بماذا نفسر هذا الخراب والدمار الشامل الذي حل بمدن اقليم كردستان؟
بدأت المحكمة الجنائية العراقية العليا، يوم الاحد 21/12/2008، الجلسة الاولى من محاكمة المتهمين في قصف مدينة حلبجة الشهيدة بالاسلحة الكيمياوية عام 1988. وترأس الجلسة القاضي محمد عريبي الخليفة بحضور جميع المتهمين.
والمتهمون في جريمة قصف مدينة حلبجة هم كل من: علي حسن المجيد الملقب بعلي كيمياوي مواليد 1944، فريق ركن في الجيش العراقي السابق عضو القيادة القطرية المنحلة، عضو مجلس قيادة الثورة المنحل، وسلطان هاشم احمد، مواليد 1945، وزير دفاع، صابر عبدالعزيز حسين الدوري مواليد 1949، محافظ بغداد، فرحان مطلك صالح الجبوري، مواليد 1947، لواء ركن متقاعد، طارق رمضان بكر العزاوي، مقدم طيار متقاعد. ومن ثم استمعت المحكمة الى مرافعة المدعي العام منقذ آل فرعون الذي اوضح فيها تفاصيل الجريمة التي ارتكبت بحق المدنيين في مدينة حلبجة عام 1988:
بسم الله الرحمن الرحيم
(وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا يا اولى الابصار) صدق الله العظيم
السيد الرئيس
السادة الاعضاء المحترمون
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
نعم انهم يخربون بيوتهم بأيديهم، والا بماذا نفسر هذا الخراب والدمار الشامل الذي حل بمدننا في اقليم كردستان.
ألم يكن من صنع الزمرة الحاكمة آنذاك؟ ثم تحت اي غطاء قانوني او شرعي او انساني ترتكب مثل هذه الكوارث؟
وواحدة من ضحايا ذاك التصرف الهمجي (حلبجة الشهيدة) وهي فعلا تصدق عليها هذه التسمية واستحقت لقب الشهادة بهذا الكم الهائل من الشهداء ضحايا القصف الكيمياوي وهدم لمئات الدور بعمليات عسكرية منظمة ولأيام متتالية.
وعلى خلفية هذا الدمار فان قضية حلبجة تناولتها وسائل الاعلام والقنوات الفضائية وتحدث باخبارها الركبان واخذت مساحة اعلامية واسعة جدا.
وتوافد على أرضها التي تشبعت سموما بالضربات الكيمياوية وفد يحصي الضحايا وذاك يحصي عدد البيوت المهدمة وآخر يأخذ عينة من ترابها ومصور يصور فلما عن كوارث حلبجة، جثث متفحمة وحيوانات وطيور نافقة وتطول القائمة وهكذا اصبحت هذه المدينة التي وصفها أحد الصحفيين بانها تلك المدينة التي تقع في ذلك الممر الضيق في شمالنا الحبيب مدينة وادعة بأهلها وموقعها الجبلي الجميل اصبحت قبلة يحج اليها الكثير من المختصين اطباء وباحثين وقد شكل هذا التوافد فضيحة مخزية للنظام البائد.
هؤلاء الناس دفعهم شعور الانسانية ولكن ألم يكن من باب أولى ان تدخل الرحمة في قلوب الحاكمين بل ان تكون عنايتهم بالمحكومين بأعلى درجاتها في الوقت الذي اصبح فيه القادة في العالم يتسابقون وكأن هناك منافسة محتدمة بينهم حول موضوعة من يستطيع ان يقدم او يوفر رخاء وأمنا اكثر من غيره حتى تنوعت اشكال الرخاء في العالم، عيش كريم ومواطن ينام ويصحو ويجد مجال العمل ميسورا لا يقلقه مصير مجهول ولا يفكر كيف يعيش غده، وهكذا فان هذا العالم القرية كفل من خلال مدوناته الدستورية حق العيش الكريم وحق الرأي وقبول الآخر وحفظ آدمية الانسان حتى اصبحت تلك من الملسمات التي يمارسها الانسان فوق ثرى وطنه ولم تكن بعيدة المنال او انها احلام تداعب خيال الشعوب.
