×

  مام جلال ... حقائق و مواقف

  مام جلال في الشام...(6)



*علي شمدين

(جاندار: فرحت عندما علمت بأنني سألتقي مام جلال)

منذ عودته إلى الشام عام (١٩٧٢)، ظل مام جلال يتنقل بينها وبين القاهرة وبيروت، إلى أن عاد منها إلى كردستان العراق عام (١٩٧٧)، لقيادة الثورة الجديدة التي أشعلها في جبالها عام (١٩٧٦)، وشكلت هذه العواصم الثلاث الميدان الرئيسي الذي تابع فيه مام جلال نضاله الديبلوماسي المرير من أجل التعريف بقضيته القومية، وتفعيل دوره السياسي بين الوسط العربي وإحياء شخصيته الكاريزمية التي كانت قد خف بريقها نوعاً ما خلال النصف الأخير من عقد الستينات نتيجة للانشقاق الذي شهده الحزب الديمقراطي الكردستاني، فبدأ مام جلال يستعيد دوره السياسي شيئاً فشيئاً، وينشط علاقاته مع الوسط العربي بشكل أقوى وأوسع، وفضلاً عن ذلك كانت تلك السنوات (١٩٧٢- ١٩٧٧)، التي أمضاها بين هذه العواصم التي كانت تشكل قلب العالم العربي، فرصة تاريخية أيضاً للتواصل مع القوى اليسارية في المنطقة ومع قادتها، ولعل لقاءه مع المناضل التركي التقدمي (جنكيز جاندار)، تعد فرصة تاريخية أوصلت مام جلال فيما بعد إلى رئيس الجمهورية التركية (تورغوت أوزال)، والعمل معه من أجل بلورة مشروع سلام بينه وبين زعيم حزب العمال الكردستاني (عبد الله أوجلان)، وإعلان أول هدنة تاريخية بين الطرفين في (١٦/٣/١٩٩٣).

كان جاندار شاباً يافعاً في مقتبل عمره عندما اجتاز الحدود سراً من تركيا إلى سوريا هرباً من حملات الملاحقة والسجن التي بدأت في تركيا على إثر الإنقلاب العسكري في (١٢/٣/١٩٧١)، وبات جاندار فيما بعد أحد قادة الرأي وكاتب الزوايا في الصحف والمجلات المرموقة مثل (نيويورك تايمز)، وعمل مستشاراً سياسياً لتورغوت أوزال، ومن بعده مستشاراً لرجب طيب أردوغان، وظل خلال مسيرته هذه نصيراً قوياً للشعوب المضطهدة وخاصة الشعب الكردي، وخصماً عنيداً للأنظمة الدكتاتورية وفي مقدمتها نظام صدام حسين، وكان لقاءه مع مام جلال فرصة هامة ساهمت في تغيير مسار حياته،.

يقول جنكيز جاندار حول ذلك في كتابه (قطار الرافدين السريع)، ما يلي: (عرَّفني الكرد السوريون في بيروت إلى جلال طالباني القائد الكردي العراقي الذي أصبح في ما بعد أول رئيس جمهورية منتخب في العراق، وأنا عرَّفت القائد الكردي العراقي بعد سنوات طويلة إلى رئيس الجمهورية التركية تورغوت أوزال، فبدأت تركيا تتعلم أنها لن تستطيع تجاوز الحدود والانفتاح على الشرق الأوسط من دون كردها، ومن دون مواجهة التاريخ..).

هكذا ينظر جنكيز جاندار إلى علاقته مع مام جلال، والتي كانت القضية الكردية بوصلتها الرئيسية، ويعبر عن رؤيته حول ضرورة حل هذه القضية ليس لأنها قضية هامة وعادلة فقط، وإنما كذلك لأنها البوابة الرئيسية التي لايمكن لتركيا الخروج من عزلتها الخانقة وبالتالي انفتاحها على الشرق الأوسط وتحقيق حلمها العثماني بدون حلها، ويحدد جاندار بدقة المفتاح الذهبي الذي حاول أن يفتح به هذه البوابة التي ظلت حتى ذاك الحين مغلقة في وجه هذه القضية بيد من حديد، وكان هذا المفتاح هو جلال طالباني الذي التقى به جاندار لأول مرّة في بيروت عن طريق صديقهما المشترك عبدالحميد درويش، وهذه الفرصة التاريخية هي بالذات التي تحدث عنها جاندار في كتابه (قطار الرافدين السريع)، وقال بأنها ساهمت في تغيير مسار حياته السياسية والإعلامية: (فإذا كان هناك من لعب دوراً في حياتي دون أن يدري ولم نلتق على مدى أربعين سنة فهو عبد الحميد درويش، أحد أقدم رجال الحركة الكردية..).

