×

  بحوث و دراسات

  دروس من الانتخابات الفرنسية والبريطانية



*ماكس بوت

 

*صحيفة واشنطن بوست

لم تكن نتائج الانتخابات العامة البريطانية التي جرت يوم الخميس مفاجئة على الإطلاق، فكما كان متوقعا، فاز حزب العمال بأغلبية ساحقة، وحصل على 412 مقعدا مقابل 121 مقعدا لحزب المحافظين. وفي المقابل، كانت نتائج الانتخابات التشريعية الفرنسية يوم الأحد مفاجئة بل صادمة، فبعد أن احتل حزب التجمع الوطني اليميني المتطرف المركز الأول في الجولة الأولى من التصويت، تراجع إلى المركز الثالث، وفاز بـ143 مقعدا، خلف الجبهة الشعبية الجديدة اليسارية التي فازت بـ181 مقعدا، وائتلاف الرئيس إيمانويل ماكرون الوسطي الذي فاز بأكثر من 160 مقعدا. ولم يحصل أي حزب على الأغلبية المطلقة في الجمعية الوطنية. وبهذا قد تواجه فرنسا فترة من الشلل السياسي، لكن هذا الشلل في كل الأحوال أفضل من وصول البديل اليميني بقيادة مارين لوبان إلى الحكم.

من المعلوم أنه لا يوجد تشابه تام بين التطورات السياسية في أوروبا وتلك التي تحدث في الولايات المتحدة، ولكن كانت هناك ارتباطات مذهلة وقعت في الماضي، خاصة بين السياسة البريطانية والأمريكية. كان النصر الشعبوي لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي في عام 2016 مقدمة لانتصار دونالد ترامب الشعبوي، في حين كان انتخاب «الديمقراطي الجديد» بِل كلينتون في عام 1992 بمثابة بشارة بانتخاب توني بلير وحزب العمال الجديد في عام 1997.

إذن، ما هي الدروس التي يمكننا استخلاصها من نتائج الانتخابات البريطانية والفرنسية الأخيرة؟

أولا، ضرورة أن يعمل يسار الوسط ويمين الوسط معا لمنع المتطرفين من الوصول إلى الحكم. وهذا بالضبط ما حدث في فرنسا، إذ قامت الجبهة الشعبية الجديدة وحزب ماكرون بسحب مرشحي المركز الثالث في أكثر من 200 دائرة انتخابية، الذين كان من المرجح انقسام أصواتهم، ومنح مقاعدهم لحزب التجمع الوطني المتطرف. وهذا جزء من التقليد السياسي في فرنسا ، يطلق عليه «الجبهة الجمهورية»، يهدف إلى منع اليمين المتطرف من الاستيلاء على السلطة، وهو معمول به منذ سقوط سلطة نظام فيشي في عام 1944.

لا يوجد مثل هذا التقليد في الولايات المتحدة، إذ سيطر ترامب وطاقمه تحت شعار (فلنجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى) على الحزب الجمهوري، وقد يعودون قريبا إلى البيت الأبيض. يعد هذا تطورا خطيرا، نظرا لأن طاقمه أكثر تطرفا من حزب التجمع الوطني، ففي حين أن كلا المجموعتين مناهضتان للمهاجرين، فإن جناح ترامب في الحزب الجمهوري هو فقط من دعم تمردا فعليا ووعد بتقويض الديمقراطية. من جهة أخرى، انتقل حزب التجمع الوطني إلى الوسط من خلال الوعد بدعم أوكرانيا والبقاء في الاتحاد الأوروبي (رغم أن كثيرين تساءلوا إن كانوا صادقين في ذلك)، في حين يعطي ترامب كل المؤشرات أنه قد يتخلى عن أوكرانيا ويخرج من حلف شمال الأطلسي.

