*عوض بن سعيد باقوير
هناك تساؤل كبير حول الاندفاع الكبير لحلف الناتو الذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية والدول الغربية وعدد من دول أوروبا الشرقية وعدد من الدول الأخرى في الحرب الروسية-الأوكرانية خاصة أن قمة الناتو التي انطلقت أمس في ليتوانيا هي جغرافيا ليست بعيدة عن الأراضي الروسية، يبدو أن الغرب بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية ومن خلال استقراء استراتيجي وصل إلى قناعة محددة بأن روسيا الاتحادية حققت خلال عقدين طفرة كبيرة على صعيد الطاقة وعلى صعيد الانطلاقة الاقتصادية والتطور النوعي في مجال الأسلحة الاستراتيجية، علاوة على نسج موسكو علاقات حيوية مع محيطها السابق وهي الدول المستقلة عن الاتحاد السوفييتي السابق، ومن هنا فإن أبلغ مؤشر على أن الغرب يريد أن يغير المعادلة الروسية المندفعة بقيادة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين هو إيجاد أزمة من نوع ما .
ومن هنا يمكن الرجوع إلى تصريح وزير الدفاع الأمريكي لويد أوستن عندما قال: إن الهدف من الدعم الاقتصادي والعسكري لأوكرانيا من قبل الولايات المتحدة الأمريكية والدول الغربية هو إضعاف روسيا الاتحادية.
وهو تصريح واضح ولكن الهدف الاستراتيجي للوصول إلى هذا الهدف تم التخطيط له من داخل الغرف المغلقة وفي دهاليز المخابرات وعلى صعيد دراسات مراكز البحوث في واشنطن ولندن تحديدًا اندلاع الحرب الروسية - الأوكرانية هو الأداة التي من خلالها يتم تنفيذ الاستراتيجية الغربية لإضعاف روسيا الاتحادية وإدخالها في حرب استنزاف مكلفة اقتصاديًا وعسكريًا وحتى أخلاقيًا وإنسانيا وتكون أوكرانيا هي مجرد واجهة لشن تلك الحرب، ومن هنا فإن قمة الناتو في ليتوانيا والحديث عن دراسة عضوية أوكرانيا في حلف الناتو هو مؤشر على دفع روسيا الاتحادية لمزيد من الانغماس في الحرب لسنوات طويلة.
ويبدو لي أن الرئيس الأوكراني زيلنسكي كان بإمكانه تفادي الحرب وإبعاد بلده عن ما حدث فيها من مشكلات كبيرة ولكن يبدو أن المخطط الأمريكي والغربي تعدى أي محاولة أوكرانية للتراجع خاصة أن الإصرار على العضوية في الناتو من قبل أوكرانيا هو تهديد مباشر للأمن القومي الروسي، ولعل النموذج الأشهر في هذا الإطار هو رفض الولايات المتحدة الأمريكية في عهد الرئيس كيندي في ستينيات القرن الماضي وجود الصواريخ السوفييتية على الأراضي الكوبية؛ لأن الولايات المتحدة الأمريكية اعتبرت ذلك تهديدًا مباشرًا للأمن القومي الأمريكي في ظل القرب الجغرافي بين كوبا وبعض الولايات الأمريكية كولاية فلوريدا على سبيل المثال، ونشبت أزمة الصواريخ التي كادت أن تؤدي إلى حرب عالمية ثالثة قبل أن تسحب موسكو تلك الصواريخ التي جعلت العالم يحبس أنفاسه ومن هنا فإن هذا النموذج في تصوري لا يختلف كثيرا من الناحية الاستراتيجية عن وجود أعضاء في الناتو قريبا من الجغرافيا الروسية كما أن دول مثل بولندا وفنلندا ولتوانيا هي أساسا قريبة جغرافيا من الأراضي الروسية لكن تبقى أوكرانيا ذات ارتباط خاص بروسيا الاتحادية على الصعيد التاريخي والعرقي السلافي وحتى على صعيد الكنيسة الأرثوذوكسية في موسكو وكييف.
وعلى ضوء ذلك التشابك المجتمعي بين روسيا الاتحادية وأوكرانيا فإنه من الصعب للرئيس الروسي بوتين وهو رجل استخبارات وقاد أحد أهم جهاز استخبارات في العالم أن يقبل بهذه المعادلة التي تهدد الأمن القومي الروسي بشكل مباشر، وعلى ضوء مسار الحرب الروسية-الأوكرانية تحولت تلك الحرب إلى حرب استنزاف في ظل عجز القوات الأوكرانية من استعادة الأراضي التي احتلتها القوات الروسية في بداية الحرب خاصة في المناطق الشرقية من أوكرانيا كما أن تدفق السلاح الأمريكي والغربي إلى أوكرانيا والدعم الاقتصادي هو جزء من استراتيجية إدامة الحرب واستنزاف الدولة الروسية رغم أن هناك قناعة لدى الدوائر العسكرية الغربية والخبراء بأنه يصعب على الجيش الأوكراني من الناحية العملية أن يستعيد تلك الأراضي الأوكرانية التي سيطرت عليها روسيا الاتحادية لأن هناك فارقا كبيرا في الميزان العسكري بين البلدين المتحاربين، ومن هنا فإن الغرب عمومًا لا يحبذ أي حوار سياسي بل يصعّد الأمور من خلال قرارات المساعدات خاصة القنابل العنقودية من قبل الولايات المتحدة الأمريكية رغم أن تلك القذائف تعد قديمة على ضوء تقارير صحفية أمريكية ومع ذلك فإن الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا تصعّدان لهجة الحرب الروسية-الأوكرانية لأهداف استراتيجية غير معلنة.
