×

  تركيا و الملف الکردي

  أردوغان لم يعد سلطانًا يسحر جمهوره.. ويهزم الأحزاب مجتمعة



*محمد أبو طالب

 

 

لا يُبالغ المؤرّخ التركي إلبر أورطايلي حين يعتبر أنّ الترك أثّروا في صناعة التّاريخ، وذلك واضحٌ من خلال عدم إمكانيّة البحث في “تاريخ شعوب العالم القديم ودوله، أي دول حوض البحر المتوسط وأوروبا، وخاصة أوروبا الشرقيّة، وصولًا إلى آسيا الوسطى، دون التّعريج على التّرك”، يضيف أورطايلي أنّه “يُقال في الأوساط التاريخيّة الرّصينة: التّاريخ غير ممكنٍ من دون تعلّم التركيّة.. ومعرفة التركيّة تعني التمكّن من قراءة الوثائق العثمانيّة”.

ما نودّ إضافته على كلام المؤرّخ التركي، أن فهم حاضر هذه المنطقة ومستقبلها غير ممكنٍ دون التّعريج على التّرك وبلادهم.

الذين صوّتوا بالأمس القريب في الإنتخابات التركية، والذين سيتوجّهون إلى صناديق الإقتراع مجدّداً يوم الاحد، كلّنا نعلم أنّ تأثيرهم على بعض أوطاننا قد يُعادل، أو قد يفوق، تأثير شعوب هذه البلدان نفسها! قراءة في الإنتخابات المسألة الأولى هي نسبة التصويت التي لامست التسعين بالمئة.

 البعض يقرأها كدلالةٍ على حدّة الإنقسام وحماسة المنقسمين.

لا يمكن إنكار هذا الشيء، لكن الأهم أنّ الشّعب التركي بغالبيّته السّاحقة، بات يؤمن بالإحتكام إلى صناديق الإقتراع، أي أن ثقافة الإنقلابات تتراجع، ولا شيء يُشير إلى أنّ أحدًا من الأتراك يُريد العودة إليها؛ هذا ما يُفهم من كثافة التصويت.

 ثمة دلالة إضافيّة على ارتفاع نسبة التصويت، وهي أنّ الأتراك راضون بشكلٍ عام على نظامهم الإنتخابي.

 في الدول الديموقراطية نسبة التصويت مهمّة، وهي تُشير إلى أنّ شعب هذا البلد مقتنعٌ، إلى حدّ ما، بآليات الحكم وأدواته، وبالتالي فإنّ المشاركة في الإنتخاب تُتيح لهم عكس مواقفهم وقناعاتهم السياسيّة والإقتصادية والإجتماعية والثقافيّة من خلال الأطر القانونية المتاحة، وأبرزها صندوق الإقتراع.

 أما المسألة الثانية الملفتة للإنتباه في هذه الإنتخابات، فتتصل بالتغطية الإعلاميّة الواسعة لها وبالتالي أبعادها السياسية.

 فكلُّ من يتابع الأحداث التركية سيشعر بأهميّة نتائج الإنتخابات وانعكاسها على كلّ منطقتنا؛ روسيا وإيران وأرمينيا وأذربيجان وسوريا والعراق وليبيا ومصر وتونس وغيرها الكثير.

وهذا دليل على مدى حضور وحيويّة السياسة الخارجيّة التركيّة في محيطها الضيّق والرّحب.

 المسألة الثالثة هي أنّ التنافس الإنتخابي يدور حول برامج حكمٍ حقيقيّة.

 التحالفات والأحزاب والقادة السياسيّون، مجبرون على تقديم خططهم ورؤاهم المستقبلية حال وصولهم للسلطة.

نحن لا نتكلّم عن عناوين فضفاضة وفارغة.

هناك أسئلة محدّدة، بذل الفريقان طوال المدة الماضية قصارى جهدهما للإجابة عليها: كيف نُعالج مسألة التضخم؟

أي نظام للحكم نُريد؟

ما هي أبرز توجهات السياسة الخارجيّة؟

ما هو الموقف من النازحين الأجانب؟ إلخ..

 هذه أسئلة تقريريّة، وبالتالي تصويت الجمهور يعني المفاضلة بين الخيارات وعدم تساهله في المحاسبة، ولذلك وقف الناطق باسم حزب العدالة والتنمية ليُعقّب على تراجع حزبه وعدم حسم الإنتخابات من الجولة الأولى فيقول: “يبدو أنّنا لم نحقّق كلّ مطالب شعبنا”.