وكم من تشريعات وطنية ودولية اصبحت ترسخ هذه المفاهيم بل اصبح الخروج عليها همجية وخرقا لحقوق الانسان الاساسية المثبتة في المواثيق الدولية واصبح تنفيذها من الرغائب ولم يكن نابعا من خوف او عقوبة او توجيه لوم من أحد، بل انها طقوس نابعة من اعمال القائمين عليها ولكن في بلدنا وللاسف فان تلك المعادلة قلبت واصبح ديدن الحاكمين هو تحويل البلد الى (طرائق قددا) انصبت احلامهم على تحقيق كوارث ثلاث (تجويع وتجهيل وتدمير).
وبشتى الوسائل ولا اراني مبالغا في ذلك فهذا قول المتهم علي حسن المجيد الذي جاء على لسان اكثر من شاهد، اسوقه اليكم ايها السادة، وهو يتحدث الى وفد من اهالي حلبجة بعد حصول الكارثة الكيمياوية حيث كان من المقرر ان يقابلهم المعدوم صدام، بعد ان رفض، تمت مقابلتهم من قبل المتهم علي حسن المجيد وبدل ان يعزيهم فانه توعدهم وقال (ان حلبجة قذرة ويجب ان تزال تربتها وتلقى في البحر لبخاستها حيث بلغت الخيانة بهم ان يقولوا يسقط صدام)، لكن اردف قائلا (كنا نتصور عدم بقاء حي فيه، انسانا او حيوانا ونباتا)، ثم ختم حديثه (اني ضربت حلبجة بالاسلحة الكيمياوية وانتم تستحقون اكثر من ذلك).
وهكذا توالت الرزايا على المنطقة، فبالامس ارتكبت كارثة الانفال وامتدت في تاريخها حتى تداخلت مع مذبحة حلبجة وقبلها ارتكبت ازالة حي كامل من الوجود اسمه حي (كاني عاشقان) وهي حي حلبجي وقبلها وبعدها ما يعز على الحصر ويحار المرء حقيقة في تفسير ذلك ولمصلحة من يشرذم الوطن، ولا عجب في ذلك فان النظام كان يعطي ولا عجب في ذلك فان النظام كان يعطي لمنفذي هذه الجرائم وهذا الخراب عنوانا براقا بانه خزين نضالي والعمل به ثواب رباني.
وهكذا يفسر العوج بانه هو الاستقامة والاستقامة هي العوج.
ربي ما هذه الطوارئ؟ ما هذه النوازل؟ ما هذه الزلازل؟ ما هذه البلاوي التي حلت ببلدي العزيز؟
السادة القضاة...
بعد هذه التوطئة لابد لنا من ذكر التسلسل التاريخي لجريمة حلبجة، ففي يوم 13 و14/3/1988 اصطنعت القوات العراقية تراجعا امام القوات الايرانية الى قضاء سيد صادق ومهدت بهذا الانسحاب المتكتك للقوات الايرانية باحتلال ضواحي المدينة ولم تستعمل القوات العراقية قوتها الجوية الضاربة لضرب مواقع العدو (وهذا هو شعور الحلبجيين قاطبة) ولكن بدلا من هذا فانها صبت النار صبا على الاحياء السكنية صبيحة 16/3/1988 بقذائف تصم الآذان من اصواتها المرعبة ومن قوة تدميرها وكان لهذا القصف هدف شيطاني ثنائي الغرض، غرضه الاول هو تدمير اكبر عدد ممكن من المنازل على رؤوس ساكنيهم وغرضه الثاني فان هذا القصف سيلجئ السكان للدخول الى الملاجئ بحيث يعطي هذا اللجوء للعمل اللاحق بعدا نضاليا كما اسموه من خلال قوة تأثير الضربة الكيمياوية المبتدئة عصر يوم 16/3/1988 حيث اعطت الضربة الكيمياوية اثناء الدخول الى الملاجئ حصيلة يطمح النظام لتحقيقها وهو خنق المجاميع اللاجئة الى الملاجئ بالغازات السامة التي قذفتها الطائرات العراقية ولاسيما ان من طبيعة هذه الغازات انها تنتشر ببطء وتترسب الى الاسفل ويزداد ترسبها في الملاجئ بحكم طبيعة الملجأ المنخفضة.