فأوكرانيا سوف تظل أحد جيران روسيا الاتحادية وسوف تظل الجغرافيا هي أحد مكونات الأمن القومي لأي بلد، ومن الصعب القبول بأي خطر داهم قريبا من تلك الجغرافيا ومن هنا فإن المشهد الاستراتيجي في الحرب الروسية-الأوكرانية يخفي وراءه أبعادًا استراتيجية كما حدث في فترات زمنية في التاريخ الحديث، ومن هنا فإن إدخال أعضاء جدد في حلف شمال الأطلسي هو إشارة غير إيجابية لروسيا الاتحادية خاصة لدول مثل فنلندا والسويد علاوة على وجود ليتوانيا وبولندا وهي دول ذات تماس بالجغرافيا الروسية، ومن هنا فإن هناك تخوفا كبيرا من تطور الأحداث في الحرب الروسية-الأوكرانية ليس فقط على سير المعارك ولكن على صعيد خطوات التصعيد الأمريكية والغربية.
والسؤال الأهم إلى أين تتجه تلك الاستراتيجية الغربية بعيدا عن مسار الحرب، يتضح من مسار الحرب والتخطيط لها والدفع بالقيادة الروسية إلى الدخول فيها هو الرجوع إلى النموذج الأشهر في حروب الاستنزاف وهي التدخل السوفييتي في أفغانستان الذي جاء بإرادة روسية لدعم النظام الأفغاني عام ١٩٧٩ ومع ذلك تم استغلال تلك الحرب التي تحولت بعد سنوات إلى حرب استنزاف وكان للولايات المتحدة الأمريكية دور كبير في مسارها مما نتج عنها بعد عشر سنوات من القتال هو انسحاب القوات السوفييتية وانتصار المقاومة الأفغانية والمجاهدين والأفغان العرب، ودفع الاتحاد السوفييتي السابق ثمنا باهظا بعد انسحابه بسنتين حيث تفكك الاتحاد السوفييتي السابق عام ١٩٩١ ومن هنا فإن المشهد العسكري الحالي هو نموذج مكرر فيما يدور من حرب استنزاف في الحرب الروسية-الأوكرانية وإن كانت الظروف السياسية والاستراتيجية تختلف إلى حد ما إلا أن الهدف الاستراتيجي في إضعاف روسيا الاتحادية هو هدف واضح لا يقبل الشك، حيث تدرك القيادة الروسية ذلك وتعمل من خلال توجهاتها المختلفة على إفشال تلك الاستراتيجية الأمريكية والغربية.
إن الهدف الاستراتيجي لواشنطن لإدخال روسيا الاتحادية في حرب استنزاف مع أوكرانيا هو هدف قد تحقق الآن وهناك تأثيرات مباشرة على الاقتصاد الروسي وعلى صعيد الأمور اللوجستية ومع ذلك ظهرت التحالفات خلال الحرب الروسية-الأوكرانية حيث حدث التقارب الروسي-الصيني وهو تقارب يمكن تفسيره خاصة أن الصين تدرك أن أي هزيمة لروسيا الاتحادية يعني أن الصين هي الهدف الاستراتيجي القادم وهو الهدف الأكبر للولايات المتحدة الأمريكية في إطار المواجهة الاستراتيجية بين أكبر اقتصاد في العالم وثاني اقتصاد في العالم، وهي عملاق آسيا القادم ومن هنا فإن المنطق السياسي يفرض على بكين وموسكو التقارب والتعاون لإفشال المخطط القادم عبر المحيط الأطلسي، خاصة أن العلاقات الأمريكية-الصينية تمر بتوتر واضح من خلال الوضع في بحر الصين الجنوبي وهناك الوضع النووي في كوريا الشمالية علاوة على الخلافات والنزاعات على الصعيد التجاري.
إن نموذج الحرب الروسية-الأوكرانية هو نموذج على الصراعات الاستراتيجية بين القوى المتصارعة، ولعل الأخطر في الحرب الحالية أن السلاح النووي قد يكون من أخطر الأوراق إذا ما واصلت الولايات المتحدة الأمريكية التصعيد لأن الأمن القومي لأي دولة هو خط أحمر لا نقاش فيه ولا مساومة وتبقى أوكرانيا وشعبها ضحية هذه الحرب القاسية.
*صحيفة"عمان"العمانية