خلال وجود مام جلال في بيروت، كان كل من (عبد الحميد درويش، وجنكيز جاندار)، متواجدين هناك أيضاً، فيقترح درويش على جاندار اللقاء مع مام جلال، ويسأله إن كان يرغب في تناول الفطور معه، فيقول جاندار في كتابه المذكور حول ذلك: (سأعترف بأنني انفعلت فرحاً لدى سماعي هذا الاقتراح.. وتحمست للتعرف على شخصية معروفة عالمياً وتناول الفطور معها..)،

فيقوده عبد الحميد درويش في أوائل شهر نيسان من العام (١٩٧٣)، إلى البيت الذي كان يسكنه مام جلال بالقرب من ساحة الحمراء، وبعد دخولهما وقعت عينا جاندار على رجل طويل القامة مهيب المظهر عريض الشاربين، وكان الرجل جالساً بصمت ووقار شديد، فظنه جاندار بأنه هو مام جلال، بينما كان هناك رجل يضايقه بين الحين والآخر بسؤاله عن الطريقة التي يفضلها لإعداد البيض، وكانت لدى جاندار رغبة شديدة بالتعرف على الرجل الجالس بجواره على الكرسي والذي ظل يظن بأنه هو مام جلال، ولكي يتخلص من إلحاح (الخادم) يجيبه جاندار عن طريقة البيض الذي يرغب في تناوله، وما أن عاد الذي ظنه جاندار خادماً إلى المطبخ لإعداد البيض له، حتى مد جاندار يده للرجل الأنيق الجالس إلى جواره، وخاطبه بالعربية، ولكنه لم يبال وكأن أحداً لم يكلمه، ولم يكلف نفسه حتى عناء مد يده ليصافح يد جاندار الممدودة له، وبعد الانتهاء من تجهيز البيض، ُدعا جاندار ذاك الرجل الجالس بجواره على الكرسي والذي افترضه بأنه هو مام جلال ليرافقه إلى المائدة، ولكنه لم يتحرك،

ولم يأت معه إلى المائدة، فيسأل جاندار نفسه: ألم يتم دعوتي لأن أتناول الفطور مع جلال طالباني؟

فلماذا لا يأتي معي إلى المائدة إذاً؟ وأخيراً، يعلم جاندار بأن الشخص الذي يقدم له الطعام إلى المائدة ويُصر على الحديث معه بالإنكليزية ويظن بأنه الخادم، هو نفسه الزعيم الكردي جلال طالباني.

فيسأل جاندار: إذاً من هو ذاك الجالس على الكرسي؟

فيجيبه مام جلال بأنه حارسه الشخصي، وهو لا يتكلم العربية ولا الإنكليزية ولايفهم سوى الكوردية، فغدت هذه الحادثة طرفة ظل مام جلال يرويها لضيوفه في الكثير من جلساته كنكتة من نكاته الجميلة والمعبرة عن روحه الإنسانية المرحة حتى وإن كان هو موضوعها، مثلما يقول عنه الكاتب خالد القشطيني في مقاله (عندما يسخر الكرد)، المنشور في جريدة (الشرق الأوسط): (إن فخامة الرئيس جلال طالباني كان يدون النكات، ويستمع إليها بشغف، وقيل بأنه يرويها للمقربين منه بمتعة كبيرة حتى وإن كان هو موضوعها أو الشخص المستهدف فيها..).

 

(صوت العراق.. من دمشق)

بعد أن استنزفت الفرص التي تهيأت للاستمرار في الثورة الكردية، وأخفقت المحاولات الرامية لإجهاض الاتفاقية التي حيكت في الجزائر بين النظامين العراقي والإيراني، والتي تم توقيعها بتاريخ (٦/٣/١٩٧٥)، والقاضية بانهاء الدعم الإيراني للثورة الكردية، أعلن عن إنهيار الثورة ليظل الكرد في كردستان العراق أمام أحد أسوأ الخيارين: الانسحاب إلى داخل إيران أو الاستسلام للنظام العراقي، وحينها كان مام جلال موجوداً في الشام، فاستنفر كل جهوده وعلاقاته الدولية والإقليمية من أجل التخفيف من حجم تلك الكارثة التي حلت بالشعب الكردي في كردستان العراق، والمحافظة على روح المقاومة والاستمرار في الثورة.