النّاس هنا تقرّر مصيرها. خسائر مع الإنتصارات! أوّلًا؛ مع الحزب الحاكم. استطاع “تحالف الجمهور” أن يحافظ على الأغلبيّة في البرلمان، لكنّ حزب العدالة والتنمية كان المتراجع الأكبر في هذه الدّورة (حوالي 7 بالمئة عن الإنتخابات السابقة).

 شعبيّة الحزب في تراجع مستمر، وها هو بعد 21 عامًا من وجوده على رأس السلطة يعود إلى النسبة نفسها التي انطلق منها في أول انتخابات خاضها عام 2002، أي حوالي 35 بالمئة من أصوات الناخبين.

 صحيح أنّ النظام السياسي لم يعد برلمانيًا، والسلطات كلّها تقريبًا باتت بيد الرئيس، غير أنّ مسار التراجع الثابت يُنبئ بتحوّلٍ قادمٍ لا مفرّ منه.

 ثانيًا؛ حتى لو فاز رجب طيب إردوغان بالرئاسة، فسيكون ذلك بشقّ الأنفس. هناك انقسامٌ عاموديٌ وحادٌ في المجتمع التركي حيال مقاربة المسائل الكبرى.

تقريبًا نصف الشّعب، أكثر بقليل، قال له لا. هذه مسألة لا يمكن المرور فوقها أو التغاضي عنها. لم يعد أردوغان السلطان الذي يُحرِّك سحره الجماهير ويهزم الأحزاب مجتمعة.

 في البرلمان، فقد حزبه الأكثرية التي طالما تمتع بها. أمّا رئاسيًا، فهو بحاجةٍ للتحالف حتى مع أصغر القوى السياسيّة.

ثالثًا؛ صحيح أنّ مناصري “تحالف الجمهور”.. “شامتون” بحزب الشعب الجمهوري بسبب تجييره عددًا كبيرًا من مقاعده لمصلحة شركائه في “تحالف الأمّة”، دون أن يحظى بالأكثريّة المتوخّاة، لكن من قال إنّ هذه النتيجة لا تُشكّل نذر سوءٍ على حزب العدالة والتنمية نفسه؟

هؤلاء انشقّوا وخرجوا من رحمه، وها هم اليوم يُثبّتون أقدامهم في الساحة البرلمانيّة والسياسيّة التركيّة. بطريقةٍ أخرى، من أكثر تضرّرًا من وصول علي باباجان وحزبه، وأحمد داوود أوغلو وحزبه، وحزب السعادة “تركة” الأستاذ المرحوم أربكان إلى البرلمان التركي، حزب العدالة والتنمية، أم حزب الشعب الجمهوري؟

أمّا على المقلب الآخر، صحيحٌ أنّ حزب الشعب سجلّ تقدّمًا في نسبة مؤيديه، لكنّه في المحصلة لم يحصد الخمسين بالمئة المطلوبة لهزيمة إردوغان في البرلمان، وبالتالي فقد أهمّ مرتكزات حملته الإنتخابية للدورة الثانية: العودة إلى النظام البرلماني لم تعد سهلة.

كذلك يُؤخذ على “تحالف الأمّة” عدم تواضع خطابه. من جرّب الشّحن المرتفع في فترة الدعاية الإنتخابيّة، يُدرك معنى الإحباط حين لا تتحقّق كل التوقعات والوعود، وهو ما قد ينعكس تراجعًا وفتورًا في المرحلة القادمة لدى جمهور “تحالف الأمّة”.

 لو أنّ مستوى الأهداف التي وضعها حزب الشعب وحلفاؤه كانت أكثر موضوعيّة وواقعيّة، لكان شعور جمهورهم الآن أقرب إلى النّصر. في السياسة، يجب أن تضع نُصب عينيك المدى الأقصى، لكن في الحديث مع جمهورك، يجب أن تتحدّث بواقعية ومنطقيّة، وبالتالي، ستستثمر أدنى الإنتصارات والتقدّم لمصلحتك، ولن تُحاسَب حينها على الأهداف العالية التي وضعتها.

