا في سوريا منذ عام 2016، ولكنه يصر على وجوب ربط ذلك بخطة والتزام وعمل من جانب دمشق لضمان الأمن والاستقرار في المنطقة. ومن المرجح أن ينتظر الأسد ليرى نتائج الانتخابات قبل أي محاولة لتطبيع العلاقات مع تركيا، وهذا يُعزى جزئيًّا إلى أن الأسد يشعر بأنه أقوى من ذي قبل بعد نيله دعم دول الخليج ومناقشة عودة سوريا إلى جامعة الدول العربية. ومع ذلك، يسعى أردوغان إلى إعادة انتخابه في 14 مايو 2023 وهو على استعداد للجلوس مع الأسد لترسيخ السلام في المنطقة.

 وإذا فاز كمال كليجدار أوغلو في الانتخابات، فسيعجل التقارب مع الأسد لأنه يؤمن بشرعية الأسد وينتقد سياسة أردوغان في التدخل. وسيعمل كمال كليجدار أوغلو على تطبيع العلاقات الثنائية في وقت أقصر بكثير من أردوغان.

في نهاية المطاف، من المرجح أن يواصل كل من أردوغان والمعارضة سياسة المصالحة مع دمشق، التي من المحتمل أن تسمح بعودة حوالي 4.5 مليون سوري تحت الحماية المؤقتة وتسهم في تهميش وتفكيك وحدات حماية الشعب. فقد دمرت الزلازل سبل عيش الكثير من السوريين، الذين سيجدون صعوبة متزايدة في البقاء في تركيا وسط المصاعب الاقتصادية والصراعات الاجتماعية. وهذا يزيد من إلحاح مسألة وضع خارطة طريق للتطبيع بين أنقرة ودمشق والسماح بعودة المهاجرين السوريين. وبغض النظر عمّن سيفوز في الانتخابات، ستكون هذه عملية طويلة ومؤلمة لا يمكن تنفيذها إلا بالتشاور مع روسيا وإيران في إطار عملية آستانا.

 

الخاتمة

تتجه تركيا نحو أهم انتخابات في تاريخها في 14 مايو 2023. وتُظهر استطلاعات الرأي الأخيرة حظوظًا متقاربة لمرشَحَيْ الرئاسة الأكثر شعبية، وهما رجب طيب أردوغان وكمال كليجدار أوغلو، وسيكون من الحكمة عدم وضع آمال كبيرة على فوز واضح لأي منهما.

وعلى الرغم من التأثير الهائل للأزمة الاقتصادية وأعباء فشل السياسة، فإن فرص إعادة انتخاب أردوغان تبدو أكبر. وهذا يُعزى جزئيًّا إلى سياساته الشعبوية من ناحية، وإلى ضعف المعارضة وعدم قدرتها على تشكيل جبهة متماسكة في الوقت المناسب من ناحية أخرى.

 ومن غير المتوقع أن يتبع أي من الطرفين نهجًا مختلفًا كثيرًا في السياسة الخارجية بعد الانتخابات مباشرة، ولكن التغيرات الطفيفة في العلاقات مع حلف الناتو وروسيا والشرق الأوسط قد تؤدي إلى إحداث تغييرات كبيرة في الموقف الاستراتيجي لتركيا على المدى المتوسط إلى الطويل.

*باحث رئيسي - قسم الدراسات الاستراتيجية


13/05/2023