فقد تهيأت للثورة الكثير من الفرص والمبادرات التي جاءت بشكل خاص من جانب (معمر القذافي وحافظ الأسد وأنور السادات ويفغيني بريماكوف..)، والتي كانت تصب كلها في إطار التشجيع على استمرار الثورة في مواجهة النظام الدموي في بغداد والاستعداد لتقديم كافة أشكال الدعم والمساعدات المادية والمعنوية والعسكرية، فإن الرئس الليبي معمر القذافي وخلال لقائه مع مام جلال أبدى استعداده الكامل لتقديم الدعم المالي اللازم لمتابعة الثورة ضد نظام صدام حسين، وكذلك الرئيس السوري حافظ الأسد هو الآخر التقى مام جلال ووعده بتأمين الأسلحة والذخيرة الممكنة، والسماح لهم بفتح المعسكرات التدريبية والمقرات في الشام والقامشلي وديريك، وإيواء مختلف قياداتهم السياسية والعسكرية، كما استعجل السوفييت أيضاً في الاتصال مع مام جلال ودعوته إلى موسكو والتعهد له بدعمهم إن استمروا في القتال ضد نظام بغداد، وقد التقى مام جلال بيفغيني بريماكوف الذي كان يعمل آنذاك مراسلاً لجريدة برافدا، ويذكر مام جلال في (دفاتر الثورة الكردية والعراق)، ويقول: (عندما التقيت بريماكوف في بيروت طلب مني مواصلة القتال وعدم الاستسلام لطلب الشاه، وقال أن الحركة الكردية باستسلامها ستسجل على نفسها كونها حركة عميلة وتابعة، وبمقاومتكم يمكننا التوسط بين الحركة الكردية وبغداد..).

ومع أن  مام جلال حينذاك لم يكن يقود أي حزب سياسي، ولم تكن لديه أية مسؤولية في قيادة الثورة الكردية التي لم تستجب لتلك الفرص مع الأسف، سوى كونه عضواً في مكتب الشؤون العربية في بيروت، ولكنه مع ذلك وشعوراً منه بالمسؤولية التاريخية الملقاة على كاهله، وانطلاقاً من بعد نظره السياسي، وقراءته الدقيقة للأحداث وتطوراتها، فقد اتخذ قراره المصيري الذي غير مسار الأحداث خلال فترة قصيرة، وذلك عندما أدلى في بيروت بتصريحه الإعلامي بتاريخ (٢٧/٣/١٩٧٥)، والذي دعا فيه إلى الاستمرار في المقاومة ومتابعة الثورة في وجه الطغيان، وقال بأنه سيعود في أقرب وقت إلى كردستان العراق من أجل شحذ همم المقاتلين ورفع معنوياتهم، وما شجعه أكثر على هذه الخطوة هو علمه بالتحركات التي بدأت بها (عصبة شغيلة كوردستان)، واستعدادها للمقاومة ومتابعة النضال داخل كردستان، والتي استشهد العشرات من كوادرها القيادية وأعدموا في سجون النظام الدموي ببغداد أمثال (شهاب شيخ نوري، وأنور زوراب وجعفر عبد الواحد)، الذين وكما يصفهم عادل مراد في كتاب (أصدقاء طليطلة)، فإنهم: (كانوا بمثابة دينمو الثورة الجديدة..).

لا شك بأن الموقف الإيجابي لكل من (معمر القذافي، وحافظ الأسد)، ودعمهما (المادي والعسكري)، اللا محدود لمام جلال كان له الدور الرئيسي الحاسم في تشجيعه على تغيير مسار المقاومة نحو الاعتماد عليهما وعلى الدعم السوفييتي بدلاً من الاعتماد على شاه إيران الذي خذل الثورة الكردية وخانها في منعطف خطير من نضالها التحرري، فقد كانت قراءة مام جلال للعلاقة مع حافظ الأسد تحديداً تنطلق من عمق التناقضات الاستراتيجية والخلافات الطائفية والقومية الجذرية التي كانت تفصل بين النظامين البعثيين في سوريا والعراق، والتي جعلت حافظ الأسد أقل حساسية تجاه القضية الكردية في العراق كما ذكره مام جلال في كتاب (لقاء العمر).