 لن يقبل الجمهور بأقلّ ممّا وعدت به. رابعًا؛ عدم قدرة “تحالف الأمّة” على اختراق وسط الأناضول. فقد شكّل وسط الأناضول، المنطقة الأكثر محافظة في تركيا، وللمفاجأة أيضًا، شكّلت المناطق المتضررة من زلزال شباط/فبراير، أهم رافدٍ في الأصوات لحزب العدالة والتنمية.

هذا يعني أنّ الأحزاب الإسلاميّة المنضوية تحت مظلة “تحالف الأمّة” كان تأثيرها تقريبًا شبه معدوم، مثلًا كم كان أثر أحمد داوود أوغلو في مدينته قونيا؟

لقد استفاد حزب الشعب فقط من الصورة الدعائية الجامعة لـ”تحالف الطاولة السداسيّة”، أمّا الغنيمة الكبرى، فقد كانت من نصيب هذه الأحزاب الوليدة.

 أضف إلى أنّ تصويت المناطق التي ضربها الزلزال يعني أنّ استجابة الحكومة وإدارتها للأزمة كان فعّالًا وقويًا، وهو ما يجب أن تعترف به المعارضة، وأن تُفتش على نقطةٍ ضعفٍ حقيقيّةٍ لدى خصمها إردوغان.

تركيا المنتصرة أيام معدودة تفصلنا عن الدورة الثانية والأخيرة للإنتخابات الرئاسية. بحسب الرئيس التركي الأسبق الراحل سليمان ديميريل “24 ساعة مدّة طويلةٌ جدًّا في السياسة التركيّة”.

 البعض يقول، لو كان هذا الرجل حاضرًا اليوم، لعدّل مقولته: ساعة واحدة مدّة طويلةٌ جدًا في السياسة التركيّة، في الحقيقة هذه مقولة واقعيّة. تبدو حظوظ إردوغان أعلى من منافسه كليتشيدار أوغلو.

حقّق نصرًا في الإنتخابات البرلمانيّة، وفي انتخابات الرئاسة المُعادة هو بحاجة إلى نصف نقطة فقط، بينما يحتاج منافسه إلى خمس نقاط.

 ظهور سنان أوغان كان مفاجأة الإنتخابات، ربّما ارتفاع التصويت له كان تعبيرًا عن اعتراض شريحة من النّاس على المرشحين الرئيسيين أكثر من كونه تأييدًا له، وبالتالي، ستثبت الإنتخابات قدرة أوغان على التحكم باتجاهات التصويت للجمهور الذي انتخبه.

حجم الكتلة القوميّة في التحالفين شبه متعادل، وبالتالي من الصعب التنبؤ إلى أيّ جهة سيميل جمهور أوغان القومي. هزيمة إردوغان في عدد من المدن الكبرى مثل أزمير وأنقرة وبالأخص إسطنبول، فألٌ سيءٌ عليه.

 في العام 2019 أعاد انتخابات إسطنبول، فكان وقع الهزيمة أعلى وأشد. كلّها إشارات.. أمّا الكلمة الفصل، فهي للذين سيدلون بأصواتهم ليختاروا من يشاؤون.

عودةٌ للديموقراطيّة التركيّة. بحسب روبرت دال أستاذ العلوم السياسيّة في جامعة يال، فإن “الدفع نحو المشاركة الديموقراطيّة ينشأ نتيجة ما يمكننا أن نطلق عليه منطق المساواة”.

 يضيف دال، “أنّ هذه العمليّة أكثر إنصافًا من أيّ عمليّة أخرى تأمل تحقيقها، يعني ذلك أنّك تمارس حريّتك في تقرير المصير، لأنّك تختار بحريّةٍ أن تعيش في ظلّ دستورٍ ديموقراطيّ، بدلًا من العيش في ظلّ بديلٍ غير ديموقراطيّ”.

 إذًا تركيا تحديدًا هي المنتصرة، لأنّ شعبها هو الذي يقرّر، ولأنّ من يصفه الغرب للمفارقة بالديكتاتور، رضخ لإعادة الإنتخابات لأنه عجز عن تزوير نصف نقطةٍ إضافية، نصف نقطةٍ فقط، كي يستمرّ “ديكتاتورًا”.. وقادرًا على جعل “الإردوغانية” مفردة ليس من السهل تجاوزها في تاريخ تركيا الحديث.

*POST-180


27/05/2023