إن اقتراب ترامب من العودة إلى السلطة يشكل إدانة واضحة ليس فقط للحزب الديمقراطي، بترشيحه رئيسا ضعيفا وغير قادر على التعبير عن نفسه يبلغ من العمر 81 عاما ، بل وأيضا للجمهوريين المعتدلين لعدم بذلهم مزيدا من الجهد لوقف ترامب. لقد كانت أفضل فرصة خلال عزل ترامب للمرة الثانية، عندما صوت 57 من أعضاء مجلس الشيوخ، بما في ذلك سبعة جمهوريين، لإدانته. لكن ذلك كان أقل بـ10 أصوات من الأصوات الـ67 التي كانت ضرورية لإدانة ترامب، وفي تصويت منفصل، لحرمانه من الترشح مرة أخرى.

ولو أن زعيم الأقلية في مجلس الشيوخ ميتش ماكونيل، وهو جمهوري عن ولاية كنتاكي، وغيره من الجمهوريين الرئيسيين، الذين اعترفوا بأن ترامب مذنب بالتحريض على التمرد، صوتوا لصالح الإدانة، لكانت أمريكا قد نجت في الابتعاد عن الكارثة المحتملة التي تلوح في الأفق الآن. وبدلا من ذلك، وضع النواب المحافظون الولاء للحزب الجمهوري فوق الولاء للجمهورية الأمريكية.

أمّا الدرس الكبير الثاني الذي تعلمناه الأسبوع الماضي فيكمن في استعمال الوسطية والكفاءة علاجا سياسيا ناجعا للتيار الشعبوي، فرئيس الوزراء البريطاني الجديد، كير ستارمر، تولى قيادة حزب العمال في عام 2020، وهو الحزب الذي همّشَ نفسه في عهد الزعيم اليساري المتطرف جيريمي كوربـيـن. ستارمر قاد حملة تطهير للموالين لكوربـيـن، وحرص على التخلص من المعادين للسامية الذين انجذبوا إلى أجندة سلفه المناهضة لإسرائيل. وبذلك أشار ستارمر، وزوجته يهودية، للناخبين إلى أن التصويت لصالح حزب العمال أصبح آمنا مرة أخرى.

لم يقم ستارمر بحملته بناء على أيّ أجندة متطرفة، وبدلا من ذلك، وعد في خطابه الأول كرئيس للوزراء بـ«إعادة بناء بريطانيا»، و«استعادة الخدمات العامة واحترام السياسة»، و«إنهاء عصر الجعجعة الفارغة»، و«كونوا أكثر حذرا في اتخاذ قرارات حياتكم اليوميّة»، و«توحيد بلادنا»، قد تبدو هذه وعودا مُسكّنة، لكنّ الناخبين استقبلوها بصدر رحب بعدما أنهكهم 14 عاما من الدراما والاختلال الوظيفي لحزب المحافظين، والتي أدت إلى خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي والركود الاقتصادي.

وتشير التجربة البريطانية إلى أن أفضل علاج للشعبوية ربما يكون بكل بساطة السماح للشعبويين بالحكم أولا، ثم إظهار فشلهم في الحكم. وحتى حزب المحافظين انقلب في نهاية المطاف على الشعبوي اللدود بوريس جونسون، الذي كان رئيسا للوزراء من عام 2019 إلى عام 2022، الذي فقد مصداقيته بكذبه وعدم كفاءته. ولم يتمكن الذين أتوا من بعده ، ليز تروس وريشي سوناك، من إنقاذ سمعة حزب المحافظين المفقودة منذ فترة طويلة كحزب حاكم جاد في حكمه.

وبالنظر إلى أن فترة ولاية ترامب كانت أكثر كارثية بكثير من فترة ولاية جونسون، وجب على الديمقراطيين أن يكونوا قادرين على التغلب عليه مرة أخرى من خلال الإعلان عن وسطيتهم وكفاءتهم، كما فعلوا في عام 2020. وبدلا من ذلك، فإن الديمقراطيين مثقلون بمرشح يقول 74% من الأمريكيين أنّ عمره أكبر من أن يحكم فترة رئاسيّة أخرى. لا يزال الديمقراطيون في عهد بايدن أكثر وسطية بكثير من الجمهوريين في عهد ترامب، لكن الديمقراطيين يعملون، من حيث يدرون أو لا يدرون، على الأقل في الوقت الحالي، على تشويه سمعتهم الطيبة بأنهم الحزب الأكثر قدرة على الحكم.

الدرس الثالث المستفاد من الانتخابات الأخيرة يتعلق بقوة الرسالة المناهضة للمسؤولين في السلطة الذين يحكمون عالما لا يزال يعاني من نمو اقتصادي راكد، واتساع فجوة التفاوت في الدخل، وارتفاع معدلات الهجرة الدولية، والأثر المتبقي للتضخم. ومن السهل تضخيم السخط والاستياء الشعبيين عن طريق وسائل التواصل الاجتماعي فيستغله القادة الشعبويون.

واجه كل من سوناك وماكرون رفضا كبيرا في صناديق الاقتراع، حتى لو تمكن حزب ماكرون من الحصول على المركز الثاني في التصويت النهائي. ويبدو أن هذا يعزز الدروس المستفادة من الانتخابات الأخيرة في الهند وجنوب أفريقيا، إذ واجه الزعماء الحاكمون حاليا أيضا انتكاسات انتخابية، الأمر الذي اضطرهم إلى تشكيل ائتلافات مع أحزاب أخرى.

وقد وجد استطلاع للرأي أجراه مركز بيو للأبحاث هذا العام في 12 دولة ذات دخل مرتفع أن 64% من المشاركين كانوا غير راضين عن الطريقة التي تعمل بها الديمقراطية. وهذا تحول كبير نحو الأسوأ منذ عام 2021، عندما كان 52% غير راضين، ووجد هذا الاستطلاع أن نسبة الرضا أقل في الولايات المتحدة (31 في المائة فقط) منها في بريطانيا (39 في المائة) أو فرنسا (35 في المائة).

كان ينبغي أن يكون ذلك بمثابة ضوء أحمر وامض لحملة بايدن هذا العام حتى قبل كارثة مناظرة الرئيس. وفي أعقاب المناظرة، يبدو من المرجح أن التيار المناهض للمسؤولين الكبار سيمتنع عن التصويت للديمقراطيين ما لم يتمكن الحزب من العثور على مرشح أكثر إلهاما، إما أن تكون نائبة الرئيس هاريس أو حتى شخصا أفضل منها، حاكما أو عضوا في مجلس الشيوخ لا يرتبط بالإدارة الحالية.

أما الدرس الانتخابي الأخير فيكمن في أهمية قبول المرشحين الخاسرين للنتيجة في ظل نظام ديمقراطي. وتعد بريطانيا نموذجا في هذا الصدد، فبعد وقت قصير من إدراك سوناك أنه سيفقد منصبه، خاطب الشعب قائلا: «اليوم ستنتقل السلطة بطريقة سلمية ومنظمة، مع حسن نية من جميع الأطراف». وقال جيريمي هانت عند تركه منصبه وزير المالية: «لا تحزنوا، هذا هو سحر الديمقراطية»، وهذه هي الطريقة التي تعزز بها الدولة ديمقراطيتها، وعلى النقيض من ذلك، ألقى جوردان بارديلا، رئيس حزب التجمع الوطني البالغ من العمر 28 عاما، باللوم في هزيمة حزبه على «تحالف العار والترتيبات الانتخابية الخطيرة». ويذهب ترامب إلى ما هو أبعد من بارديلا، فهو لم يقبل حتى الآن نتيجة انتخابات 2020، وأوضح أنه، إن خسر انتخابات 2024، فمن غير المرجح أن يقبل النتيجة أيضا.

وبالتالي، يفشل ترامب في الاختبار الأساسي للقيادة الديمقراطية، إذا أظهر الجمهوريون قدرا أكبر من الإخلاص للديمقراطية الأمريكية، فسوف يتبرأون من ترامب، ولكنهم لم يفعلوا ذلك، ولهذا السبب فإن خطر استيلاء اليمين المتطرف على السلطة، والذي استطاعت فرنسا تجنّبه للتّو، يلوح في الأفق في الولايات المتحدة الأمريكيّة في نوفمبر المقبل.

*ماكس بوت كاتب عمود في صحيفة واشنطن بوست، وزميل في مجلس العلاقات الخارجية. وصل إلى نهائيات جائزة بوليتزر في فرع كتابة السيرة الذاتية، وهو مؤلف كتاب «ريغان: حياته وأسطورته» الذي سيصدر قريبا.


10/07/2024