×

  رؤى حول العراق

  صراخ الحمائية و الحمائية المالية



*د. مظهر محمد صالح

ألم يرتكب أحدكم فضيلة..؟

بهذا الصوت الجهوري علا صوت أحد أعضاء مجلس الشيوخ الأميركي أمام الصحافة وعلى أدراج مبنى الكونغرس في العام 1980.

يوم ترامت من باطن النهار أصوات الصحافة، ثم لاحت أشباحهم مبعثرة يحمل أكثرهم أجهزة التصوير ليحيطوا بمقدمة أدراج المبنى التشريعي للولايات المتحدة الأميركية.

كان يوماً طبيعياً من أيام واشنطن عندما انصت الصحفيون بعضهم لبعض وباستغراب حيال صوت أحد أعضاء الكونغرس من الشيوخ وهو يبدي امتعاضه من تعاظم سطوة السلع اليابانية على مجريات التجارة العالمية والتي غزت السوق الأميركية، قائلاً: نحن أجمعنا كمواطنين على أننا طبيعيون لا يشيننا شيء، وأن الأخلاق التجارية التي تديننا هي أخلاق مستوحاة من عصر اقتصادي آخر لم يولد وأننا رواد أخلاق تجارية جديدة صادقة لم ينتظمها التشريع.

فبعد أن انتهى السيناتور الأميركي المتحمس لمذهب الحمائية التجارية من إطلاق عباراته اللاهبة التي تفوه بها، اصطف عدد من أعضاء مجلس الشيوخ الأميركي الآخرين على أدراج المبنى الشامخ، وقبل أن يبتدئوا حديثهم الصحفي تباعاً حول أهمية الحماية التجارية، قام أحد الشيوخ من فوره وتولى بنفسه تهشيم جهاز راديو ياباني صغير نوع توشيبا!!

فبعد أن رماه أرضاً أمام الصحفيين المحتشدين، تحطم الجهاز الصغير الى قطع متبعثرة هنا وهناك، عندها أخذ الصحفيون يلتقطون الصور التاريخية، وبكاميراتهم اليابانية الصنع، حطام ذلك الراديو.

 فقد أطلق ذلك الحدث الإشارة الأولى للحمائية التجارية في رحم العولمة والترويج الى الفكر الليبرالي الجديد والتطلع الى التجارة الحرة في مطلع ثمانينيات القرن الماضي.

ولم تكن ابتسامة اليابانيين حينها وإجاباتهم على الحدث الصحفي الأميركي سوى الاكتفاء بمقولة واحدة لا غير: "إن الحمائية التجارية هي الأخت القبيحة للعولمة!!". تذكرت الحادث المذكور آنفاً، وأنا أتطلع الى خبر نشر في واحدة من الصحف البغدادية مفاده: ان وزير التجارة الياباني الذي زار واشنطن في نيسان ٢٠١٤ قد صرح بأن المحادثات التجارية مع الولايات المتحدة ما زالت في مأزق..! في وقت يكافح فيه المفاوضون (من الطرفين) لتضييق هوة الخلاف قبيل انعقاد قمة بين زعماء البلدين.

وهي قمة غايتها تجميع الشراكة عبر الهادي تقوده الولايات المتحدة ويضم 12 بلدا ويمتد من آسيا الى أميركا اللاتينية، وان ما تريده الولايات المتحدة من اليابان ان تفتح قطاعات الرز ولحوم البقر والالبان والسكر الاميركي ورفعها من قوائم الحماية التجارية اليابانية.

في حين تريد اليابان بالمقابل جدولاً زمنياً لتطبيق وعود أميركية بالغاء تعرفة كمركية نسبتها اقل من 3 % على واردات سيارات الصالون و25% على الشاحنات الخفيفة اليابانية الصنع.

وبهذا ينصرف مفهوم الحمائية التجارية الى قيام الدول بفرض قيود كمية او رسوم كمركية عالية على بعض السلع الاجنبية المستوردة، فضلاً عن منع بعض الشركات العالمية من الاستحواذ او التملك لبعض الانشطة اللوجستية اوالحساسة.. ويعد هذا المنع ملازماً للنزعة الحمائية في التجارة، وهو سلوك قديم العهد من الوجهة التاريخية وبقِدم التجارة الدولية نفسها.

ولا يفوتنا أن ندرك حالة الدعم الزراعي الواسع للمحاصيل المصدرة، والتي تعد هي الاخرى واحدة من أخطر الاساليب التي تواجهها الدول في اختراق اقتصاداتها وإغراقها بالسلع الزراعية الرخيصة والمهددة لسياج الأمن الغذائي من الزراعة الوطنية.

وكذلك أساليب دعم التصدير وبأسعار صرف عملة تجعل من عوائد التصدير بالعملة الاجنبية مغالى فيها ازاء العملة الوطنية، ذلك عند تحويل عائدات التصدير الى داخل بلدانها.

 كما تعد الحماية المالية اليوم واحدة من احدث نماذج الحماية في عصر العولمة المتناقض!! فمع بدء الازمة المالية العالمية في العام 2008 أخذت سياسات التيسير الكمي (إصدار العملة) وتعجيل تقديم القروض المصرفية الرخيصة المدعمة بالفائدة المنخفضة تتدفق حصرياً على الشركات الوطنية البريطانية، في حين جرى حرمان الشركات العالمية، بما فيها الشركات الدولية العاملة على الاراضي البريطانية من الاستفادة من تلك القروض الميسرة، وهو الأمر الذي حث رئيس وزراء بريطانيا الأسبق غوردن براون على أن يقدم مصطلحاً جديداً في علم الاقتصاد عند تشخيصه للحماية المالية، أسماه: بـ"الماركنتالية المالية" او بـ"النزعة الحمائية المالية"!! ختاماً، إذا كانت الحمائية هي الأخت القبيحة للعولمة ونقيض التجارة الحرة وسياسات الباب المفتوح، فإن الكثير من النخب السياسية في العالم ما زالت ترى في السياسة الحمائية نزعة تعبر عن الوطنية الاقتصادية وتحمي استقلال البلاد من الحروب التجارية وعلى رأسها الإغراق السلعي.


08/06/2023