استقر مام جلال في الشام بعد انهيار الثورة الكردية، واتخذ منها منطلقاً رئيسياً للعمل من أجل تأسيس تنظيم سياسي يستوعب حجم اليأس والإنهيار الكارثي الذي خلفته اتفاقية الجزائر وراءها، فيراسل مام جلال (عادل مراد، وعبد الرزاق عزيز ميرزا)، ويدعوهما للمجيء من طهران إلى الشام، فيصلان إليه بتاريخ (٧/٤/١٩٧٥)، كما دعا مام جلال الدكتور فؤاد معصوم أيضاً الذي كان حينذاك موجوداً في القاهرة كممثل للثورة الكردية، للحضور إلى الشام، وبعد وصولهم بدأت اللقاءات بين هؤلاء الأربعة حتى تمخضت في الأخير عن ولادة الاتحاد الوطني الكردستاني في الشام، وحول ذلك يقول عادل مراد في كتاب (أصدقاء طليطلة): (اتصل مام جلال من الشام بالعشرات من كوادر الشعب الكردي..

وبعد العشرات من الحوارات والاتصالات الهاتفية والرسائل والرسل والاجتماعات التداولية بين المؤسسين الأربعة ومئات الشخصيات الوطنية الكردية والعراقية والعربية الصديقة والحليفة، عقد الاجتماع الرسمي الأول بتاريخ ٢٢/٥/١٩٧٥، في مقهى طليطلة وسط الشام برئاسة مام جلال وحضور الدكتور فؤاد معصوم وعبد الرزاق عزيز وعادل مراد، وبعد نقاشات وتبادل الآراء قررنا ان نسمي التنظيم الجديد بالاتحاد الوطني الكردستاني..)، وبعد ذلك تواصل مام جلال مع كل من (د. كمال فؤاد، ونوشيروان مصطفى، وعمر شيخموس)، الذين كانوا متواجدين في أوربا، وأقنعهم بالإنضمام إلى الهيئة التأسيسة للاتحاد الوطني الكردستاني، فأصبح بذلك عددهم سبعة أعضاء.

وما أن وضعت اللمسات الأخيرة على البيان التأسيسي للاتحاد الوطني الكردستاني الذي أعده مام جلال في مقهى (طليطلة)، حتى بثته إذاعة صوت العراق من الشام بتاريخ (١/٦/١٩٧٥)، ونشرته أيضاً الصحافة السورية واللبنانية بكثافة، فأعطى البيان صدى مدوياً بين أبناء الشعب الكردي مزق شعور اليأس وفقدان الأمل الذي كان قد خيم عليهم إثر إنهيار ثورتهم بذاك الشكل التراجيدي المحزن، وبين أصدقائه والمؤيدين لقضيته العادلة في كل مكان، وكان البيان بمثابة صرخة قوية في وجه الطاغية صدام حسين الذي لم يوفر حينذاك حتى السلاح الكيمياوي إلا واستخدمه في إبادة شعبنا الذي بات يعيش كارثة حقيقية، وكان نداء مسؤولاً لشحذ همم المناضلين والبيشمركة، واستنهاض روح المقاومة والأمل لدى أبناء الشعب الكردي الذين باتت المشانق والسجون والمنافي والمهاجر تتقاذفهم بين أمواجها المخضبة بالدم.

 

(سنقاوم.. وإن كان ذلك عملاً انتحارياً)

نظراً لتسارع التداعيات الكارثية لإتفاقية الجزائر عام (١٩٧٥)، وانهيار الثورة الكردية في كردستان العراق بذاك الشكل المأساوي المفجع، وحجم اليأس الذي خيم بنتيجتها على معنويات الكوادر السياسية وعلى عزيمة قوات البيشمركة، فضلاً عن المعاناة التي كانت الجماهير الكردية تعيشها في كل لحظة بين مطرقة نظام دموي مخمور بنشوة (الانتصار)، وسندان التشرد والجوع والحرمان في المهاجر وبلدان الشتات، ونتيجة لكل تلك التداعيات لم يبق أمام مام جلال وحزبه الذي لم يكن بعد قد أكمل العام الأول من تأسيسه، سوى التسابق مع الزمن، والاستعجال في استكمال الاستعدادات اللازمة لإعادة إحياء الحركة الكردية في كردستان العراق، واستئناف الثورة ضد نظام صدام حسين الذي كان يراهن على فشل مام جلال في تجميع البيشمركة في جبال كردستان من جديد. 