وبما يؤيد ذلك ما رواه الشهود والمشتكون عن مشاهداتهم من استشهاد مجاميع كبيرة جدا خنقا بالكيمياوي داخل الملاجئ.
ومثلما امتلأت الشوارع والازقة ايضا بالجثث المتفحمة وآلاف المصابين بضيق التنفس وذرف الدموع وفقدان البصر وتكرر هجمات الطائرات هذه بالاسلحة الكيمياوية حيث اصبح هجوما واسع النطاق وتكرر بشكل منهجي طوال ذاك اليوم والايام اللاحقة واصبح الوضع مرعبا كما يروي الشهود ولعمري ان هذا المشهد هو تنفيذ لمقولة المعدوم الاول صدام، حينما امر بالاستفادة من الانتاج الحالي للعوامل الكيمياوية وتكديسها للحصول على ضربة واسعة عند الحاجة الضرورية وبذل الجهود الممكنة للتوصل الى تصنيع العوامل السامة بكميات كبيرة وبأسرع ما يمكن لاستخدامها كعنصر ردع مباغت باتجاه تحشدات العدو وتجمعاته المدنية، (رقم الوثيقة 2704 في 1/11).
السيد الرئيس، السادة الاعضاء...
امام هذا الموت الجماعي للسكان في الشوارع وتكديس الجثث في الملاجئ وعندما اصبح الموت يسجل ارقاما فلكية بالنسبة الى عدد السكان بالعالم، وعندما اصبح الموت يسجل ارقاما فلكية فان الذين كتب لهم خالقهم السلامة من هذه المذبحة او قبل هذه الابادة فانهم غادروا المدينة باتجاه قرية عنب او عبابيلي او سيروان ولكنهم لم يستطيعوا التحرك الى تلك المناطق لكون الجثث قد سدت الطرقات واعاقت حركة السياسات والجرارات، بل قل ان السيارات كانت تسير على الجثث احيانا ومن وصل منهم الى هناك خصوصا الى قرية عنب او عبابيلي او قرية جليلة فانهم لم يستطيعوا التقدم الى أبعد من ذلك لان الجسر الذي يربط المنطقة بمحافظة السليمانية وهو جسر زلم، كان مقطوعا، اضافة الى متابعة الطائرات للمجاميع الهاربة وقصفها بالكيمياوي بحيث اصبح مثل المجاميع الهاربة كمثل المستجير بالرمضاء من النار وهذا مع العرض ان ضرب المجاميع الهاربة هو عنصر من عناصر اثبات جريمة الابادة الجماعية.
وكثير من الناجين من الضربة الكيمياوية قد وصفوا هذا المشهد بانه اشبه بيوم الحشر.
هذا وبعد ان امتلأت الشوارع والازقة بالاجساد المتفحمة تناخى الشبان لعملية الدفن الجماعية وانبرى حوالي (300) شاب لعملية الدفن في مقبرة (شهيدان) وفي اماكن اخرى ولكثرتها قامت القوات الايرانية المتواجدة واستخدمت الجرافات والحفارات بحفر حفرة عميقة تم دفن الجثث فيها.
ويروي أحد الشهود انه اثناء الدفن قدمت سيارة تحمل (30) جثة دفعة واحدة، مما سبب اعياء لدى الدفانين ومن المشاهد الحزينة ايها السادة امرأة متفحمة الجسد تحتضن اولادها الاربعة المتفحمة اجسادهم ايضا، عيونهم مفتوحة تنظر الى بارئها وكأنها تناجي (ربنا ما الذنب الذي اقترفناه حتى نموت هكذا ميتة تأكل لحومنا الغربان والضواري)، وكان جواب الرحمان الآية التي ابتدأنا بها ولأنها دعوة المظلوم ليس بينها وبين الله حجاب [وظنوا انهم مانعتهم حصونهم...].
فتدحرج الطغيان الى اسفل الوديان ولو بعد حين لانه يمهل ولا يهمل.
السيد الرئيس، السادة الافاضل...