ولهذا ومن ضمن الترتيبات اللازمة للقيام بهذه المسؤولية التاريخية، مسؤولية إعادة إشعال الثورة من جديد في جبال كردستان، ومواجهة النظام الديكتاتوري في بغداد لإيقاف تلك الإبادة الجماعية التي كان ينفذها في كردستان مهما كانت التضحيات، كان لا بد لقيادة (الاتحاد الوطني الكردستاني)، من التنسيق مع قيادة (الحزب الديمقراطي التقدمي الكردي في سوريا)، وخاصة مع سكرتيره عبد الحميد درويش الذي كانت تربطه ومام جلال علاقات قديمة تمتد إلى أواسط الخمسينيات من القرن المنصرم، ووضعها في الصورة الحقيقية لما تنوي القيام بها من خطوات في هذا الاتجاه، ودعوتها للوقوف إلى جانبها في نضالها ودعمها ضمن حدود إمكاناتها..

ولهذا، وبعد فترة وجيزة من تأسيس (الاتحاد الوطني الكردستاني)، حضر إلى الشام سكرتير الحزب عبد الحميد درويش والوفد القيادي المرافق له والذي ضم (رشيد حمو، تمر مصطفى، عزيز داود، طاهر سفوك)، وذلك استجابة للدعوة التي وجهها لهم مام جلال لعقد اجتماع ثنائي مشترك بين الحزبين الشقيقين، لمناقشة المسائل السياسية التي تهم الطرفين، وقد عُقد الاجتماع في دمشق بمقر الاتحاد الوطني الكردستاني في حي (ركن الدين)، وضم وفد الاتحاد الوطني الكردستاني حينذاك إلى جانب مام جلال كلاً من (نوشيروان مصطفى، فؤاد معصوم، كمال فؤاد، كمال خوشناو، كريم فيلي)، وفي بداية هذا الاجتماع الذي كان هو الأول بين هذين الحزبين الشقيقين منذ تأسيس الاتحاد الوطني الكردستاني، تحدث مام جلال عن العلاقات الأخوية التي تربطهم معاً، وتدفعهم لأن يتبادلوا الآراء بين بعضهم البعض، والتنسيق فيما بينهم، وفي هذا المجال يذكر درويش في كتابه (أضواء على الحركة الكردية في سوريا)، بأن مام جلال قال لهم في هذا الاجتماع: (إننا دعوناكم الى هذا الاجتماع المشترك لنعلمكم بأننا قررنا الذهاب الى كردستان ومعاودة الكفاح المسلح، ويهمنا أن نطلعكم على هذا القرار أولاً ونستمع الى رأيكم به، ومن ثم مساندتكم ودعمكم لنا في هذه المرحلة المهمة..).

ويقول عبد الحميد درويش في كتابه المذكور، بأنهم من جهتهم عبروا لمام جلال ورفاقه عن وقوفهم معهم في نضالهم ضد النظام الدكتاتوري القائم في بغداد، وضد سياسة التعريب والصهر والابادة التي ينتهجها هذا النظام ضد الشعب الكردي، وبأنهم قالوا لمام جلال ورفاقه: (إننا نرى بأن الكفاح المسلح غير مُجد في ظل الظروف الراهنة، فلم تمض بعد على انهيار ثورة أيلول سوى أربعة أشهر، والجماهير الكردية لا زالت تعاني من الصدمة الشديدة التي أصابتها جراء ذلك وهي الآن حسب تقديرنا ليست بوضع يؤهلها لأن تخوض غمار النضال المسلح الى جانبكم أو جانب أي فصيل آخر، هذا عدا عن العوامل السلبية الأخرى التي لا تساعد على ذلك..).

ويقول درويش في كتابه (أضواء على الحركة.. )، بأن مام جلال رد عليهم في ذاك الاجتماع التاريخي، قائلاً:(إن العوامل التي أشرتم اليها صحيحة، وأن الوضع من الناحية النظرية كما يتراءى لنا أيضاً غير مساعد على العمل المسلح، ونعلم بأنه ليس بمقدورنا اسقاط النظام القائم أو انتزاع الحكم الذاتي بمفهومه الصحيح بعد هذه النكبة التي ألمت بالشعب الكردي في كردستان العراق، ولكننا نريد أن تعرفوا بأن النظام العراقي يمارس سياسة إخلاء كردستان والإبادة الجماعية ضد سكانها، وسوف يأتي يوم لن يكون الشعب الكردي في كردستان العراق على أرضه إن لم نقاوم هذه السياسة وان ما نقوم به وإن كان عملاً انتحارياً، فان الغاية منه هو مواجهة حملات التعريب والتدمير في كردستان..).

لقد كانت الظروف كلها تشير آنذاك إلى استحالة التحدي مع نظام متوحش لم يوفر سلاحاً إلا واستخدمه في إبادة الشعب الكردي في كردستان العراق، ولم يبق أمام مام جلال ورفاقه أي خيار آخر سوى الإقدام على تلك المغامرة الثورية التي كانت تعادل الانتحار تماماً، فإما أن يموتوا جميعاً أو أن يوقفوا هذه الإبادة الجماعية الجارية على قدم وساق ضد الوجود الكردي، وبحسب ما نقله عنه الرفيق حميد في كتابه المذكور آنفاً، فإن مام جلال، وببعد نظره السياسي المعهود، يؤكد

في ختام إجتماعه مع قيادة (الحزب الديمقراطي التقدمي الكردي في سوريا)، بأنه: (وازاء هذه الحقيقة، فان قيادة الاتحاد الوطني الكردستاني قد قررت مقاومة هذه السياسة بالوسائل المتاحة بما فيها النضال المسلح، فقد نستطيع بذلك أن نحُد من هذه السياسة الفاشية، ونوقفها في حدود معينة، ونعلم بأن هذا سيكلفنا ثمناً غالياً، ولكن ليس لنا من خيار غير ذلك..).

 

(السوريون أنقذونا من لدغة الأفعى في صحراء قاحلة)

بعد الإعلان عن تأسيس الاتحاد الوطني الكردستاني، والاستجابة الجماهيرية الواسعة معه داخل كردستان العراق وخارجها، ونجاحه في استقطاب الرأي العام المحلي والدولي إلى جانب برنامجه السياسي الذي أعلنه في بيانه التأسيسي الذي أذيع من دمشق بتاريخ (١/٦/١٩٧٥)، وحصوله على الدعم العسكري والمالي والسياسي من بعض الدول المؤثرة في الملف العراقي مثل (سوريا، وليبيا، والاتحاد السوفيتي..)، بدأ الاتحاد الوطني الكردستاني بالإعداد للكفاح المسلح بقيادة مام جلال، الذي يقول في كتاب (حوار العمر)، ما يلي: (كنا نرى ضرورة البدء بالكفاح المسلح ونعتقد بأن النضال السياسي لن يكتمل أو يحقق أهدافه دون وجود حركة مسلحة، بل إن الحياة السياسية لن تتقدم أيضا من دون نضال مسلح، ولذلك قررنا أن نهيء أنفسنا لهذه المرحلة، وفتحنا مراكز ومعسكرات عديدة لتدريب المقاتلين في سوريا..).

وفي أول اجتماع لها برئاسة مام جلال بتاريخ (١٧/١٢/١٩٧٥)، اتخذت الهيئة المؤسسة قرارهاً المصيري الذي كان ينتظره كل المناهضون لنظام البعث في بغداد، وهو قرار البدء بالكفاح المسلح واستئناف الثورة في جبال كردستان العراق من جديد، فراهن الكثيرون على فشل مام جلال وحزبه في قرارهم التاريخي هذا وقالوا: إذا كانت ثورة أيلول بقوتها لم تنجح سوى في تحقيق المصالحة بين صدام حسين وشاه إيران ، فإن هذه الثورة الجديدة هي الأخرى سوف لن تنجح سوى في تحقيق المصالحة بين صدام حسين وحافظ الأسد، وحول هذا الاجتماع يقول عادل مراد في كتاب (أصدقاء طليطلة)، ما يلي: (وبعد نقاشات ومشاورات واسعة في الاجتماع الأول للهيئة المؤسسة الذي عقد برئاسة مام جلال، اتخذنا عدة قرارات هامة مثل البدء بحرب الأنصار ضد قوات نظام البعث، وكذلك قررنا العمل بجدية من أجل تجميع القوى المعارضة والوطنية الكردستانية والعراقية لمواجهة نظام البعث بشكل أقوى، وطرح مام جلال في هذا الاجتماع خطة سماها بخطة التحرير..)، وفي هذه الأثناء استطاع مام جلال اللقاء مع الرئيس السوري (حافظ الأسد)، الذي أبدى، وبحماس شديد يكافئ حجم الحقد الذي يكنه لصدام حسين، استعداده لتقديم كل أشكال الدعم والمساندة الممكنة لهم، والوقوف معهم حتى يقفوا على أقدامهم ويعززوا صفوفهم، فيقول مام جلال في (حوار العمر)، ما يلي: (لقد ساعدنا السوريون في مجالات عدة، سياسية ومعنوية ومن الناحية المالية أيضا وكذلك قاموا بتجهيزنا بالأسلحة، وكانت هذه مساعدات قيمة بالنسبة لنا.. فقد كان الدعم السوري لنا، أشبه بإنقاذنا من لدغة الأفعى في صحراء قاحلة..).

ومن أهم الخطوات اللازمة للإعداد للكفاح المسلح، بدأت قيادة الاتحاد الوطني الكردستاني، باستقبال البيشمركة والمتطوعين الذين التحقوا بمعسكرات التدريب التي أقيمت في (الشام، والقامشلي وديريك)، وقد تولى تدريبهم في هذه المعسكرات النقيب المهندس الشهيد إبرهيم عزو، ومعه عدد من الضباط الآخرين من أمثال (سيد كريم، وحسن خوشناو، الملازم فؤاد جلبـي ومعاون الشرطة جمال خوشناو..)، ويقول مام جلال في (لقاء العمر)، بأن هؤلاء الضباط: (شاركوا في تدريب المقاتلين، ونظموا دورات خاصة للتدرب على حرب الأنصار واستخدام مختلف أنواع الأسلحة، وقد تخرج من تلك الدورات حوالي /٢٠٠- ٣٠٠/ مقاتل..)، وفيما بعد التحق بهم أيضاً (الشيخ حسين بابا شيخ)، وهو أحد الشخصيات الكردية المعروفة بين الطائفة الإيزدية، وكان لإنضمامه إليهم التأثير الكبير على الإيزديين في أماكن تواجدهم،

وفي هذا الإطار يقول عبد الرزاق فيلي في لقائه مع موقع (بيوكي ميديا)، مايلي: (لقد كان للشهيد حسين بابا شيخ دور عظيم في بناء اتصالات مع أبناء سنجار وبهدينان وضمهم الى الاتحاد الوطني الكوردستاني..)، كما كان وجود الأمير تحسين بك آنذاك في سوريا، فرصة استثمرها مام جلال للتواصل من خلاله مع أوساط الإيزيديين في قرى منطقة الجراح التابعة لمنطقة القامشلي، واللقاء بهم هناك وكسبهم أيضاً إلى جانب الاتحاد الوطني الكردستاني وفي مقدمهم الشخصية الإيزيدية المعروفة في تلك المنطقة (حسين حوران).

وهكذا، صارت مقرات الاتحاد الوطني الكردستاني، ومعسكراته التدريبية في الشام والقامشلي وديريك، أشبه بخلايا النحل التي كانت تعمل فيها كوادره ومقاتليه ليل نهار استعداداً للبدء بالكفاح المسلح، وكانت هذه المراكز بمثابة محطات رئيسية لتواجد قيادات الاتحاد الوطني الكردستاني وفي مقدمتهم مام جلال ونوشيروان مصطفى وفؤاد معصوم وعادل مراد وعبد الرزاق فيلي وعمر دبابة وغيرهم، الذين كانوا يشرفون على هذه التحضيرات ويتابعون بأنفسهم الترتيبات اللازمة لنقل المقاتلين والأسلحة والذخيرة باتجاه جبال كردستان العراق، بشكل سري عبر الحدود المحفوفة بالمخاطر والتحديات، وفي هذا المجال لم يتردد الحزب الديمقراطي التقدمي الكردي في سوريا، في مساندة الاتحاد الوطني الكردستاني في تلك الظروف الصعبة، والوقوف إلي جانبه بكل إمكاناته المتوفرة..

.....يتبع


18/10/2023