من الثابت ان المحكمة ستطلع على هذا الخزين المعلوماتي لقضية حلبجة التي بلغت صفحاتها (3530) صفحة وتقدم (438) شاهدا ومشتكيا للادلاء بأقوالهم اضافة للادلة الوثائقية ولاشك ان كل ذلك الخزين المعلوماتي يقف عاجزا عن اعطاء الوصف الدقيق لمأساة حلبجة التي عاش الجميع مناخاتها المؤلمة وكان الناس في حالة ذهول، كل يريد ان ينجو بنفسه ولهذا فان ما دوّن هو غيض من فيض الجرائم التي ارتكبت بحق هذه المدينة والناجون مازالوا يتذكرون الطائرات التي كانت تصب فوق رؤوسهم حمما وهي تحمل علم بلادهم، وقد اصبحت مسألة السلاح الكيمياوي ليست من قصص الخيال او كلاما يساق على عواهنه بل انه ثابت على لسان المسؤولين ومنها ما سلف ذكره عن المتهم علي حسن المجيد وكذلك تصريحات مسجلة على الاشرطة لبعض القادة والكتب المرسلة من المتهم فرحان مطلك الجبوري الى رئاسة الاستخبارات يعلمهم فيها ثمار الضربة الكيمياوية وكم قتلت من المدنيين الذين بلغ على لسانه (4) آلاف قتيل اضافة الى ضبط اجزاء من القنابل الكيمياوية داخل البيوت والطرقات مما اضطر الساكنين الى عمل صبات كونكريتية اتقاء لشر تسريباتها الكيمياوية.
السيد الرئيس...
لاشك اننا اعطينا وصفا لايصل مهما بلغ في دقته الى تصوير الكارثة لان الحديث غير الواقع ولم تنته معاناة الناس عند هذا الحد بل بدأت صفحة جديدة من رحلة العذاب وهي ان الذين وقعوا في ايدي القوات العسكرية من العائدين بعد هروبهم الى دول الجوار، نقل قسم منهم نقلا قسريا الى الصحاري حتى بلغ بهم المآل الى نقرة السلمان وهناك التقى الجمعان المقهوران، جمع الحلبجيين وجمع المؤنفلين، حيث ان المؤنفلين سبقوهم الى هذا المكان الذي ما فيه يدل على القسوة والغلظة، قاعات السجن الرهيبة، طبيعة البناء، طبيعة السجانين وهناك مورست معهم الاساليب من تفريق العوائل واخضاعهم لظروف معيشية غاية في الحرمان اضافة الى الضرب الذي لا رحمة فيه على ايدي جلاوزة النظام وحرموهم مما يكفي عودهم من الغذاء وانتشرت الامراض المعدية مثل الكوليرا وغيرها من الامراض ومات الكثير من الاطفال والنساء والحوامل ومن يتوفاه الله فان نصيبه السحل خارج قاعة السجن.وربما يتحرك ضمير بعض السجانين، ربما، فيقومون بالدفن ووضع طبقة خفيفة من التراب على الجثة وتصبح الجثة طعما للكلاب والقطط السمان التي ازدادت شحومها من اكل الجثث لان نبشها اصبح سهلا ميسورا، ناهيك عن الدفن فانه يتم من دون المراسيم المعروفة وبالتأكيد فان السجانين غلاظ القلوب قد نسوا تعاليم دينهم الحنيف.
اما القسم الآخر من العائدين الذي وقع في ايدي جلاوزة النظام، فقد تم تجميعهم وارسالهم الى ما يسمى المجمعات السكنية التي تحمل اسما فقط، فهي مجمعات التجميع والتجويع والتجهيل فعلا، لانها لا تختلف عن مثيلتها نقرة السلمان مثل مجمع سيروان ومجمع عنب ومجمع باينجان.
وبعد صدور العفو في الشهر التاسع من عام 1988 فوجئ الحلبجيون بما لا يختلف في قساوته عن الاجراءات التعسفية السابقة حيث حرموا من الرجوع الى وظائفهم ومنعوا من العمل وارسال اولادهم الى المدارس بل طال العقاب حتى من يؤجر دارا للحلبجيين في مدينة اخرى.
ختاما، ومن اجل ان يحيط ذراع العدالة برقبة كل من فعل او شارك او حرص او أمر أو ساعد على ارتكاب هذه المجزرة، نطلب الاستماع لاقوال المشتكين والشهود والاطلاع على الادلة الوثائقية.
والختام الدعاء (ربنا لاتزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشدا، انك انت الوهاب).
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته